في الجنوب السوري، حيث تتقاطع الطموحات الإقليمية وتتداخل أجندات القوى الدولية، تتكرّس معركة حقيقية حول من يملك القرار العسكري في سوريا، ومن يرسم مسارها السياسي في مرحلة حسّاسة من تاريخها.
وبينما يحاول الرئيس السوري أحمد الشرع بسط سيطرة مركزية على كامل التراب السوري، تواجه الدولة تحديات كبيرة على جبهات متعددة: من الداخل المشتعل بالانقسامات الطائفية والفصائلية، إلى الخارج المتداخل في تفاصيل المشهد السوري، دعما، أو قصفا، أو تفاهما ضمنيا.
بين دعم أميركي مشروط وقصف إسرائيلي مبرر
الولايات المتحدة، بحسب التصريحات الأخيرة، تُبقي على خيط من التواصل والدعم السياسي لحكومة دمشق، لكنها تشترط مقابل ذلك بسط الدولة السورية لسيادتها الفعلية على أراضيها كافة.
وفي موقف لافت، انتقدت واشنطن التوقيت الإسرائيلي في استهداف مواقع جنوب سوريا، واصفة الضربات الجوية الأخيرة بـ"السيئة التوقيت" في ظل خطوات تهدئة حساسة.
وفي المقابل، تبرّر إسرائيل ضرباتها ضد مواقع في السويداء ودمشق بأنها تأتي "لحماية دروز سوريا" مما تصفه بـ"مجازر النظام".
وذهب وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس إلى حد القول إن "من ينتقد تلك الهجمات لا يدرك الحقائق"، ملمحا إلى استخدام بعض القيادات الدرزية علاقاتها بتل أبيب كوسيلة لبسط النفوذ المحلي، في إشارة مباشرة إلى الشيخ حكمت الهجري.
أردوغان يشيد بـ"شرعية الشرع" ويتحدث عن تفاهمات مع الدروز
وأطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تصريحات ذات دلالات واضحة، حين أشاد بـ"موقف الرئيس الشرع القوي" في وجه إسرائيل، مؤكًا على دعمه لتفاهم الحكومة السورية مع الطائفة الدرزية.
واعتبر أردوغان أن "الشارع اتخذ خطوة إيجابية للغاية" بتقريب وجهات النظر مع مكونات السويداء، مشيرا إلى أن معظم الفصائل الدرزية وافقت على احترام وقف إطلاق النار، ما عدا فصيل واحد.
هذه الإشادة من أنقرة، تأتي ضمن تحول تدريجي في سياسة تركيا حيال دمشق، وبخاصة في الجنوب السوري، حيث تخشى أنقرة من تمدد حالة فوضى مشابهة لشمال سوريا.
الطائفة الدرزية منقسمة.. بين الولاء للدولة والاستقواء بالخارج
في مشهد ميداني بالغ التعقيد، تنقسم الطائفة الدرزية بين تيارات متعددة، أبرزها "رجال الكرامة" بزعامة ليث البلعوس، الذي أكد بدوره أن أطرافا دولية أبدت حرصا على عدم انزلاق السويداء نحو الفوضى.
لكن البلعوس أشار إلى "تعنت الطرف الآخر" في اتخاذ القرار داخل الطائفة، واتباعه لما وصفه بـ"أجندات خارجية"، في تلميح مباشر إلى الشيخ الهجري، الذي لا يخفي اتصالاته بدوائر إسرائيلية.
من لا يريد الأمن في السويداء هو من يفشل التفاهمات
خلال حديثه إلى برنامج "التاسعة" على "سكاي نيوز عربية"، قدّم أستاذ العلاقات الدولية الدكتور ياسر النجار، قراءة عميقة للصراع الداخلي على السلطة في الجنوب السوري، قائلا إن "دمشق تسعى إلى احتواء السويداء كاحتواء الأب للابن"، في إشارة إلى خطاب حكومي يفضل التفاهم والتكامل بدلا من التصعيد الأمني.
واعتبر النجار أن من يُفشل اتفاق وقف إطلاق النار هو "من لا يحرص على إيصال المساعدات الإنسانية والطبية لأهل السويداء"، متهما أطرافا محلية بالارتهان لإملاءات خارجية، بهدف ضرب الاستقرار من الداخل.
ويرى النجار أن تل أبيب تُحاول خلق مبرر دائم لتدخلها العسكري تحت ذريعة "حماية الدروز"، فيما هي في الواقع تبحث عن خلق بؤر اضطراب جديدة داخل سوريا، تلهي الرأي العام عن أزمتها الداخلية وفي غزة.
وأشار النجار إلى أن إسرائيل "تُضخّم ما يجري في السويداء" لتمويه الجرائم التي ارتكبتها في قطاع غزة.
وتساءل النجار: "كيف نفاوض من لا يعترف أصلا بالدولة السورية؟"، معتبرا أن الهجري هو المسؤول المباشر عن إفشال عدة اتفاقات ميدانية سابقة، وبأن تحركاته لا تنتمي إلى مشروع سياسي سوري داخلي، بل تستمد شرعيتها من دعم خارجي".
وشدد على أنه "لا يمكن لفصيل يملك سلاحا ثقيلا، ولا يعترف بالدولة، أن يطلب منا احتواؤه تحت مسمى التفاهم الوطني، لأن أجندته خارجية بحتة".
الشرع على رأس الدولة.. والجيش ملتزم
وفي تقييمه لبنية السلطة المركزية، أكد النجار أن "الرئيس أحمد الشرع هو الجهة الوحيدة التي تتعامل معها الدول العربية، الإقليمية، والاتحاد الأوروبي".
وتساءل النجار "هل نعطي القرار العسكري لشخصية مثل حكمت الهجري، أم لرئيس يثق به العالم لضبط الأمن وتحقيق الحد الأدنى من الاستقرار؟".
وأكد أن الجيش السوري "التزم بقرارات الدولة رغم وقوع شهداء في صفوفه، ما يعكس انضباطا عاليا وطاعة مؤسساتية"، وهو ما يعزّز وفقا للنجار فكرة أن سوريا اليوم تبني دولة جديدة قوامها القانون والطاعة.
واختتم النجار حديثه بالدعوة إلى حوار وطني داخلي حقيقي، تتصدره النخب والمثقفون، قائلا: "لا نحتاج فقط إلى رسائل أمنية وسياسية من الخارج، بل إلى ثقافة وطنية جامعة ومشاريع سياسية شاملة، تُعيد بناء النسيج السوري المتنوع".
كما أشار إلى أهمية بناء العدالة الداخلية، قائلا: "ما يهمنا هو أن يؤمن السوريون بعدالة دولتهم، وأن يحاسب كل من ارتكب انتهاكا وفق القانون، بغض النظر عن انتمائه أو موقعه".
سوريا بين التماسك والانزلاق.. من يملك القرار؟
يتضح من تعقيدات المشهد السوري أن الصراع على القرار العسكري لم يعد مجرد نزاع على الأرض أو السلاح، بل بات اختبارا عميقا لشرعية السلطة، لوحدة الدولة، ولمدى قدرتها على احتواء مكوناتها ضمن مشروع وطني واحد.
وفي ظل تدخلات خارجية متعددة، بين من يدعم الدولة ومن يراهن على الفوضى، تبقى معركة القرار العسكري في سوريا مفتوحة على كل الاحتمالات.
لكن المؤكد أن الدولة، برئاسة الشرع، تسعى إلى ترسيخ خطاب جديد يتجاوز الصدام إلى التفاهم، شرط أن تكون الطروحات داخلية، لا قائمة على التموضع تحت عباءة الخارج.