يحتفظ التونسيون بتقاليد قديمة في الاحتفاء بالمناسبات الدينية المرتبطة بآل بيت الرسول محمد ومن بينها "عاشوراء" ، ذكرى مقتل الحسين حفيد الرسول في كربلاء، تمتزج فيها الطقوس الدينية مثل الصيام والاذكار، بالموروث الشعبي مثل ايقاد النيران والقفز فوقها وإعداد أطباق من الأطعمة والفواكه الجافة وتبرج النساء بالكحل والحناء.
لكن على خلاف تلك العادات التي بدأت تتوارى داخل المجتمع التونسي بسبب التحولات الثقافية المعاصرة، تداول التونسيون في ذكرى هذا العام مقاطع فيديو يظهر فيها تونسيون يقدمون أنفسهم كمنتسبين للأقلية الشيعية في مراسم التحضير لاحتفالية تتضمن سلوكيات مشابهة للطقوس الشائعة في العتبات المقدسة في العراق ومناطق أخرى تدين بالولاء الى مذهب الشيعة ، وهو أمر اثار جدلا وأسئلة حول حقيقة وجود أقلية شيعية رسمية منظمة في تونس التي تقدم نفسها رسميا كدولة مالكية سنية.
في مراسم التحضير بمقطع الفيديو المسرب، تتصدر صورة نمطية مجسدة للحسين على صهوة خيل، فوق سجاد معلق على جدار مغطى بالكامل بستار أسود. وعلى جدار آخر يظهر شعار كبير "يا حسين" مخطوط فوق رداء أحمر، بينما يرتدي متطوعون في تحضير مراسم الاحتفال قمصان تحمل على الأظهر عبارة "لبيك يا حسين". وفي مقطع الفيديو يظهر كذلك رئيس "مركز آل البيت للبحوث والدراسات"، أحمد سلمان كأحد الوجوه البارزة والنشطة للأقلية الشيعية بتونس.
أطلق متابعون على الاحتفالية "حسينية جديدة" في تونس. لم تتوفر لـDW عربية معلومات دقيقة ومفصلة عن موقع الاحتفالية كما لم يتنس التواصل مع "مركز ال البيت للبحوث والدراسات" رغم الاتصالات المتكررة، وهو أمر أضاف حالة من الغموض لدى الراي العام في غياب أي إعلان رسمي يصدر عن ممثلي هذه الأقلية، إن وجدت رسميا.
فهل تضم تونس فعلا أقلية شيعية بالمعنى المرادف للتعددية المذهبية؟
حتى اليوم تحمل مدينة المهدية لقب "عاصمة الفاطميين" صورة من: Tarek Guizani/DWالفاطميون في المهدية
بالعودة إلى مسألة التواجد التاريخي للشيعة في تونس ، فإن أغلب المصادر وبحوث المؤرخين، تربطه ببدايات تأسيس الدولة الفاطمية في مدينة المهدية الساحلية في القرن العاشر ميلادي قبل انتقال الخلافة إلى مصر وتأسيس القاهرة.
حتى اليوم تحمل مدينة المهدية لقب "عاصمة الفاطميين" في تونس لكن لا يعني ذلك تمركزا جغرافيا محددا لأتباع الشيعة. وتشير دراسة لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" المتخصصة في البحوث والدراسات الدينية، بشكل خاص إلى تواجد شيعي في مدن قابس وقفصة وقبلي في الجنوب بالإضافة إلى العاصمة والأحواز المحيطة بمدينة المهدية مثل الشابة وكركر ورجيش. كما تظهر بشكل متقطع فعاليات شيعية بشكل غير معلن في أماكن مغلقة عبر مقاطع تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يساعد هذا على توفير إحصائية دقيقة عن نسبة تمثيلية الأقلية الشيعية داخل النسيج المجتمعي التونسي.
وعلى السوشيال ميديا تنتشر صفحات لجمعيات مثل "جمعية أهل البيت الثقافية" في قابس جنوب تونس و"مركز أهل البيت للبحوث والدراسات" و"شبكة شيعة تونس الإعلامية" وغيرها من الجمعيات الثقافية، لكنها جميعا لم تنجح في استقطاب الكثير من المتابعين.
ومثل باقي القطاعات المرتبطة بالحريات. تمثل هذه الطفرة امتدادا لمسألة الأقليات الدينية والتعددية المذهبية التي طفت على السطح بعد ثورة 2011 التي أنهت الحكم الاستبدادي للرئيس الراحل زين العابدين بن علي. وغذى ذلك النقاش المستفيض بشأن مبدأ "حرية الضمير" و"الحق في ممارسة الشعائر الدينية" في الدستور الجديد عام 2014.
وفي مقابلة حصرية سابقة مع DW عربية كانت أكثر شكاوى أحمد سلمان رئيس "مركز أهل البيت للبحوث والدراسات"، هو الدعوة إلى الاعتراف القانوني والواقعي الصريح بتواجد أقلية الشيعة وبحقهم في ممارسة شعائرهم، بما في ذلك الحق في أن تكون لهم مؤسسات دينية ومجالس حسينية، تطبيقا لما جاء في الدستور.
وفيما يرتبط بمبررات عدم ظهور هذه الطائفة فيما مضى داخل المشهد التونسي، يلقي سلمان بالمسؤولية في ذلك على الدولة. ويرى أنه بغض النظر عن النقاش الدائر بشأن حقيقة أعداد اتباع الشيعة، فإنه يتعين على الدولة أن تضمن لهم حقوقهم الدينية.
صورة من: Tarek Guizani/DWتاريخ شائك
ارتبط بداية التواجد الشيعي في تونس بتاريخ شائك لم يخل من الصدام مع المجتمع المحلي السني. وحول ذلك يشير المؤرخ عبد الجليل بوقرة الذي ينحدر من مدينة القيروان العاصمة الأولى للإسلام في شمال افريقيا، لـDW عربية، أن الجزء الأكبر من التونسيين تاريخيا لم يتجاوبوا مع الشيعة الإسماعيلية الذين خيروا في البداية الابتعاد عن القيروان وتأسيس عاصمة جديدة "المهدية"، ثم في مرحلة ثانية انتقلوا إلى مصر وحملوا معهم حتى رفات مواتهم لإعادة دفنهم في عاصمتهم الجديدة القاهرة.
ويضيف المؤرخ في إفادته "بعد خروجهم إلى مصر تعرض الشيعة إلى عملية استئصال وإبادة جماعية في تونس مثلما يحصل حاليا في سوريا ما جعل الفاطميين ينتقمون بإرسال قبائل بني هلال إلى تونس وتخريب مدنها مثل مدينة القيروان".
وتنقل دراسة على موقع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" عن بعض الروايات التاريخية "إن محرز بن خلف سلطان المدينة العتيقة بالعاصمة (تونس) قام بذبح شيعتها عن بكرة أبيهم فيما يعرف بمجزرة 'بركة الدم'، وهو المكان الذي تحول اليوم إلى سوق البركة للذهب. ولم يكتف ابن خلف، وهو أحد كبار الأولياء الصالحين عند التونسيين، بهذه المجزرة، بل أسكن في منازل شيعة المدينة من الإسماعليين". وفق الرواية.
ردود الفعل المتحفظة حول جدل الشيعة وتاريخهم الشائك في تونس صدرت أيضا من الجمعية التونسية للأئمة التي نشرت بيانا موقعا من علماء وشيوخ تونسيون، حذروا من خلاله من "خلق طائفة موازية للمجتمع التونسي السني ومن تغيير في بنيته".
ولم تخل تلك التحفظات من تلميح إلى تأثيرات خارجية. ففي تقدير الجمعية، فإن الهدف من التشيع يتجاوز الحق في حرية المعتقد التي تضمنه التشريعات، إلى "إيجاد نفوذ بالتدريج على سيادة القرار في تونس"، وجعلها تابعة سياسيا "لدولة تصدر هذا المذهب عبر الدعاية له وتنفق الأموال بغاية احتلال الوطن بتغيير هوية أهله"، وهي إشارة مبطنة إلى النفوذ الإيراني في المنطقة العربية.
صدرت في السابق تعليقات حذرت من انتشار أنشطة شيعية في تونس تحت سلطة الرئيس قيس سعيد والدوائر القريبة منهصورة من: Tarek Guizani/DWنفوذ إيراني؟
يؤكد المؤرخ عبد الجليل بوقرة في تعليقه على هذه النقطة لـDW عربية، بأن "المحدد في مستقبل حضور أي مجموعة عقائدية أو سياسية هو المال والدعم السياسي الرسمي اللذان يوفران الحماية ويفتحان طريق التمدد والانتشار".
وليس واضحا بشكل قاطع ما إذا كان هذا الربط ينطبق على تونس. لكن صدرت في السابق تعليقات حذرت من انتشار أنشطة شيعية في تونس تحت سلطة الرئيس قيس سعيد والدوائر القريبة منه بما في ذلك شقيقه ومدير حملته الانتخابية نوفل سعيد، أبرزها جاءت من عبد الرزاق الخلولي رئيس المكتب السياسي في "حراك 25 يوليو" الداعم لقيس سعيد، ومن المفكر والسياسي المعارض القيادي السابق بحزب حركة النهضة الإسلامية، أبو يعرب المرزوقي.
يعتبر المرزوقي أن إيران أكثر خطورة على المنطقة العربية بما في ذلك تونس، من إسرائيل. ووجه لها اتهامات صريحة بالتواطئ ضد الدول العربية وضد العراق عند الاجتياح الامريكي. وصرح في تحليل له على قناة "الزيتونة" من أنه إذا تواصل الأمر على الوتيرة نفسها اليوم فإن "تونس قد تصبح قريبا مكانا لغسل أرجل الحجيج إلى المهدية"، في إشارة الى مهد الدولة الفاطمية.
وجاء التحذير أيضا من عميد كلية الحقوق في تونس الصادق بلعيد، أحد رجال القانون الذي ترأس لجنة صياغة الدستور بتكليف من الرئيس قيس سعيد بعد إعلانه التدابير الاستثنائية في 25 تموز/يوليو عام 2021، قبل أن يدخل عليه سعيد تعديلات عززت من صلاحياته بشكل كبير وعرضه على الاستفتاء الشعبي.
بلعيد الذي لم يستبعد عودة الشيعة الى تونس بعد ألف عام من رحيلهم إلى القاهرة ومن نفوذ محتمل للإيرانيين، محذرا من محاولات تغيير جذرية للهوية الثقافية التونسية.
على الرغم من التلميحات المتكررة لم تصدر تعليقات رسمية من السلطة بشأن الروابط الخارجية المحتملة وعلاقة ذلك بتوسع الحضور الشيعي العلني، لا سيما مع تواتر أنشطة ثقافية ومؤتمرات ذات صلة بإيران.
"الدولة تضمن حرية الضمير"
يقر الفصل الخامس من الدستور الذي خطه الرئيس سعيد واعتمد رسميا بعد عرضه على الاستفتاء الشعبي في 2022، بأن "تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل في ظل نظام ديمقراطي، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض، والمال، والدين والحرية".
كما يشير الفصل السابع والعشرون إلى ان "الدولة تضمن حرية المعتقد وحرية الضمير"، دون أن تكون هناك إشارة الى المذهب الرسمي للدولة، وهو ما يفتح الباب للتعددية المذهبية بشريعة دستورية تحت يافطة الحرية الدينية.
على الجهة المقابلة قلل بعض النقاد المتابعين للمسالة في تونس، من وجود مخاطر خلف التوسع الشيعي على الهوية الوطنية والدينية بحجة نبذ الاقصاء وحماية التنوع والاختلاف.
وكتب الناقد الصحفي والمحلل السياسي بوبكر الصغير، أن بيان علماء تونس يعكس، دون شك، قلقا حقيقيا حول تحولات دينية غير تقليدية قد تؤثر على توازن المجتمع، ولكن الاستجابة العقلانية لذلك لا تكون بإغلاق الفضاء الديني أو شيطنة كل مختلف، بل بترسيخ قيم المواطنة، وتعزيز الثقافة الدينية الوسطية، وتشجيع الحوار بين المذاهب تحت مظلة الدولة.
مع ذلك يرى بوبكر في تحليله، أنه من واجب الدولة، وليس الأفراد أو الجمعيات، التحقيق والتدقيق إذا ما ثبت وجود تمويل خارجي أو أجندات سياسية تسعى لتغيير ملامح الهوية التونسية أو التأثير على السيادة.
تحرير: هشام الدريوش