آخر الأخبار

معاقبة إسرائيل على طريقة جنوب أفريقيا

شارك

لقد مزقت الحرب الإسرائيلية على غزة ليس فقط حياة الفلسطينيين، بل ومزقت أيضا مصداقية "النظام العالمي القائم على القواعد" الذي لا يتورع قادة الغرب عن التذرع به كلما لاقى أهواءهم.

فبعد أشهر من التراخي الدبلوماسي، وعبارات "القلق" المائعة، تجاوزنا منذ أمد بعيد مرحلة بيانات الإدانة. وكما كان الحال مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فإن العزل المستمر -اقتصاديا وثقافيا ورياضيا- هو السبيل الوحيد القادر على الضغط على إسرائيل لتغيير مسارها.

فلنكن واضحين بشأن ما أفضى إليه التهاون. لقد توسلت الدول الحليفة لإسرائيل في السر، وعبّرت عن ضيقها في العلن، وأحيانا تمتمت بكلمات عن "خطوط حمراء". لم يغير ذلك شيئا يذكر.

حكومة نتنياهو تجاهلت كل دعوة لضبط النفس، في حين تصاعد عدد الضحايا المدنيين بشكل مأساوي، وتكشفت أمام أعين العالم سياسة تجويع وتدمير متعمدة للاقتصاد الفلسطيني، ولنظمه الغذائية والصحية في غزة.

وتشير التحديثات الأخيرة الصادرة عن الأمم المتحدة إلى ارتفاع في أعداد الوفيات المرتبطة بالجوع، حيث فقد مئات الأطفال حياتهم؛ بسبب سوء التغذية، مع توقعات بتفاقم الوضع إذا استمر الحصار.

وقد تفقد الأرقام تأثيرها من فرط فظاعتها، لكن لا يجوز لنا أن نفقد إحساسنا بها. فبحلول منتصف أغسطس/آب 2025، تجاوز عدد القتلى في غزة 60 ألفا، بحسب تقارير مستقلة، قتل أكثر من 18 ألف طفل، وهي أرقام في حجمها وفظاعتها كافية لإنهاء أي نقاش حول الإلحاح. فإذا كان لنظام القواعد هذا من معنى، فليكن له معنى هنا.

وليس الأمر مجرد أرقام، بل هو في جوهره يكشف عن الخطاب الإبادي الصريح الذي صدر عن مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو خطابٌ ما كان للعالم أن يقبله أو يتحمله في أي سياق آخر.

فقد دعا وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش مرارا إلى "تشجيع الهجرة الطوعية" للفلسطينيين من غزة، وهو مقترح أدانته حتى أكثر الحكومات الأميركية انحيازا لإسرائيل، واعتبرته "تحريضيا وغير مسؤول".

إعلان

أما وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، فقد كرر الدعوة ذاتها علنا، وهي بطبيعة الحال التعريف الحرفي للتطهير العرقي.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ذهب وزير التراث عميحاي إلياهو إلى اقتراح استخدام قنبلة نووية ضد غزة.

وعندما تتحدث حكومة بهذه اللغة، فلا غرابة إن تصرفت قواتها بتلك الوحشية، وذاك الإفلات التام من العقاب. بل إن هذه الحكومة تبذل ما بوسعها لحجب الحقيقة والتستر على الجرائم.

تأملوا مثلا في مقتل 15 من عمال الطوارئ، من بينهم مسعفون، وعناصر دفاع مدني، وموظف في الأمم المتحدة، في جنوب غزة مطلع هذا العام.

في البداية، ادّعت إسرائيل أن جنودها أطلقوا النار على مركبات "غير معلمة" اقتربت "بطريقة مريبة في الظلام". لكنّ تسجيلا مصورا وُجد على هاتف أحد الضحايا أظهر بوضوح سيارات إسعاف تحمل علامات واضحة وأضواء ساطعة.

بعدها غيرت إسرائيل روايتها؛ وتشير تقارير وتصريحات أممية إلى أن أولئك العاملين تم دفنهم داخل مركباتهم بعد أن دُفنت بالجرافات، في محاولة لإخفاء الجريمة.

ليس من قبيل الصدفة أننا نعرف الكثير، ولكننا نعرف في الوقت نفسه القليل جدا.

فكما هو معلوم، فقد مُنع الصحفيون الأجانب من دخول غزة، ما لم يكونوا مرافقين للجيش الإسرائيلي ضمن جولات دعائية.

وإنما يعود الفضل- شبه الكامل- فيما نعرفه، إلى شجاعة الصحفيين الفلسطينيين المذهلة الذين ينقلون الحقيقة من داخل غزة، مخاطرين بحياتهم ليعرف العالم ما يجري.

وكما نعلم بكل أسى، فقد قتل هذا الشهر مراسل قناة الجزيرة أنس الشريف وعدد من زملائه في غارة إسرائيلية استهدفت خيمة صحفيين خارج مستشفى الشفاء في غزة.

وبعد مقتله، وصفت إسرائيل الشريف بأنه "مقاتل"، وهي رواية رفضتها بشدة منظمات حرية الصحافة. لقد كان أنس وفريقه شجعانا إلى أبعد الحدود، وأعترفُ بأن كلماته الأخيرة، التي كتبها تحسبا لاغتياله، أبكتني.

نظام يقتل من الصحفيين أكثر مما قُتل في الحربين العالميتين، لا يسعى إلى الحقيقة؛ بل يريد دفنها إلى جانب من اغتالهم من حمَلة القلم.

نعم، آن أوان معاملة إسرائيل كما عوملت جنوب أفريقيا إبان الفصل العنصري. لا لأن أحدا يتلذذ بالعقوبات، بل لأن كل الوسائل الأخرى قد فشلت، ولأن المسار الذي تسلكه إسرائيل الآن يضعف أسس النظام القانوني الدولي بما يتجاوز حدود غزة بكثير.

فإذا كانت قوانين الحرب تنتهك بهذه العلانية وبهذا الإفلات، فما الذي يدفع أي دولة إلى احترامها غدا؟

إليكم ما يجب على المجتمع الدولي فعله، وعلى الفور:


* أولا، فرض نظام عقوبات محكم يستهدف آلة الاحتلال والمسؤولين القائمين عليها. ويجب أن يشمل ذلك حظر التأشيرات وتجميد الأصول بحق الوزراء والقادة العسكريين الذين يحرضون على الانتهاكات أو يشرفون عليها، وفرض قيود على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج التي تمكن من العقاب الجماعي، ووقف الامتيازات التجارية الممنوحة لإسرائيل حتى يتم التحقق من امتثالها للقانون الإنساني الدولي.

الهدف واضح: جعل الكلفة السياسية لهذه الحرب أعلى من أي مكسب داخلي.


* ثانيا، مقاطعة ثقافية ورياضية شاملة. فقد أدت العزلة الدولية في ثمانينيات القرن الماضي إلى رفع كلفة تعنت بريتوريا (نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا)، وأسهمت في تحفيز المعارضة الداخلية.
إعلان

وينطبق المنطق ذاته على إسرائيل. يجب استبعادها من جميع المحافل الرياضية والثقافية الدولية – لا كأس عالم، لا أولمبياد، لا يوروفيجن، ولا سجاد أحمر للتطبيع – حتى تتحقق حماية حقيقية للمدنيين، ويتضح مسار صادق نحو تقرير المصير الفلسطيني.

المقاطعات ليست عصا سحرية، لكنها أداة ضغط. وقد آن لقادة العالم أن يستخدموها.


* ثالثا، حظر شامل على تصدير الأسلحة، حظر له أنياب حقيقية. لا يمكن للدول أن تتشدق بـ"نظام عالمي قائم على القواعد"، وهي تزود المعتدي بالقنابل التي تدمر الأحياء، وبمناظير البنادق التي تقنص المسعفين.

حظر التسليح الجاد سيبطئ وتيرة العمليات العسكرية، ويفرض على إسرائيل إعادة النظر إستراتيجيا، وهو ما لم ولن تفعله التصريحات الفارغة.


* وأخيرا، المساءلة. إن المجازر بحق الأطفال، والصحفيين، والعاملين في المجال الصحي، والإغاثي، وجميع المدنيين الأبرياء الذين قتلهم النظام الإسرائيلي، تستدعي تحقيقا دوليا مستقلا له تبعات حقيقية.

فإذا سمح لإسرائيل بالإفلات من جريمة إبادة جماعية، فإن عواقب ذلك لا تحتمل؛ لأنه لن يبقى حينها أي دافع لتحقيق السلام.

هذه اللحظة ليست اختبارا أخلاقيا فحسب، بل هي اختبار للنظام العالمي نفسه. فإذا ما تسامحنا مع الموت الجماعي، والخطاب الإبادي الصادر عن وزراء في الحكومة، وقتل المسعفين والصحفيين، وتسليح الحصار على المساعدات، وفي الوقت ذاته منعنا التغطية الصحفية المستقلة، فإن قوانيننا، ومعاهداتنا، واتفاقياتنا لا تساوي شيئا.

ستكون الرسالة الموجهة إلى المعتدين في المستقبل بسيطة: بوسعكم فعل هذا أيضا. ولا شك أن بعضهم يسجل الملاحظات الآن.

لا يستطيع العالم أن يعيد الحياة إلى شهداء غزة، ولا أن يمحو صدمة جيل بأكمله، لكنه يستطيع أن يوقف دعم الآلة التي ما زالت تقتل وتدمر.

وهذا يعني: العقوبات، والمقاطعة الثقافية والرياضية، وفتح غزة أمام الصحافة المستقلة، وفتح أبواب المحاكم أمام قضايا تحمل الجناة المسؤولية.

لا مزيد من التصريحات، لا مزيد من التظاهر بالدهشة. لقد آن أوان الفعل. الفعلُ الذي ساهم في إنهاء نظام الفصل العنصري الراسخ في جنوب أفريقيا، هو عينه المطلوب اليوم لإنهاء الفصل العنصري الإسرائيلي.

إذا كنا نؤمن حقا بنظام عالمي قائم على القواعد، فإن غزة هي ساحة الاختبار: إما أن نثبت صدقنا، أو نعترف بأننا لم نؤمن به يوما.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة


الأكثر تداولا اسرائيل سوريا أمريكا إيران

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا