في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في باحة ضريح صلاح الدين الأيوبي بدمشق، يرقد ثلاثة من روّاد الطيران العثمانيين: صادق بك وفتحي بك ونوري بك، الذين شاركوا في رحلة قامت بها خمس طائرات عثمانية بهدف رفع الروح المعنوية للجيش، وجمع تبرعات لتطوير الطيران.
شمل مسار الرحلة الممتد لأكثر من 2500 كلم، مدن: إسطنبول، إسكي شهير، أفيون قره حصار، قونية، أضنة، حلب، حمص، بيروت، دمشق، القدس، العريش، بورسعيد، القاهرة، والإسكندرية.
وبدأت الرحلة في 8 فبراير/شباط 1914، ولكن في الشهر ذاته تحطمت الطائرة التي قادها فتحي وصادق بك في قرية كفر حارب بالجولان قرب بحيرة طبريا ، بينما سقطت طائرة نوري بك لاحقًا في البحر قبالة سواحل يافا ، ليُدفن الثلاثة إلى جوار صلاح الدين، في رسالة بأن العسكرية العثمانية تمثل امتدادا للعسكرية الإسلامية.
وخلال أكثر من قرن، مر سلاح الجو التركي بتطورات متنوعة، وبرزت احتياجات متعددة، وواجه عقبات متتالية، ومؤخرا برز ملف بيع طائرات أميركية لأنقرة على طاولة المباحثات في البيت الأبيض، إذ ناقشه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الأميركي دونالد ترامب في سبتمبر/أيلول 2025.
يروي كتاب "الفرسان الطائرون"، وهو من أقدم المصادر المنشورة في تاريخ الطيران العسكري التركي، قصة نشأة صناعة الطائرات في تركيا، والعقبات التي أجهضت محاولات التصنيع الأولى، والتي شكّلت محور اهتمام الدولة العثمانية .
فحين استخدم الإيطاليون الطائرات لأول مرة في القتال بحرب طرابلس في ليبيا عام 1911، أدرك العثمانيون أهمية السيطرة على الجو في المعارك، فأسسوا أولى مدارس الطيران في "يشيلكوي" عام 1912، وبدؤوا بإيفاد بعثات إلى أوروبا لتعلم الطيران وصناعته، كما أطلقوا حملة شعبية لجمع تبرعات مخصصة لشراء طائرات.
وبالفعل اشتروا طائرتين من فرنسا، وقاد إحداهما فيسا بك في عام 1912، ليصبح أول طيار عثماني يطير بطائرة في سماء تركيا.
استخدم العثمانيون الطائرات في حرب البلقان (1912-1913) التي اندلعت إثر هجوم شنته بلغاريا واليونان والجبل الأسود وصربيا على الجيش العثماني. وعند الانسحاب، أحرق الطيارون الأتراك طائراتهم لمنع وقوعها في أيدي الأعداء، وانسحب فيسا ورفاقه إلى إزمير على متن سفينة إغاثة أرسلها الأمير المصري عمر طوسون.
أجهضت الحرب العالمية الأولى الطموح العثماني الناشئ في مجال الطيران، بل انتهت الحرب بتفكيك الدولة العثمانية ذاتها، في حين ظل حلم صناعة الطائرات يراود قادة الجمهورية التركية الجديدة، التي وُلدت من رحم الصراع مع الدول الأوروبية التي احتلت أجزاء من البلاد.
دُشنت في عام 1925 جمعية الطائرات التركية، وأعلن أتاتورك في حفل الافتتاح أن "المستقبل في السماء، لأن الدول التي لا تستطيع حماية سمائها لا يمكنها التأكد من مستقبلها".
وبدأت خطوات شملت افتتاح مدرسة مدنية لتدريب الطيارين، وتدريب المهندسين على إجراء فحوصات الديناميكا الهوائية والمواد وتشخيص أعطال المحركات، وبُني مختبر خاص للطائرات، وافتُتحت نوادٍ للرياضات الجوية.
ونتيجة تقييد صناعة الطائرات والأسلحة في ألمانيا بموجب معاهدة فرساي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، اتجهت الشركات الألمانية لإنشاء مصانع في دول أخرى لمواصلة الإنتاج. وفي عام 1925 وقّعت أنقرة اتفاقية مع شركة يونكرز الألمانية لتأسيس أول مصنع طائرات في قيصري. وبموجب هذه الاتفاقية، تأسست شركة الطيران والمحركات "تومتاش"، وخططت لإنتاج 250 طائرة سنويًا بموارد محلية بهدف تصنيع 1000 طائرة خلال 4 سنوات.
أرادت أنقرة أن تبني سلاحا جويا قادرًا على حراسة سماء الأناضول بالاعتماد على الصناعة المحلية والخبرات الأجنبية، لكن الحلم اصطدم بواقع محدودية التمويل ونقص الخبرة والضغوط الدولية، فانتهى المشروع مع شركة يونكرز بعد عامين فقط.
أعيد افتتاح "تومتاش" تحت اسم مصنع "طائرات قيصري"، وصنع 212 طائرة بين عامي 1926 و1941. وعشية الحرب العالمية الثانية ، كان لدى سلاح الجو التركي 240 طائرة ما بين قاذفات ومقاتلات وطائرات تدريب، لكن أغلبها قديم.
مع اندلاع الحرب، تبنت أنقرة سياسة الحياد، وركزت على الدفاع عن مضيقي الدردنيل والبوسفور، وضمان أمن بحر إيجه، لكنها أدركت أن صعود القوة الجوية أحدث تغييرًا جذريًا في مفهوم الدفاع عن المضائق.
ففي الماضي، كانت تُحمى بواسطة البطاريات الساحلية والسفن والألغام، لكن التطور التكنولوجي الذي مكّن الطائرات المزوّدة بالقنابل والطوربيدات من إغراق السفن الحربية وتدمير التحصينات الأرضية، جعل السيطرة على الممرات البحرية مسألة تفوق جوي بالدرجة الأولى.
وبناءً عليه، ومع اشتعال الحرب، جرى اختيار عدد من المواقع في غرب تركيا لبناء مطارات عسكرية لاستخدامها من قِبل الأتراك وحلفائهم، وتحمّلت بريطانيا معظم التكلفة المالية. كما تأسس مصنع "إيميسجوت" في عام 1941 لتصنيع الطائرات، واستفاد من المهندسين الأجانب الفارين من الحرب في أوروبا الشرقية، لكن رحيلهم من تركيا في نهاية الحرب تسبب في إغلاق المصنع.
جادل إرسَن بوجوت أوغلو، ومحمد أصلان، في دراسة نشراها بعنوان "صناعة الطيران التركية 1925-1950 وتأثيرات الظروف الدولية بعد الحرب العالمية الثانية"، بأن الدعم الأميركي لتركيا أدى إلى تعثر الصناعات الجوية التركية المحلية.
فحين دخلت تركيا عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت نفسها في قلب معادلة جديدة عنوانها كيف تنجو من التمدد السوفياتي، وبالأخص بعد طلب موسكو إدارة المضائق بشكل مشترك والسيطرة على قارص في شرق البلاد.
ومن ثم في عام 1947، دخل مبدأ ترومان حيّز التنفيذ، مُعلِنًا رسميًا ميلاد الحرب الباردة ، ومحددًا لتركيا واليونان موقعًا خاصًا بوصفهما الحاجز الجنوبي لحلف الناتو في وجه التمدد السوفياتي، وبدأت مرحلة إعادة تشكيل البنية العسكرية التركية وفق النموذج الأميركي.
أُنشئت "البعثة الأميركية للمساعدة في تركيا" عام 1947 بقيادة السفير الأميركي في أنقرة، إدوين ويلسون، وأُلحقت بها ثلاث مجموعات عسكرية أميركية، منها "مجموعة القوات الجوية الأميركية في تركيا" (TUSAFG) التي تولى قيادتها الجنرال إيرل هوغ رفقة 190 مستشارا أميركيا.
وقد عملت على إعادة هندسة الجيش التركي على النمط الأميركي؛ إذ فقد رئيس هيئة الأركان العامة منصبه الوزاري، ووُضع تحت سلطة وزير مدني للدفاع، كما أصبح قادة القوات البرية والبحرية والجوية متساوين في الرتبة، وتلقى الضباط الأتراك دروسهم وفق مناهج كلية "فورت ليفنوورث"، وتحوّلت أكاديمية سلاح الجو التركي إلى نسخة مصغرة من نظيرتها الأميركية، وأشرف هوغ بنفسه على الإدارة والاتصالات والتدريب والإمداد والخدمات اللوجستية.
وتلقت تركيا بين عامي 1947 و1949 أكثر من 600 طائرة أميركية، وأطنانًا من المعدات والرادارات وأجهزة الاتصال، وتلقى نحو 9000 جندي تركي من سلاح الجو تدريبًا مباشرًا على يد مستشارين أميركيين، وهو رقم يعادل نصف القوة الجوية التركية آنذاك البالغ عددها 20 ألف فرد.
وفي السياق ذاته، جاءت خطة مارشال لتستكمل البنية الاقتصادية الجديدة، حيث انتقد بعض الخبراء الأميركيين الذين زاروا تركيا لدراسة بنيتها الاجتماعية والاقتصادية؛ سياسات البلاد الاقتصادية، وحثّوا الحكومة على تغييرها.
ونصّت التوصيات على أنه لكي تُدرَج تركيا في برنامج مارشال للمساعدات، فلا بد من تحرير الاقتصاد.
وفي ضوء هذه التقييمات، أصدر ثورنبرغ، رئيس جمعية مهندسي شركة كاليفورنيا ستاندرد أويل، تقريرين هما: "كيف يمكن لتركيا أن تنهض؟" في عام 1948، و"نقد الوضع الاقتصادي الراهن لتركيا" عام 1950، وشدد على ضرورة تخلي تركيا عن التصنيع الثقيل، وإغلاق مشاريع الطيران والمحركات، والتركيز على توسيع شبكة الطرق السريعة، وإنشاء مؤسسات أساسية كالتعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية، قبل الشروع في استثمارات بمجال الصناعات الثقيلة.
كما شدد تقرير أصدرته لجنة من البنك الدولي بقيادة الأميركي جيمس باركر؛ على أن تركيا دولة زراعية، وأنه ينبغي إعطاء الزراعة الأولوية في تنميتها، وأنه في ظل نقص المواد الخام والمهارات والمعرفة الفنية اللازمة، فإن مصانع محركات الطائرات لن تحقق الهدف منها.
وبالفعل حُولت مصانع الطائرات التركية إلى مصانع جرارات ونسيج، وجرى تفكيك إرث عقدين من الجهد المحلي في التصنيع الجوي، وانتهى المشروع الذي بدأ في يشيلكوي وقيصري. وفي عام 1952، اكتمل التحول بانضمام تركيا رسميًا إلى حلف الناتو، بعد مشاركتها في الحرب الكورية .
انتقلت تركيا في تلك الحقبة من فكرة السيادة عبر التصنيع وإحلال الواردات، إلى الاعتماد على الغرب عبر تلقي دعم ومعدات مجانية.
ومع أن هذه المرحلة منحت تركيا بنيةً جوية قوية، فإنها كبّلتها بمعادلة قلصت بشكل كبير قدرتها على المناورة بعيدا عن السقف الأميركي، وأصبحت تعتمد في توفير قطع الغيار على مصادر خارجية.
جاءت أزمة قبرص في عام 1974 كلحظة كاشفة لأنقرة، حيث فرضت واشنطن حظرًا على تصدير السلاح إلى تركيا (1975-1978).
ومن رحم تلك الصدمة، بدأت أنقرة تراجع سياساتها الدفاعية مع إدراك أن الاكتفاء الذاتي في القطاعات الحيوية ضروري للأمن القومي، وأفضت المراجعة إلى سلسلة من الخطوات التي شكلت العمود الفقري للصناعات الدفاعية التركية الحديثة.
وفي عام 1973 تأسست شركة " توساش لصناعات الطيران والفضاء" كأول كيان محلي لصناعة الطائرات، تلاها تأسيس شركات عدة مثل "أسيلسان" للإلكترونيات العسكرية، و"هافيلسان" للأنظمة البرمجية والمحاكاة.
وبدأت الدولة تُحوّل مفهوم الدفاع من بنية استهلاكية تعتمد على الخارج إلى منظومة إنتاجية تستثمر في الداخل، بينما عبّرت الحملات الشعبية للتبرعات -مثل حملة "اصنع طائرتك بنفسك"- عن وعيٍ مجتمعي بأهمية استقلال الصناعات الدفاعية.
وجاء عام 1983 ليُكرّس التحول بإطلاق شراكة بين شركتي توساش التركية وجنرال دايناميكس الأميركية لتجميع مقاتلات إف-16 في تركيا لصالح أنقرة، وهو ما تطور إلى إنشاء شركة لصناعة المحركات في مدينة إسكي شهير بالتعاون مع جنرال إلكتريك تحت اسم "توساش لصناعات المحركات". وبدأ أول مشروع لتنفيذ عقد شراء 160 طائرة إف-16 بتكلفة 4 مليارات دولار.
ونصّ العقد على تصنيع أولى 8 طائرات في منشآت جنرال دايناميكس بالولايات المتحدة، بينما تُصنع الطائرات المتبقية في منشآت توساش. وتم تسليم أول مقاتلة "إف-16 سي بلوك 30" صُنعت في منشآت توساش عام 1987، بينما سُلمت آخر طائرة من طراز "إف-16 سي بلوك 50" عام 1999.
وخلال السنوات اللاحقة، وتحديدا في عام 2003، بدأ مشروع تحديث منتصف العمر لطائرات إف-16 التي تملكها تركيا، وانتهى البرنامج عام 2015 بتسليم آخر طائرة محدثة. لكن تركيا بدأت تواجه أزمة مع قدم طائراتها مقارنة بطائرات دول أخرى مجاورة، فهي ما زالت تقاتل بطائرات الجيلين الثالث والرابع، بينما إسرائيل واليونان وروسيا دخلت عصر طائرات الجيل الخامس.
يعبّر مفهوم "أجيال المقاتلات" عن المراحل التقنية والفكرية التي مرت بها الحرب الجوية منذ منتصف القرن 20. فكل جيل يمثل نقلة نوعية في فهم استخدام السماء كساحة للهيمنة والسيطرة، وفي تعريف ما تعنيه القوة الجوية من حيث السرعة والدقة والوعي الميداني.
وقد حدد ريتشارد هاليون عناصر القوة الجوية في: الارتفاع، والمدى، والسرعة، والقدرة على المناورة، والدقة، والفتك، والمرونة. هذه العناصر ظلت ثابتة، لكن التكنولوجيا هي التي غيّرت تمظهراتها عبر عقود.
وبحسب أردا مولود أوغلو في دراسته "مستقبل القوة الجوية التركية.. تحدي الجيل الخامس"، فقد ظهر الجيل الأول من الطائرات بين أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي حين انتقلت المقاتلات من المحركات المكبسية إلى النفاثة، حيث عملت الطائرات آنذاك بسرعات منخفضة دون سرعة الصوت، وطارت على ارتفاعات متوسطة، وبقدرات محدودة في التسليح والرادار، ومن أمثلتها طائرة إف-86 الأميركية، وميغ-15 الروسية.
ومع الجيل الثاني في أواخر الخمسينيات، دخلت إلى الخدمة الصواريخُ الموجهة والرادارات المحمولة، وظهرت طائرات تحلق بسرعات تفوق سرعة الصوت رفقة معدات ملاحة أكثر تعقيدًا، وقُدّمت أول نماذج الصواريخ الموجهة جو-جو، وتمكنت الطائرات من العثور على الأهداف والاشتباك معها دون مساعدة من رادارت أرضية، ومن أمثلتها إف-5 الأميركية، وميغ-21 الروسية.
وفي الجيل الثالث خلال بداية الستينيات والسبعينيات، تطورت الرادارات وأنظمة الملاحة بشكل كبير. وأصبحت المقاتلات أكثر قدرة على المناورة، وظهرت الصواريخ الموجهة بدقة والقنابل الذكية، ومن أمثلتها طائرة إف-4 الأميركية، وميغ-23 الروسية.
أما الجيل الرابع الذي صُمم بين السبعينيات وأواخر الثمانينيات، فقد أعاد تعريف العلاقة بين الطيار والطائرة، حيث تحولت قمرة القيادة إلى واجهة رقمية تعمل بأنظمة تحكم إلكترونية مدعومة بالحواسيب، وأصبحت الطائرات متعددة المهام ومجهزة بأنواع مختلفة من أنظمة الأسلحة والمهام جو-جو وجو-أرض. ومن أمثلتها طائرات إف-15 وإف-16 الأميركية، وميراج 2000 الفرنسية، وميغ-29 الروسية.
وتفرّع عن هذا الجيل ما يعرف بالجيل 4.5، الذي ظهر في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات. فقد أدخل هذا الجيل أنظمة استشعار كهروضوئية أتاحت العمل كمراكز بيانات جوية تجمع المعلومات وتوزعها في الوقت الحقيقي، وهو ما رفع من فعالية العمليات المشتركة، ومن أبرز أمثلتها طائرة رافال الفرنسية، وتايفون الأوروبية.
وقد بدأ الجيل الخامس نهاية التسعينيات مع طائرات تتسم بدمج أجهزة الاستشعار وأنظمة ربط البيانات والاتصالات المتقدمة، ما يتيح العمل كمنصة لجمع المعلومات وتنفيذ الضربات من مسافات بعيدة في الوقت ذاته، فضلا عن البحث عن الأهداف وتتبعها بالأشعة تحت الحمراء دون إصدار إشارات كهرومغناطيسية، مما يُقلل خطر اكتشاف الطائرة من طرف أجهزة استشعار الخصم. ومن أمثلتها إف-22 وإف-35 الأميركية، وطائرة جي-20 الصينية، وسوخوي-57 الروسية.
تقع تركيا عند تقاطع 3 قارات، وفي محيط مضطرب من الأزمات الممتدة من القرم إلى غزة، ويكشف تحليل بيئة التهديدات الإقليمية عن تعدد الجبهات التي يعتني بها الطيران التركي، إذ تشمل: البحر الأسود، شرق المتوسط، البلقان، جنوب القوقاز، وسوريا وليبيا وشمال العراق. وتتطلب هذه الجبهات مقاتلات قادرة على العمل في ظروف مناخية وتضاريسية متباينة، وتؤدي مهام متعددة في الوقت نفسه.
وبينما لدى روسيا مقاتلات سوخوي-57 من الجيل الخامس، ولدى إسرائيل عشرات المقاتلات من طراز إف-35، تعاقدت اليونان مع الولايات المتحدة من أجل شراء 40 طائرة من طراز إف-35، وذلك بعد شرائها من فرنسا 34 طائرة من طراز رافال، فضلا عن تحديث 83 طائرة إف-16 إلى النسخة المتقدمة "فايبر"، ما يعزز التفوق النوعي الجوي اليوناني.
وبالتالي، تواجه تركيا لحظة فارقة في تاريخ قوتها الجوية، فمع تقادم أسطولها القائم على مقاتلات إف-16 القديمة وإف-4 من الجيل الثالث، واقترابه من نهاية عمره التشغيلي، أصبح التحديث مسألة تتعلق بالسيادة والأمن القومي.
ولهذا، تسعى تركيا لبناء قدرة على التصدي للهجمات الجوية من أي خصم محتمل، مع نقل الصراع إلى أراضيه، وهو ما يتطلب هيكل قوة قادرا على تنفيذ عمليات في ظل قيود سلسلة التوريد والاحتياجات التشغيلية.
ومن ثم، بنت أنقرة مقاربتها العملية على مبدأين متوازيين: التنويع المرحلي في مصادر التسليح، وتوطين القدرات الصناعية. فالتنويع يوفر مرونة سياسية وتكتيكية أمام الضغوط الغربية، بينما التوطين يمنحها استقلالية استراتيجية طويلة المدى.
وخلال السنوات الماضية، قُدِّمت 3 خيارات رئيسية لتجديد أسطول المقاتلات التركية، يتمثل الأول في الخيار الأميركي عبر شراء 100 طائرة إف-35، والمشاركة في برنامج تصنيعها، لكن واشنطن استبعدت أنقرة من البرنامج عام 2019 وأخرجت الشركات التركية من سلسلة التوريد، وفرضت عقوبات بموجب قانون "مكافحة أعداء أميركا" ( كاتسا ) على المشتريات الدفاعية التركية، وذلك ردًا على شراء أنقرة منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400، كما ألغت تسليم 6 طائرات إف-35 مكتملة الصنع مخصصة لسلاح الجو التركي.
ويأمل بعض الخبراء الأتراك العودة إلى برنامج إف-35، وبالأخص لوجود 6 طائرات جاهزة للتسليم إذا أعيدت أنقرة إلى البرنامج، لكن الصفقة تواجهها معارضة قوية داخل الكونغرس، خاصة من اللوبيات المناصرة لإسرائيل واليونان.
في ظل التعثر، لجأت تركيا إلى بديل يتمثل في شراء 40 مقاتلة إف-16 فايبر، وتحديث 79 طائرة أخرى في صفقة بقيمة 23 مليار دولار، إلا أن الصفقة ظلت رهينة الخلافات السياسية بين أنقرة وواشنطن، لكن إدارة بايدن وافقت مبدئيًا عليها، بينما أعادت أنقرة النظر في الخطة أواخر العام 2024، معتبرةً أن الاعتماد المستمر على واشنطن يُبقيها تحت ضغطٍ سياسي دائم، ما دفعها إلى تخفيض الخطة لتقتصر على طلب شراء 40 طائرة، ما قلص الصفقة إلى 7 مليارات دولار، في حين صرّح وزير الدفاع التركي يشار غولر، أن شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية قادرة على إجراء عمليات تحديث محليًا.
أما الخيار الثاني فهو الخيار الأوروبي، ويتمثل في شراء 40 طائرة يوروفايتر، التي تشارك في تصنيعها بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وتعدّ من جيل "4.5"، وهي طائرة متفوقة في مهام الدفاع الجوي، كما تُمثّل رسالة إلى واشنطن بأن أنقرة قادرة على تنويع خياراتها الدفاعية.
ورغم الخلافات السابقة مع برلين، فقد سمح تحسن العلاقات معها برفع الحظر عن شراء تركيا للسلاح الألماني في عام 2025. وتوفر تلك الطائرة حلا مرحليا إلى حين تفعيل الخيار الثالث المتمثل في الطائرة " قآن " محلية الصنع من الجيل الخامس.
بدأت تركيا برنامج تطوير طائرات مقاتلة محلية، أطلق عليها اسم "الطائرات القتالية الوطنية" في نهاية عام 2010، وشمل الطائرة "قآن" التي أجري لها أول اختبار طيران في عام 2024. لكنها لا تزال في مرحلة التطوير، وتعتمد على محركات أميركية المنشأ من صنع شركة "جنرال إلكتريك"، مع خطط لتطوير محرك محلي خلال العقد المقبل.
يرى مؤيدو المشروع أن الاستثمار في "قآن" يمثل الخيار الاستراتيجي الوحيد لضمان السيادة الصناعية والعسكرية، حتى لو استغرق الطريق عقدًا كاملًا، حيث يتوقع أن تدخل الخدمة الفعلية ما بين عامي 2028 و2030، في حين يعتبره آخرون رهانًا مبكرًا في بيئة إقليمية لا تمنح ترف الانتظار.
تواجه أنقرة إذًا معادلة دقيقة بين تلبية الحاجة العاجلة ومواصلة الرهان البعيد. فطائرة إف-35 هي الخيار الأمثل تقنيًا، لكنها صفقة معقدة سياسيا، بينما تقدم طائرة يوروفايتر حلا واقعيا لكنه مرحلي، أما "قآن" فمشروع وطني واعد يحتاج إكماله إلى وقت وموارد ضخمة.
لهذا يبدو أن أنقرة تلجأ إلى مزيج من الخيارات الثلاثة: شراء محدود من اليوروفايتر لتغطية الفجوة، وتحديث واسع لأسطول إف-16 بتقنيات محلية، وتسريع إنتاج "قآن" بالتوازي مع تطوير محرك محلي الصنع.
تُبنى القوة الجوية على أساسٍ علمي وصناعي راسخ، يقوم على استثمارٍ طويل المدى في المعرفة والتكنولوجيا والبنية التحتية.
فالمقاتلة الحديثة ليست مجرد منتجٍ عسكري، بل ثمرة منظومةٍ متشابكة من التصميم والإنتاج والاختبار والإدارة، تتطلب سنواتٍ من العمل المتواصل لتبلغ جاهزيتها التشغيلية ضمن برنامجٍ يمتد عادةً لعقدٍ أو عقدين.
ويُعَدّ الحفاظ على الكفاءات التقنية والإدارية ركيزةً جوهرية في تكوين "العقل الصناعي" القادر على إدارة المشاريع الكبرى دون ارتهانٍ دائم للخبرة الأجنبية. كما تتعاظم الحاجة إلى تطوير الأنظمة الفرعية وسلاسل الإمداد الدقيقة والبنية التحتية للاختبارات، وهي كلها مجالات تحدد مدى استقلال القرار الصناعي والعسكري للدولة.
ومن هنا تبرز أهمية التمويل والتعاون الدولي كعاملين مكمّلين، كما تجلّى في توقيع عقد تصدير 48 طائرة "قآن" إلى إندونيسيا، الذي يُخفف من أعباء التمويل ويُعزّز استدامة مشروع الانضمام إلى الجيل الخامس من الطائرات.
إن المشروعات الجوية الكبرى لا تزدهر إلا ضمن تخطيطٍ مالي مستقر ورؤيةٍ استراتيجية تتجاوز دورات الإنفاق القصيرة، وتعتمد على شراكاتٍ متوازنة لتقاسم الكلفة ونقل التكنولوجيا.
فترسيخ الركائز الثلاث -المعرفة، والعمل المؤسسي، والتمويل- هو ما يفتح الطريق أمام بناء تفوقٍ جوي حقيقي، لطالما غاب عن معظم الدول العربية والإسلامية، وتسبب في هزائم متكررة.
وهنا تُمثّل المقاتلة قآن ذروة المزج بين خبرة الصناعة المحلية التركية والإرث التاريخي للقوات الجوية الممتد منذ عهد الطيارين الأوائل الذين حلقوا فوق الأناضول والشام، وسيمثل النجاح في تدشينها وإنتاجها إعلانا عن انتقال أنقرة إلى مرحلة جديدة من امتلاك القدرات العسكرية المتطورة، وتعزيز قدراتها الذاتية في مواجهة القيود الغربية، ونقل المعارك إلى أراضي الخصوم، بما يحقق حلمها الذي طال انتظاره.