عاش فؤاد ست سنوات مع تشخيص خاطئ لطبيب ظن أنه مصاب بمرض الزهايمر.
عند سفر طبيبه المعالج خارج البلاد، قصد فؤاد طبيباً آخر أخضعه لفحوصات جديدة، كشفت عن إصابته بمرض يدعى مرض أجسام ليوي Body of Levy dementia .
تشمل أعراض هذا المرض ارتجاف أعضاء الجسد، واختلال التوازن، وفقدان الذاكرة، ما قد يؤدي إلى تشخيصه خطأً على أنه الزهايمر أو باركنسون.
شاع اسم هذا المرض عالميًا بعد الإعلان عن إصابة الممثل الأمريكي الشهير روبن ويليامز به. لكن ويليامز أقدم على الانتحار نتيجة الاكتئاب، دون أن يعلم بإصابته بمرض "أجسام ليوي". وكان تشخيص أطبائه قبل وفاته أنه مصاب ببداية مرض باركنسون.
فماذا نعرف عن مرض "أجسام ليوي"، ما مدى خطورته وما هو علاجه؟
عام 1912، لاحظ طبيب الأعصاب الألماني فريتز هاينريش ليوي (1885 – 1950) وجود شوائب عصبية في أدمغة من يعانون من الشلل التشنجي أو الرعاشي (مثل مرض باركنسون). هذه الشوائب هي عبارة عن تجمعات غير طبيعية من البروتين تتراكم وتتطور داخل الخلايا العصبية.
أطلق فريتز، الذي غيّر اسمه لاحقاً إلى فريديريك هاينريش ليوي، اسم "أجسام ليوي" على هذه التجمعات. وهي جسيمات تحتوي على بروتينات، أبرزها ألفا-سينوكلاين، المسؤول عن تلف الخلايا العصبية في الدماغ.
هاجر ليوي من ألمانيا عام 1933 هرباً من النظام النازي، واستقر لاحقاً في الولايات المتحدة حيث طوّر أبحاثه. واستمرت الأبحاث بعد وفاته عام 1955، حتى تمكن مجموعة من الأطباء من إصدار معايير تشخيص "مرض أجسام ليوي" عام 1996.
ويُعرّف مرض أجسام ليوي اختصاراً على أنه مرض يتلف الخلايا العصبية في الدماغ نتيجة تراكم بروتينات تعرف باسم "أجسام ليوي".
أولى الأعراض التي عانى منها فؤاد (اسم مستعار) هي عدم قدرته على توقيع اسمه، وفق ما روت ابنة شقيقه ليال.
"في إحدى المرات، لم يتمكن من تذكر كيفية توقيع اسمه على الأوراق في المصرف".
وأضافت ليال قائلة إنه كان أحياناً يسقط أرضاً بشكل مفاجئ أثناء سيره. وبعد أن لاحظت العائلة أكثر من مرة أنه ينطق بصعوبة، قصدت طبيب أعصاب طلبا للمشورة.
يقول طبيب الأعصاب المحاضر في جامعة البلمند في لبنان، البروفسور سهيل جبيلي في لقاء مع بي بي سي عربي، إنّ أجسام ليوي تنتشر في خلايا أعصاب الجسم قبل أن تتراكم وتؤثر في أعصاب الدماغ.
والدليل بالنسبة لجبيلي هو أنّ أولى أعراض مرض أجسام ليوي هي فقدان حاسة الشمّ. ويشير جبيلي إلى أنّ معظم فاقدي حاسة الشمّ لا يدركون إلا بعد إجراء فحوصات.
الأعراض الأخرى التي تظهر في بدايات المرض هي تقلبات أثناء النوم، لا سيما في فترة الأحلام، أو ما يعرف باضطراب حركة العين السريعة.
ويذكر جبيلي عارضاً ثالثاً قبل الانتقال إلى ضرب خلايا الدماغ، وهو إصابة الأعصاب المسؤولة عن ضغط الدم، فيسقط الشخص أرضاً عند محاولته الوقوف.
"هذه هي الأسباب التي تدفعني عند التشخيص إلى العودة مع المريض عشر سنوات إلى الوراء".
يتابع جبيلي قائلاً إنّ هناك أعراضاً أخرى تظهر مع تطوّر المرض مثل ارتجاف الأعضاء والتشنّج والهذيان.
ويوضح أنّ الهلوسة التي ترافق مرض أجسام ليوي "غريبة، ولا تزعج المريض". ويشير إلى أنّه في حالة الهلوسة أو الهذيان يكون المريض متفرجاً وكأنه شاهد على أشياء تحدث أمامه، أمّا في حالة الزهايمر، يشعر المريض أنه معني أو منخرط في ما يراه أو يتهيأ له.
تغيّر السلوك أو الشخصية هو من أعراض ليوي أيضاً. وقد يغضب المريض أو يصاب بالاكتئاب أو يميل إلى الانعزال أو يتحول إلى شخص مفرط النشاط.
ويلفت إلى أنّ هذا هو ما حدث مع روبن ويليامز في إشارة إلى إصابته باكتئاب شديد قبل إقدامه على الانتحار.
ويقول طبيب الأعصاب المختص السعودي هيثم الطيّب، العضو في الجمعية السعودية الخيرية لمرض الزهايمر في اتصال مع بي بي سي إنّ مرض أجسام ليوي يُصنف من ضمن الأمراض الضمورية العصبية التي تصيب الإنسان في مرحلة متأخرة من العمر، أي بعد سن الستين.
ويضيف قائلاً إنها من الأمراض البطيئة، لكن أعراضها تتدهور وتتزايد وتؤدي مع الوقت إلى فقدان الإنسان كامل إدراكه وكامل حركته، "ويتحول إلى معتمد على ذويه بشكل تام، ويصبح فريسة للالتهابات".
تروي ليال (اسم مستعار) أن أحد الأطباء وصف لفؤاد دواءً لمرض الصرع وأطلق تشخيصه بناءً على حوادث سقوط عمّها أرضاً مراراً بشكل مفاجئ. وأوصى طبيب الأعصاب الذي عالجه لاحقاً، والذي شخّص أنه يعاني من الزهايمر، بمتابعة هذا الدواء.
وأشارت ليال إلى أن الدواء ترك أثراً سلبياً على عمّها، إذ فقد القدرة على السير والكلام، إلى أن خضع بعد سنوات لكشف آخر مع الدكتور سهيل الجبيلي.
أولاً، أخضعه جبيلي لكشف تخطيط للدماغ ليجد أنه لا أثر لمرض الصرع، فأوصى بإيقاف الدواء تدريجياً. وبعد ملاحظة تحسن حالة فؤاد واستعادة القدرة على السير والنطق، قال الدكتور جبيلي إنه بالتأكيد لا يعاني من الزهايمر، وشخّص بعد عدة اختبارات أن فؤاد يعاني من مرض أجسام ليوي.
ويؤكد سهيل جبيلي أن تشخيص "مرض أجسام ليوي" لم يكن محدداً وكان يُصنف على أنه باركنسون. والسبب في ذلك هو أن تجمع البروتين في خلايا الدماغ العصبية هو نفسه المسؤول عن باركنسون ومرض أجسام ليوي، لكن توزيعها في الدماغ يختلف. ففي حالة الإصابة بالباركنسون، تنتشر هذه البروتينات في الموقع المسؤول عن حركة الجسم في الدماغ، بينما في حالة مرض أجسام ليوي، تنتشر البروتينات في كافة أنحاء الدماغ.
ويؤكد جبيلي أن صدور معايير التشخيص ساهمت بشكل كبير في تحديد المرض. ويجمع أكثر من مركز أبحاث خاص بأمراض الخرف على أن "مرض أجسام ليوي" يصعب تشخيصه. وإلى جانب الخلط بينه وبين باركنسون، يُشخّص مرض أجسام ليوي في حالات عديدة على أنه الزهايمر، لأن أعراضه تشمل فقدان الذاكرة.
ويشير الطبيب السعودي الدكتور هيثم الطيّب إلى أنه "من الخصائص العرضية لمرض أجسام ليوي وجود أعراض باركنسونية" (أي مشتقة من مرض باركنسون). ويؤكد أن مرض أجسام ليوي مختلف، لكن هناك تشابهًا في الأعراض الحركية بين الاثنين. ويضيف الطيّب بالقول: "التشابه يتعدى الأعراض، ويشمل نوعية البروتينات المترسبة".
ويقول إنه في حال مرض أجسام ليوي تظهر الأعراض الإدراكية قبل الأعراض الحركية، أما في حالة الإصابة بباركنسون يحدث العكس. "لذلك يصعب علينا أحيانًا تحديد أي الأعراض ظهرت أولاً، لأن هذه الأمراض بطيئة في ظهورها، وبالتالي قد يأتينا مريض بعد فترة من ظهور الأعراض ويعاني الجانبين منها، دون أن نتمكن من تحديد أيهما بدأ قبل الآخر".
ويشير الدكتور هيثم إلى أن حالات التشخيص الخاطئة لا حصر لها، وجزء من أسبابها قلة المختصين في تشخيص هذا النوع من الأمراض. "لا يتعدى عددنا مثلاً في السعودية 15 طبيبًا مختصًا".
ويقول الدكتور جبيلي إنه بسبب صعوبة التشخيص ووجوب العودة مع المريض إلى أعراض ظهرت منذ خمس سنوات على الأقل، "قد يتساهل المجتمع الطبي مع مسألة التشخيص ويذهب سريعًا نحو تحديد المريض على أنه زهايمر أو باركنسون". لكنّ تطور المرض يدفع إلى التشكيك بتشخيص الزهايمر أو الباركنسون، بحسب جبيلي.
يتابع جبيلي بالقول: "إن طبيب الأعصاب يُستدعى عادة حين تنتقل أجسام ليوي إلى الدماغ. كنا نعتقد سابقًا أنه (المرض) الزهايمر أو نوع مشابه، لكن لم يتم التشخيص إطلاقًا للأمور التي ليس لها علاقة بالدماغ، وهي مهمة جدًا".
أما الفرق الأكثر وضوحًا بينه وبين الزهايمر، وفق جبيلي، فهو أن مريض الزهايمر يفقد ذاكرته تدريجيًا دون عودة. "أما المريض بأجسام ليوي، تجده طبيعيًا، قد يخطئ أثناء القيام ببعض أعماله أو تركيب بعض الأشياء". ويوضح قائلاً إن أولى عوارض الزهايمر هي النسيان، بينما عوارض النسيان أو فقدان الذاكرة لدى مرضى أجسام ليوي تأتي لاحقًا.
يقول الدكتور هيثم إن هناك فحوصات سريرية في البداية يجريها مختصون يستطيعون التفريق بين الأمراض الضمورية وبين أنواع أمراض الباركنسون.
"هناك بعض الاختبارات مثل اختبار الأشعة البوزيترونية Pet scan وتحديداً اختبار يتضمن نوع من الأشعة النووية Dat scan وهي ذات حساسية عالية للكشف عن التغيرات المرضية التي تحدث في نسيج الدماغ لمرضى أجسام ليوي".
يلفت جبيلي إلى أن جميع الأمراض العصبية التنكسية مثل الألزهايمر، باركنسون، وأجسام ليوي تنتج عن تراكم مواد ناتجة عن أسلوب حياتنا اليومي، مثل تناول اللحوم والمنتجات الكيميائية، خاصة مع التطور والابتعاد عن الطبيعة، مما حول حياتنا إلى حياة صناعية مليئة بالمواد الكيميائية. وهذا يؤدي إلى تراكم مواد نطلق عليها اسم "مواد سامة"، لا يستطيع الجسم التخلص منها إذا كانت مستمرة وبأعداد كبيرة. ويضيف جبيلي أن حالات الاكتئاب واليأس قد تكون عوامل محفزة، لكنها ليست السبب الرئيسي.
ليس لمرض "أجسام ليوي" علاج نهائي، لكنّ دكتور جبيلي يلفت إلى أنّ هناك دواء يستخدم في مرض الزهايمر يساعد المريض " على التحسن قليلاً أو الحفاظ على استقرار وضعه".
"أولاً يجب طمأنة المريض والأهل بأنه لا يعاني من الزهايمر، وأنه يستطيع متابعة القيام بأعماله في المرحلة الأولى بشكل طبيعي. لأن مرض "أجسام ليوي" بطيء وأعراضه خاصة تلك المرتبطة بفقدان الذاكرة، مختلفة تماماَ عن الزهايمر.
في مرحلة لاحقة لن يستطيع القيام بأعماله وعلى المريض والعائلة التأقلم مع الوضع الجديد.
و"على المريض أن يبقى تحت المراقبة لأنك لا تعلم متى يقوم بأعمال غير إرادية".
يقول د. جبيلي إنه لا يعالج الهلوسة الناتجة عن "أجسام ليوي" لأنها قد تؤثر سلبياً على المريض. بل يعمد د. جبيلي إلى التحدث عن الهلوسة مع المريض ومع عائلته التي يقلقها الأمر. وعادة يسمع من المريض أنّ "الهلوسة لا تضايقه. فهو (المريض) يحسب نفسه متفرجاً لا أكثر".
ويضيف أنه من المهم إعطاء المريض الأدوية التي تساعد على النوم، "سيشعر بتحسن إن استطاع أن ينام بشكل أفضل". والأدوية التي تساعد على العلاج من حالة اليأس أو الإحباط.
الأهمّ بالنسبة لجبيلي هو التذكير بأنه من ضمن تشخيص هذا المرض، توصية بعدم إعطاء الأدوية التي تعالج الهلوسة أو الهذيان لأنها تؤدي إلى تداخلات لا يتحملها المريض بأجسام ليوي. "في حال تناول مريض دواء خاص بالباركنسون أو الزهايمر وأغمي عليه، عليك أن تفكر هنا بأجسام ليوي".
يستقبل جبيلي حالات مرض أجسام ليوي بمعدّل مريض واحد كل شهر.
حين عالج فؤاد، صادف أنه كان يعالج مريضين أو ثلاثة يعانون من المرض ذاته
ورافق سهيل جبيلي فؤاد وعائلته أكثر من سبع سنوات، ورأى تحسناً واضحاً في بداية مرافقته، وبعد إلغاء التشخيص الأول، وتغيير نوع الأدوية.
الأمر ذاته بالنسبة للدكتور هيثم الطيّب في السعودية، فهو يرى أنّ مضادات الذهان التي قد تكون مغرية للاستخدام عند بعض مرضى أجسام ليوي الذين يعانون من الهلوسة.
"قد تؤدي إلى عواقب وخيمة، فمن أعراضها الجانبية بطئ حركة الباركنسون، فإذا استخدمت قد ينتج عنها تدهور شديد في قدرة المريض على الحركة بما في ذلك العضلات التنفسية وقد يؤدي ذلك الى الوفاة".
وتحدث بدوره عن بعض المهدئات ومضادات الاكتئاب وبعض الادوية التي تستخدم في علاج الزهايمر تفيد في وضع مرض ليوي.
ويضيف الطيّب قائلاً إنّ "هناك بعض التركيبات التي تساعد على إزالة بروتين السينوكلين من الدماغ، في محاولة لإبطاء تدهور الأعراض . لكن حتى الآن لم ينجح أي من هذه التركيبات أن يغير من مسار المرض، جميعها تجارب فاشلة للأسف الشديد".
قد يقلب مرض أجسام ليوي حياة عائلة المريض رأساً على عقب.
تقول ليال إنّ العائلة كانت بجانبه 24 ساعة في اليوم.
بالإضافة إلى العناية والمساعدة ووجود ممرض ومعالج فيزيائي وتدخل أخصائية في معالجة النطق، كان على العائلة الاهتمام بممارسة فؤاد النشاطات التي يحبها وبرفع معنوياته طوال الوقت.
تقول إن المريض بحاجة إلى تمارين وإلى ترفيه وإلى خلق روتين في حياته. وأضافت أنه بحاجة أيضاً إلى أن يكون محاطاً من أفراد العائلة.
وتؤكد أنّ هذه الوسائل كانت ناجحة مع عمّها الذي حافظ على روح إيجابية في معظم مراحل المرض.
تدهور وضع فؤاد تدهور سريعاً في الأيام الأخيرة قبل وفاته، وفق ما روت ليال، لا سيما خلال فترة الحرب الأخيرة بين إسرائيل ولبنان، وسفر بعض الأقارب الذي كانوا إلى جانبه.
"زادت الهلوسات وفقد القدرة تماماً على التحرك والنطق".
فقد فؤاد القدرة حتى على ابتلاع الطعام والأدوية، وأصيب بعد ذلك بالتهاب الرئة. وتوفي عن عمر يناهز 87 عاماً.
يؤكد جبيلي في مسألة العلاج أنه على العائلة تأمين "محيط آمن" للمريض. وذلك لأنه سيعاني "من تقلبات، أي أنه قد يغادر المنزل ولا يعود، قد ينطق بكلام غريب أو يقع عن سريره...".
ويوصي جبيلي في موضوع العلاج أولاً توعية العائلة والمجتمع. وثانياً مسألة التعامل مع المريض، وإخضاعه للعلاج السلوكي المعرفي (cognitive behaviour therapy)، الذي يضع المريض في جوّ معيّن يمكّنه من الاستفادة من قدراته العقلية ليهتم في حياته ويبقى منتجاً ولا يشعر بعزلة، وخاصة أن مريض أجسام ليوي يستطيع معرفة نفسه وعائلته والمجتمع من حوله بعكس مرض الزهايمر.
ويرفض استخدام مصطلح "خرف أجسام ليوي" لما للكلمة من تأثير سلبي على المريض وفي المجتمع.
ويضيف البروفسور جبيلي قائلاً إنّ هناك مرحلة تكون فيها جودة الحياة أمراً مهمّاً، نستطيع معها أن نؤمن حياة يومية مقبولة رغم الإصابة بمرض ليوي.
ويقول الدكتور هيثم الطيّب إنّ أفراد العائلة هم شركاء المريض في رحلة معاناة طويلة.
"بعد التشخيص يضع الأطباء مع المريض وعائلته برنامجاً لرفع جودة الحياة وتخفيف العبء عنه".
ويتحدث عن تدخل بعض العلاجات التأهيلية مثل التأهيل النفسي والتأهيل السلوكي.
ويؤكد أن توجيه الفريق المعالج للعائلة ودعمها ومساعدتها على الحفاظ على الرابط الإنسان المعنوي بين أفرادها وبين المريض، "أهمّ من ما يقدمه الفريق المعالج".
ويذكّر بأنّ مرضى أجسام ليوي يفقدون الكثير من القدرات الإدراكية، "لكنهم يتذكرون ولو جزئيا الشخص الذي يعرفونه جيداً ويحبونه".