صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة كتاب مهم في تشخيص أزمات العصر بعنوان "ما بعد الحقيقة: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل" للباحث المغربي محمد بهضوض. وهذا الكتاب الذي يقع في 423 صفحة هو تشريح عميق لتحوّل جذريّ يهزّ أسس إنتاج المعرفة وتلقيها، وينطلق المؤلف من سؤال مركزيّ مقلق: كيف انقلبت أدوات التحرر المعرفي إلى آليات استعباد جديد، حيث تتراجع سلطة الحقيقة أمام طوفان من "الأوهام المصنّعة"، وتهندس المشاعر لتحلّ محلّ الوقائع في تشكيل الوعي الجمعي؟
يجسّد الكتاب مفارقة بالغة التعقيد تختزل أزمة الإنسان الرقمي، ففي حين وعدت الثورة التكنولوجية بانعتاق المعرفة وتدفقها الحر، وجدنا أنفسنا غارقين في طوفان من "الوقائع المفبركة" و"الأخبار الزائفة"، حيث تملى علينا "الحقائق" من خلال خوارزميات تقدّم ما يريح أصدقاءنا في "غرف الصدى" (Echo Chambers)، لا ما يقارب الواقع. ويبرز بهضوض أنّ الانفجار غير المسبوق في أدوات الاتصال وتدفق المعلومات صاحبه -على عكس ما يظن- تراجع ملموس في فرص الفهم الحقيقي، وتعمّق للهوّة بين امتلاك المعرفة وإدراك الحقيقة.
يرفض بهضوض التصوّر الساذج القائل بأن "ما بعد الحقيقة" ظاهرة طارئة ولدت مع وسائل التواصل الاجتماعي. ويبين أن جذورها ضاربة في تاريخ الصراع الفكري الأزلي منذ المواجهة بين الفلاسفة والسفسطائيين في اليونان القديمة الذين برعوا في "فنّ الجدل" لتحقيق النصر بغضّ النظر عن الحقيقة، وفي معارك عصر التنوير ضد سلطات الكنيسة والتقاليد الجامدة التي قاومت أنوار العقل والعلم. غير أنّ الجوهر الجديد والمقلق في هذه الظاهرة اليوم يكمن في تحولها إلى جزء من نسق فكري في ظلّ نظام الرأسمالية المعولمة، وهذا النظام لم يعد يكتفي بإنتاج السلع المادية، بل حوّل الوهم إلى سلعة رابحة، واستثمر في صناعة الخطاب الشعبوي العاطفي لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، محوّلا التضليل إلى آلة ضخمة قائمة بذاتها.
في هذا المشهد المرعب، تعجز الدولة الحديثة عن بناء أنظمة موثوقة قادرة على حماية المواطنين من التضليل المنظّم أو إنتاج خطاب جامع للحقيقة، بل إنّ الإعلام التقليدي نفسه، في كثير من الأحيان، يتحوّل إلى أداة طيعة في خدمة آلة التضليل هذه، كما تجلّى بوضوح فاضح في التغطيات الإعلامية المتناقضة والمضلّلة في أثناء جائحة "كوفيد-19" حول فاعلية اللقاحات وطرق الوقاية، مما زاد من حدة الالتباس والارتباك الجماعي. وتتفاقم هذه الأزمة مع القابلية النفسية والاجتماعية للجماهير لتصديق الأكاذيب، خاصة عندما تقدّم مغلّفة بخطاب عاطفي جذّاب أو تصدر عن شخصيات ذات حضور ووجاهة أو وسائل إعلامية ضخمة تتمتع بهالة مصداقية زائفة.
ينتقل بهضوض من حقل التنظير الفلسفي إلى ساحة التطبيق العملي، ليفتش عن تجلّيات "ما بعد الحقيقة" في حقول اجتماعية وسياسية واقتصادية متنوعة، مظهرا كيف تخترق الظاهرة نسيج حياتنا اليومي.
أما في المجال السياسي، فيوثّق الكتاب كيف تحوّل التضليل من ممارسة عابرة إلى "فنّ للحكم" إذ لم يعد الكذب مجرد خطأ أخلاقي، بل أضحى سلاحا إستراتيجيا في الانتخابات وتشكيل الرأي العام. ويحلّل بهضوض بعمق حالات صارخة، مثل صعود دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية 2016 ، حين استخدمت "الأخبار الزائفة" بشكل ممنهج لتشويه الخصوم السياسيين، وتضخيم المخاوف العرقية أو الدينية، وترويج وعود وهمية.
وأما في حقل الاقتصاد، فيكشف بهضوض عن نشوء "اقتصاد الأكاذيب"، حيث تتحول وسائل الإعلام والفضاء الرقمي إلى أدوات لصناعة صور وهمية عن الشركات والمنتجات والمؤشرات المالية. تقدّم تقارير مالية مضلّلة، وإعلانات خادعة تخلق احتياجات استهلاكية غير حقيقية. هذه الممارسات، كما يوضح الكتاب، لا تفقد السوق شفافيته وآليات مساءلته فحسب، بل تحوّل الاستثمار إلى مغامرة قائمة على التضليل، وتضعف الثقة بالنظام الاقتصادي كله.
وأما على صعيد العلاقات الدولية، فيبرز الكتاب دور التضليل الإعلامي المنظّم في ما تسمّى "الحروب المعنوية" أو "حروب الجيل الرابع"، حيث توظف الدول الكبرى والصغرى الروايات الزائفة والمعلومات المغلوطة بوصفها أدوات غير تقليدية لخدمة مصالحها الجيوسياسية، متجاوزة كلّ حدود للأخلاق أو الحقائق الموضوعية. ويقدم بهضوض أمثلة دالة على ذلك، مثل الحملات الممنهجة لنشر الشائعات والشكوك حول الصراعات الدولية، أو إثارة النعرات الطائفية والإثنية في مناطق التوتر، مستخدما أدوات التحليل السياسي لفك شيفرات هذه الحروب الخفية.
ويواجه العلم بوصفه أحد أركان التقدم البشري الأساسية تحديا وجوديا في عصر "ما بعد الحقيقة". وهنا يسلط الكتاب الضوء على موجة الشك غير المسبوقة التي تواجه الإجماع العلمي، مدفوعة بنظريات المؤامرة والمعلومات المضلّلة، من مثل حركات "مناهضة التلقيح" التي ترفض الأدلة القاطعة لفاعلية اللقاحات، ومحاولات "إنكار التغير المناخي" رغم الأدلة العلمية الساحقة، أو الترويج لعلاجات وهمية لأمراض مستعصية، وكلها تصلح أمثلة على هذا الهجوم الممنهج، وهذا الهجوم لا يستهدف المؤسسات العلمية فحسب، بل يهدم الثقة بالمنهج العلمي نفسه.
وفي المجال الثقافي، يحذّر بهضوض من توظيف مفاهيم إنسانية كـ"النسبية الثقافية" و"التعددية" بشكل شعبويّ مشوّه، فبدلا من أن تكون هذه المفاهيم جسورا للتفاهم، تستغل لتأجيج صراعات الهوية والانتماء، وتستخدم سرديات تاريخية محرّفة أو مزوّرة لتحويل الاختلاف الثقافي والديني إلى خطاب كراهية وإقصاء، وتعزيز الانقسامات المجتمعية. ويتحول التنوع، في هذا السياق المشوه، من مصدر إثراء وتنوع إلى قنبلة موقوتة تهدد النسيج الاجتماعي.
غير أن الفضاء الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي يظل -بحسب الكاتب- المحرّك الأقوى والأخطر لتفاقم ظاهرة "ما بعد الحقيقة". وتتحمل خوارزميات هذه المنصات مسؤولية كبيرة، فهي مصممة أساسا لتعظيم التفاعل والربح، فتقدم للمستخدمين المحتوى المثير للانفعال (كالغضب، أو الخوف، أو الاستقطاب) بغض النظر عن صحته أو مصداقيته.
تظهر الدراسات -كما يذكر بهضوض- أن الأكاذيب تنتشر أسرع 6 مرات من الحقائق على هذه المنصات. كما تعمل "غرف الصدى" (Echo Chambers) على عزل الأفراد في فقاعات فكرية مغلقة، حيث لا يتعرضون إلا للأفكار التي تؤكد معتقداتهم المسبقة، مما يعزز الانغلاق الفكري ويصعّب الحوار. ولا شك أن سهولة إنشاء حسابات وهمية ونشر محتوى تضليلي دون رقابة تضاعف من حجم الكارثة، فهذا المحيط الرقمي ليس مجرد ناقل للأفكار، بل هو بيئة مولّدة ومضخّمة بشكل غير مسبوق لوباء "ما بعد الحقيقة"، وموزّع رئيسي لسمومه إلى جميع المجالات الأخرى.
لا ينغلق كتاب بهضوض على نفسه، بل يضعه في حوار نقدي خلّاق مع أبرز المراجع العالمية التي تناولت الظاهرة. فهو يتقاطع مع تحليل الفيلسوف الأميركي لي ماكينتاير لظاهرة "صوامع المعلومات"، حيث يعيش الأفراد معزولين في فقاعات تكرّس انحيازاتهم وتقطعهم عن الحقائق المخالفة، ويرى معه في إنكار العلم تجليا خطيرا لـ"ما بعد الحقيقة".
كما يشارك الكاتبة ميشكو كاكوناتي قلقها العميق على تآكل الثقة في المؤسسات التقليدية الحامية للحقيقة كالإعلام المحترف، والجامعات، والمؤسسات العلمية، والقضاء.
غير أن إسهام بهضوض النوعي يتجلى في دفع هذا التحليل نحو آفاق أرحب وأكثر خصوصية. فهو يستحضر مقولة المؤرخ الفرنسي إرنست رينان الشهيرة بأن الأفكار هي التي تقود العالم ليؤكد أن المعركة ضد "ما بعد الحقيقة" هي في جوهرها معركة فكرية وأيديولوجية. ويستند بقوة إلى جدلية كارل ماركس لفهم تجذر الظاهرة في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المنتجة للوهم والمستفيدة منه.
والأهم أنه لا يقف عند حدود النقل عن الغرب، بل يدفع بالتحليل نحو خصوصية البيئة العربية المعقدة، حيث تتفاعل "ما بعد الحقيقة" بشكل متفجر مع إرث الاستبداد السياسي، وهشاشة المؤسسات الديمقراطية والعلمية، وصراعات الهوية (القومية، والطائفية، والإثنية) الموروثة والمستجدة، وتردي الواقع الاجتماعي والاقتصادي. هذا التفاعل المركب، كما يرى بهضوض، يعطي الظاهرة في السياق العربي أبعادا أكثر تأثيرا على النسيج الاجتماعي واستقرار المجتمعات، مما يستدعي تشخيصا دقيقا ومواجهة خاصة.
لا يقف كتاب بهضوض عند حد تشريح الداء، بل يقدّم رؤية متكاملة لمواجهة وباء "ما بعد الحقيقة"، مقترحا خارطة طريق متعددة المستويات تستهدف بناء مناعة فكرية وجماعية:
يكتسب كتاب "ما بعد الحقيقة" لمحمد بهضوض أهمية استثنائية ومضاعفة في السياق العربي الذي يعاني تحديات مركبة تجعل من الظاهرة خطرا وجوديا:
يبدو كتاب "ما بعد الحقيقة: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل" خريطة نجاة فكرية، ومشروع مقاومة ثقافي في زمن يحاول فيه التضليل المنظّم أن يغرقنا في سبات من الأوهام. وفي عالم تتلاعب فيه قوى الظلام بعقولنا بسحر الشاشات وفتنة السرديات الزائفة، يذكّرنا محمد بهضوض بأن استعادة الحقيقة ليست ترفا فكريا، بل هي شرط أساسيّ لبقائنا مجتمعات وأفرادا أحرارا. إنها تبدأ باستعادة الثقة بقدرة العقل على السؤال والتمحيص والنقد، وبإعادة بناء المؤسسات التي تحمي الفضاء العام. هذه المعركة المصيرية ليست من أجل صون الروح فحسب، بل من أجل بناء مستقبل المجتمعات العربية التي تبحث عن خلاصها في ركام الأوهام.