في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في حضرة الشعر، لا تُطرح الأسئلة بحثا عن إجابات جاهزة، بل لإزاحة الستائر عن العوالم الداخلية التي تشكلها التجربة والذاكرة والرؤية. ومع شاعر مثل غسان زقطان، تتخذ الأسئلة نبرة تأمل، إذ لا ينفصل قوله عن نصه، ولا تجربته عن تحولات المكان والشتات والقصيدة.
وغسان زقطان هو شاعر وروائي فلسطيني ولد في بيت جالا عام 1954، ويعد من أبرز الأصوات الشعرية في فلسطين والعالم العربي. تنقلت حياته بين الوطن والمنافي، فكتب من دمشق وتونس وبيروت ورام الله، وصاغ تجربة شعرية خاصة، تمزج بين تأمل الذات والتصاقها بالمكان، وتجعل من التفاصيل واليومي ركيزة في مواجهة الفقد والمنفى.
تميز صاحب "غرباء بمعاطف خفيفة" بلغة شعرية شفيفة، تنفذ إلى المعنى بخفة ورهافة، وتترك أثرا دون أن تفرض نفسها على القارئ. وتتراوح تجربة زقطان الشعرية بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، دون أن يفقد توازنه أو صوته المتفرد. ترجمت أعماله إلى لغات عدة، وحاز على جوائز أدبية مرموقة، منها جائزة غريفن للشعر العالمي عام 2013. وإلى جانب الشعر، كتب الرواية والمسرح، وأسهم في الحياة الثقافية الفلسطينية من خلال عمله في مؤسسات ثقافية ومجلات، أبرزها مجلة "الكرمل".
وفي هذا الحوار النادر للجزيرة نت، ينفتح غسان زقطان على أسئلة الشعر والمنفى، كما ينظر بعين الصائغ إلى الجمر الذي احتضن صوته عبر عقود. يذهب بنا إلى البذرة الأولى، إلى كوبر، حيث نشأ المكان كشريك في القصيدة، وحيث تحولت الحديقة إلى كتاب، والنوافذ إلى إشارات تؤثث النص. لا يستعيد هنا "نقائض الحنين"، بل يعيد تأملها في مرايا التجربة التي قادته من الشعر الشعبي إلى كتابة السرد دون خيانة للشعر أو تبرؤ منه.
يناقش زقطان العلاقة المعقدة بين قصيدة التفعيلة والنثر، لا كمنفصلين، بل كجريان متصل في تيار واحد، ويرى في "العودة الناقصة" إلى غزة استكمالا للمنفى بصيغة أخرى، تتلبسها الخسارة ويتقد فيها الحنين.
رفقته مع محمود درويش، كما يروي، لم تكن مجرد ظل أو صحبة شاعرية، بل إقامة داخل كتاب الحياة، إصغاء حكيم إلى حركة الناس، ومعرفة تهدي لا إلى البلاغة فحسب، بل إلى المعنى المتخفي.
هنا يظهر زقطان أيضا كشاهد شفيف على "أبناء جيله"، في تجربة الثمانينيات الشعرية الفلسطينية والعربية، حين نزل الشعر إلى الشارع، وحين كتبوا بأدوات فردية وموسيقى داخلية عن الخسارة، عن العاديات، عن الحنين الذي لا يصدر عن ذاكرة السياسي، بل عن ضوء البيت ونداء الأم وحنين الغائب.
ویبدو غسان زقطان هنا كما لم يُرَ من قبل: يتحدث عن زهير شقيقه، وكأنه يعيد رسم الغياب على صفحة الحضور، يتأمل مكتبته كما يتأمل النافذة، يرى في الترجمة عبورا لا للقصيدة فقط، بل للوجدان الذي كتبه ذات عزلة.
لذا، هنا لا يحكي الشاعر فقط عن الشعر، بل عن الحياة كما رآها وعاشها: بالقصيدة، وبالصمت، وبالأصدقاء الذين تنمو أشجارهم في الحديقة. فإلى الحوار:
هل أستطيع أن أقول إنني بدأت دون قصد؟ يبدو هذا صحيحا الآن. لم أقصد أن أكون شاعرا، ولا أظن أن الأمر يحدث على هذا النحو. الشعر يحدث إلى جانب شؤون أخرى، عادات وأنماط تتراكم لتشكل في النهاية الحياة نفسها. لم تكن لدي خطة، يا محيي، وليس لدي الآن، ولا تتشابه البدايات.
أنا أحب أن أكتب الشعر، هكذا ببساطة. بدأت بكتابة الشعر الشعبي، بدا لي ذلك كافيا في حينه. أخذتني عبقرية المحكية وحساسيتها التي تدور في جنبات الحياة بعدالة عميقة. كتبت مبكرا جدا للمسرح. كنت أكتب ما أحتاجه، وما زلت. أكتب ما يكفيني، ولكنني أنطلق في ذلك من حياتي: من الطريق، والبيت، والسوق، والمقهى، وحسبة الخضار… حيث تندمج حياتي بحيوات الناس والأمكنة في مجرى متدفق وعظيم.
المكان مهم بالنسبة لي؛ الأصوات، والروائح، والضوء، والعناصر التي تتشارك لتجعل من أي بقعة مكانا. حياتي هي الحيز الأكبر لهذه الأمكنة، وهي المختبر لكتابة الشعر. الشعر بالنسبة لي حاجة
المكان مهم بالنسبة لي؛ الأصوات، والروائح، والضوء، والعناصر التي تتشارك لتجعل من أي بقعة مكانا. حياتي هي الحيز الأكبر لهذه الأمكنة، وهي المختبر لكتابة الشعر. الشعر بالنسبة لي حاجة.
حسنا، ولدت في بيت فيه مكتبة، مكتبة كانت تحتل مساحة مستقلة لا تقل عن المساحة التي نعيش فيها كأسرة، وكانت تنتقل معنا من مخيم إلى مخيم كما لو أنها الابن البكر، عالم مواز يتراكم في غرفة أشبه بصندوق أسرار. ولكنها، الكتب، كانت جزءا من العائلة. كان أبي شاعرا تقليديا، ولكن مكتبته لم تكن تقليدية. أتذكر رفا طويلا من أجزاء كتاب "الأغاني"، إلى جوار مجلة "شعر" البيروتية، إلى أشعار باسترناك الملحقة بروايته "دكتور زيفاكو" بطبعة لبنانية، إلى "الميثولوجيا السورية" في عدة أجزاء، وكراس غلافه صورة لأنطون سعادة. أصدقاؤه أيضا لم يكونوا تقليديين، كانوا خليطا من الشعراء، والكتاب، والنشطاء السياسيين، والمزارعين، ولاعبي النرد.
تجولت بأسماء كثيرة، ولكنني كتبت باسمي. كان منفاي كريما، منحني الكثير من المعرفة والألفة: دمشق، تونس، بيروت، موسكو، قبرص… وصولا إلى صحراء سيئون في اليمن . عندما وصلت غزة في (يوليو) تموز عام 1994، كان منفاي معي كاملا، يمدني بقوة المعرفة وأدواتها. حمولة المنفى كانت وسيلتي للتعرف على بلادي.
في النصف الثاني من يوليو/تموز، صيف 1994، كان المنفى هو التجربة الوحيدة لنا، نحن الذين وصلنا غزة عن طريق معبر رفح . معظمنا ولد بعد النكبة لأمهات وآباء منفيين. حتى فكرة "الحنين" لم تكن لنا، كانت ملكهم، وقادمة من ذكرياتهم بعد تنظيفها من الألم. كان الحنين كيانا ينمو إلى جانبهم في مخيمات اللجوء ومشقة العيش، وكانوا يواصلون رعايته وتنقيته، كما لو أنهم زرعوا ذكرياتهم في أصص ووضعوها على مداخل بيوتهم ونوافذها في المنفى.
كانت تلك "عودة ناقصة" لوطن لم يكتمل ولم يتخلص من الاحتلال، ما منحه شبهة المنفى الأخير. لقد تعززت الخسارة في تلك العودة، وبدا كل شيء نهائيا، وكان علي أن أحصر هذا "الحنين" في مساحة صغيرة ومحاصرة، بينما بقية البلاد تنأى خارج الأحلام.
في السنوات الأولى لتلك العودة، كان المنفى يقودني، وبدا أنني أبحث عنه في الوطن.
الأشكال لا تستنفد، ولكنها تواصل حضورها وحركتها وتطوير تنوعها. هي اقتراحات تنبع من جوهر الشعر وعلاقاته بزمنه ومحيطه، إشارات تنشأ مع تطور العصر وطرائق التعبير وتطور اللغة، ولكنها لا تذهب إلى السكون أو العتمة. الأشكال تتغذى على تدفق الزمن وحيوية اللغة، ولكنها أيضا تستمد حضورها من الذائقة.
الذائقة التي يعكسها الوعي بتنوعها المدهش، هي ما يمنحها الحياة. لا يعني اقتراح شكل جديد موت الشكل الآخر، بقدر ما يعني فضاء لشعر لم يقل بعد، أو يمكن أن يقال بطريقة أخرى. حتى في داخل الأشكال، هناك حركة دائمة واقتراحات جديدة، عابرة لحدود الأشكال. الأمر أكثر تعقيدا وأعمق.
أنا أتعامل مع المنجز الحداثي بصفته امتدادا لخبرة اللغة العربية مع الشعر، وهي خبرة مذهلة لو تأملتها، وليس بديلا لهذه الخبرة.
أنا أتعامل مع المنجز الحداثي بصفته امتدادا لخبرة اللغة العربية مع الشعر، وهي خبرة مذهلة لو تأملتها، وليس بديلا لهذه الخبرة.
مدونة الشعر العربي القديم، بتنوعها، ما زالت قادرة على تأثيث النصوص الحداثية وإغنائها. وسيكون من السطحية والجهل حبسها في قوافي العمود. التكنيك كان غنيا ومدهشا، المكان كان واضحا وقادرا على التنفس، السرد المتنوع داخل القصيدة الواحدة، والمبني بمهارات تتنقل من الغزل إلى وصف المكان وإعادة إنتاجه، إلى الطريق، إلى القصد… ما نحتاجه هو القطيعة مع القراءة الساذجة والسطحية لهذا الإرث، وليس القطيعة معه.
دائما ما أنظر بدهشة إلى قوة السرد في القصيدة العربية، من امرئ القيس، إلى المنخل، والأعشى، وطرفة، والشنفرى، إلى آخر هذه الكوكبة المذهلة والملهمة. ليس من الحكمة وضع خط للحداثة يقصي ما قبله. هذه خسارة.
لم أنظر يوما إلى "الرواد" كآباء مؤسسين، ولا أجد لهم أثرا عميقا فيما أكتب. الحقيقة أنني قرأتهم متأخرا، ولا أدين لهم بالكثير. مرة قلت في حوار قديم: إن آبائي هم أبناء جيلي.
مدونة الشعر العربي القديم، بتنوعها، ما زالت قادرة على تأثيث النصوص الحداثية وإغنائها. وسيكون من السطحية والجهل حبسها في قوافي العمود. التكنيك كان غنيا ومدهشا، المكان كان واضحا وقادرا على التنفس، السرد المتنوع داخل القصيدة الواحدة، والمبني بمهارات تتنقل من الغزل إلى وصف المكان وإعادة إنتاجه، إلى الطريق، إلى القصد… ما نحتاجه هو القطيعة مع القراءة الساذجة والسطحية لهذا الإرث، وليس القطيعة معه.
دائما ما أنظر بدهشة إلى قوة السرد في القصيدة العربية، من امرئ القيس، إلى المنخل، والأعشى، وطرفة، والشنفرى، إلى آخر هذه الكوكبة المذهلة والملهمة. ليس من الحكمة وضع خط للحداثة يقصي ما قبله. هذه خسارة.
لم أنظر يوما إلى "الرواد" كآباء مؤسسين، ولا أجد لهم أثرا عميقا فيما أكتب. الحقيقة أنني قرأتهم متأخرا، ولا أدين لهم بالكثير. مرة قلت في حوار قديم: إن آبائي هم أبناء جيلي.
أضع صداقتي مع محمود في سلة الحظ وحسن الطالع، في جدول النعم التي حظيت بها حياتي. صداقة منحتني الكثير من كل شيء. أنظر إلى تلك السنوات كما لو أنها إقامة طويلة في كتاب سحري.
كنت كتبت في حفل تسلمي لجائزة محمود درويش شيئا حول هذا، مثل أنك لا تتعلم الشعر مع محمود، ولكنك تهتدي إلى حكمة الإصغاء: الإصغاء إلى الحياة، وحركة الناس، والكائنات، والإصغاء إلى الكتابة.
الآن سأقتبس ما يمكن أن يلامس السؤال من كلمة ألقيتها في تلك الأمسية:
"من هنا تبدو تلك الرفقة وحواراتها غير المنتهية؛ النصائح الصغيرة المتخفية في طيات الكلام، التأمل في الحياة وغايات اليوم ودأب الناس، البلاد بزمنها كاملا وجغرافيتها كاملة. الاحتلال وأقنعة الفاشي وذراعه. كيف يصبح المنفى ثقافة، وينهض سؤال الطريق والبيت. المقاومة كضرورة أخلاقية، المقاومة غنيمتنا النبيلة التي انتزعناها من التاريخ.
اندفاع الأشكال، والبحث عن وصفة التوحيدي، والمشي على رؤوس الأصابع كي لا يجفل الحصان الوحيد في مرثية ابن الريب، السؤال الصباحي عن شاعر شاب في القدس، الغارة الليلية على الشجاعية … عبء الأمل، والضجر من السياسيين، الضجر الشديد من السياسيين".
التقيت بـ"الكرمل" قبل لقائي بمحمود. كانت صفحاتها، بالنسبة لجيلنا، النافذة الأرحب والأهم. أتحدث عن جيل الثمانينيات. نصوصنا كانت ممتلئة إلى حوافها بالتمرد. كان هناك عدم رضا عن كل شيء: الشعر السائد، الأشكال، سطوة الحيل البلاغية، هيمنة الاقتراح السياسي على النص، المواضيع والأفكار الكبيرة… ولم يكن تقبّل المؤسسة الثقافية والسياسية لمثل هذا التمرد سهلا. كان احتجاجا داخل ثورة تضخ أحلاما كبيرة، كان حركة معارضة للمتداول والسائد الثقافي والخطاب السياسي، في سياق حركة شعرية شابة تجاوزت المشهد الفلسطيني إلى المحيط العربي.
لطالما اعتبرت تأثير جيل الثمانينيات الفلسطيني/العربي أقرب إلى تأثير ما سمي بجيل "27" في إسبانيا، الذي نقل الشعر إلى الشارع والحياة اليومية وعاديات الناس وغاياتهم البسيطة. بيروت السبعينيات ومطلع الثمانينيات ساهمت في هذا الاحتجاج أيضا، بما قدمته من جدل ثقافي وتجارب واقتراحات، ومن خلال تأثير منابر وشعراء مثل شوقي أبي شقرا في "ملحق النهار" الذي فتح الباب للتجارب الجديدة.
لطالما اعتبرت تأثير جيل الثمانينيات الفلسطيني/العربي أقرب إلى تأثير ما سمي بجيل "27" في إسبانيا، الذي نقل الشعر إلى الشارع والحياة اليومية وعاديات الناس وغاياتهم البسيطة. بيروت السبعينيات ومطلع الثمانينيات ساهمت في هذا الاحتجاج أيضا، بما قدمته من جدل ثقافي وتجارب واقتراحات، ومن خلال تأثير منابر وشعراء مثل شوقي أبي شقرا في "ملحق النهار" الذي فتح الباب للتجارب الجديدة.
أنا من جيل من الشعراء العرب يطلق عليهم "جيل الثمانينيات"، قبيلة ظهرت من البحرين إلى المغرب مرورا بمصر والشام والعراق . تحدثنا عن الخسارة بآلات فردية وأصوات خفيضة. وبينما كانوا يواصلون النفخ في النحاسيات والطبول في السبعينيات خلفنا، كنا نجلس مع الناس وخساراتهم والعاديات البسيطة، والسعادة الصغيرة التي تنبت في الضواحي والهوامش. وبينما كانوا يصغون بطاعة تامة للخطباء السياسيين، كنا نتبع الجمال القادم من أصوات الدلالين، والباعة، وندل المقاهي، ونداء الأمهات على أولادهن لتناول العشاء.
الخسارة، بجوهرها الإنساني، كانت من مصادرنا. كنا نملك شجاعة رثاء الثورة.
محمود درويش فتح "الكرمل" لهذه المغامرة، ودعم، بولاء الشاعر للشعر، هذه التجربة، ومنحها المنبر الثقافي الأهم والأكثر تأثيرا في المشهد الثقافي العربي، في مواجهة منابر السلطة ومخيلة السياسي وبلاغة الثقافي. ببساطة، قدم اعتراضنا عليه، ولكنه قرأ هذا الاعتراض بعمق، وأضافه إلى تجربته المدهشة العابرة للتجارب، ومنح هذا الاعتراض مقعدا في القاعة المحرمة، ومنح "الكرمل" ذلك الدور الطليعي الذي احتفظت به حتى توقفت في رام الله .
عندما تكون اللغة هي المادة الخام للعمل، فأنت تتحرك في نفس الحقل. دعني أولا أقول إن العمل السردي الأول الذي كتبته كان في العام 1990، بعنوان "سماء خفيفة"، والثاني "وصف الماضي" بعد ذلك بثلاث سنوات، أي قبل الاندفاعة التي تحولت إلى ظاهرة.
لم يكتنفني أي شعور بأنني أمشي في أرض غريبة. كنت هنا قبل ذلك. ولعل العلاقة مع الشعر شكلت تمرينا أساسيا في تجربة السرد ومهاراته، كما سيتحول السرد، فيما بعد، إلى طاقة جمالية في الشعر. لا أتعامل مع الأمر كما لو أنه خروج عن الشعر، بقدر ما أراه تمرينا مزدوجا يغني التجربة.
لا أتذكر أن كانت لدي خطة لكتابة "رواية". وعندما كتبتها، فعلت ذلك بشروط تجربتي وأدواتها، أي قبل أن يصبح الأمر ظاهرة. من جيلي من الشعراء الفلسطينيين كتبها مبكرا زكريا محمد في تسعينيات القرن الماضي، إبراهيم نصر الله، كذلك الراحل أمجد ناصر، وخالد درويش. أن يكتب الشاعر رواية أمر سائد في الحقيقة: من أراغون، إلى كازنتزاكيس، إلى فيكتور هوغو…
ولكن ثمة ما يمكن أن يقال في أسباب بعض من شاركوا في هذه الظاهرة، مثل: البحث عن جمهور، أو التسرع وقصر النفس، أو السعي خلف جائزة. أما إنكار الشعر، فلا شك أنه نابع من فقر الموهبة والافتقار إلى الوفاء.
كوبر بلدة تلّية تقع شمال رام الله. كانت اختيارا جماعيا لعدد من العائدين من المنافي ضمن "اتفاقيات أوسلو". معظم المجموعة كانت تعمل في الإعلام والثقافة والفنون في إطار منظمة التحرير. الجبل كان مهددا من قبل المستوطنين في حينه. أتحدث عن النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. دعم الرئيس ياسر عرفات المشروع عبر تسهيلات على شكل قروض ميسرة، ووقَف القائد مروان البرغوثي، وهو أحد أبناء البلدة وتمتلك عائلته أرضا مجاورة للمشروع، بقوة إلى جانب الفكرة وأسهم في نجاحها
كوبر بلدة تلّية تقع شمال رام الله. كانت اختيارا جماعيا لعدد من العائدين من المنافي ضمن "اتفاقيات أوسلو". معظم المجموعة كانت تعمل في الإعلام والثقافة والفنون في إطار منظمة التحرير. الجبل كان مهددا من قبل المستوطنين في حينه. أتحدث عن النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. دعم الرئيس ياسر عرفات المشروع عبر تسهيلات على شكل قروض ميسرة، ووقَف القائد مروان البرغوثي، وهو أحد أبناء البلدة وتمتلك عائلته أرضا مجاورة للمشروع، بقوة إلى جانب الفكرة وأسهم في نجاحها.
ستتبدل الظروف، وسيغادر البعض إلى مناطق أخرى، وسيعتقَل مروان، ولكن التل الكبير واصل بقاءه، وبقي مطلا على كروم الزيتون والبحر والساحل.
كوبر هو بيت كتابة وقراءة. زرعت في حديقته أشجارا بأسماء أصدقائي. اختاروا أشجارهم، وهي هناك الآن تحمل أسماءهم وتنمو وراء الشبابيك.
علاقتي بزهير كانت دائما خاصة، وقد أخذت في العقدين الأخيرين شكل الحوار المتصل. أنظر إلى الأمر الآن، بعد رحيله المفاجئ، على أنه كان سعيا غير مقصود لإعادة بناء الذاكرة، وإخراجها من الأبيض والأسود نحو شبكة ملونة من الذكريات والأحلام.
زهير شاعر خاص، ولعل خصوصيته تكمن، في جانب منها، في زهده النقي، وعدم احتفائه بالأضواء. لقد استطاع أن يهتدي إلى تلك العزلة المثمرة التي تطل على الحياة نفسها. كان يسألني، كما تسألني الآن، عن البيت في كوبر، والحديقة، وعن مشهد البحر وراء التلال، وعن النافذة الأقرب إلي في المنزل وإطلالتها. كان معنيا بذلك. كان يتوقف دائما عند سؤال النافذة.
لا أستطيع أن أتذكر زهير بعيدا عن مكتبته التي تشبهه. مكتبته لا تشبه مكتبتي. مكتبته تمنح مساحات واسعة، إضافة إلى الأدب، لرفوف الفلسفة، والتصوف، ونظريات علم النفس، وقراءات في ثقافات الحضارات، وقراءة الموت والحياة في الديانات والمذاهب وميثولوجيا الشعوب… مكتبتي تشبه مكتبة أبي، وتمنح نظريات الأدب معظم مساحتها.
قبل أسابيع، قمت بمراجعة مخطوطته الشعرية التي ستصدر عن "سلسلة الإبداع العربي" في مصر. فكرت، وأنا أقرأ نصوص المجموعة، أن هذا يشبه زهير: وقفته، وزاوية قراءته للأشياء، صيد الذكريات ومنحها مستقبلا، والبحث عن وحدة الوجود في الإشارات، كتابة جملة طويلة، عابرة للوعي، من مكونات تبدو مختلفة، قبل أن تتشكل فيما يشبه توافقا كونيا.
شغفه الخاص في تأثيث الممر بين الحياة والموت بالنور، حيث يتحاور ابن الفارض ويونغ وراهب بوذي كان هنا للتو، بينما هو في رحبة من المكان يتذكر مستقبله.
أفتح صفحات كتابه في كوبر، أمام التلال التي لم يرها، أمام النافذة التي سألني عنها، في البيت الذي لم يزره.
أقرأ النصوص وأرى ذكرياتي.
المترجم في الأدب ليس ناقلا محايدا أو عاملا تقنيا، بل هو شريك كامل في رحلة النص ووصوله إلى اللغة الأخرى.
لا أظن أن الترجمة بحد ذاتها تشكل معيارا للنجاح. الأهم هو ما الذي سيحدث بعد الترجمة: كيف وصل النص إلى اللغة الأخرى؟ قدرته على بناء صلة مع الذائقة الأخرى، ذائقة تشكلت بعيدا عن بيئة الكتابة باللغة الأصلية؟ هل احتفظ بمناطق مشتركة؟ الأمر هو: كيف ستحدث القراءة؟ الأمر متعلق إلى حد بعيد بالمترجم نفسه: لغته، وحساسيته، وقدرته على قراءة النص بمستوياته المتعددة.
أنا كنت محظوظا بمبادرة شاعر ومترجم مثل فادي جودة لترجمة المختارات عن جامعة "ييل"، ثم مختارات ثانية عن "كوبر كانيون". وهو ما حدث مع "روبن موغر"، الذي ترجم مختارات شعرية لدار "سيغل"، كما ستصدر ترجمته للمجموعة الأخيرة مترافقة مع الطبعة العربية عن دار "المتوسط".
في السرد، قام "سام وايلدر" بترجمة جميلة لمعظم الأعمال. المترجم في الأدب ليس ناقلا محايدا أو عاملا تقنيا، بل هو شريك كامل في رحلة النص ووصوله إلى اللغة الأخرى.