عمّان- بلغة شفافة لكنها تحمل في مضمونها نغمة متمردة تحاكي أبطالًا حقيقيين من واقعنا المعيش، طرحت الدكتورة أماني سليمان داود، وهي ناقدة وأستاذة جامعية، مجموعتها القصصية "جبل الجليد". وبدأتها بمقولة للراحل محمود درويش "من أنا بعد ليل الغريبة؟ أنهض من حلمي خائفًا من غموض النهار على مرمر الدار" وختمتها بعبارة مشهورة للكاتب الأميركي إرنست همنغواي الملقب بـ"البابا" حيث يقول "كل القصص إذا امتدت فسوف تنتهي إلى الموت، ومن يخفي الحقيقة فهو راوٍ مزيف".
وتُعد هذه المجموعة الخامسة للكاتبة بعد "غيمة يتدلى منها خيط سميك" و"جوار الماء" و"وسمّه المفتاح إن شئت" و"شخوص الكاتبة" وجميعها للكبار، بالإضافة إلى اهتمامها بالكتابة للأطفال.
وفي استعراض لمجموعة "جبل الجليد" نلمس أن الكاتبة تتحدث بلغة المتكلم غالبًا، فهي الراوية لشخوصها أحيانًا، تاركة لهم مساحات للتعبير عن مواقفهم، لكنها تعود ثانية لالتقاط خيط سير الأحداث، فتبدو المجموعة وكأنها "تجوال مفتوح في ذات الآخر".
وخلال مجموعتها، ترسل الدكتورة أماني لمسة وفاء لوالدها المتوفى، ففي مقطع من قصة "خلل ما" تقول "بدا طيبًا كرفِّ فراشات تخاتل قوس قزح، فغدا الكون قصيدة.. ابتسم ثانية فتبسمت روحي، ولما هممتُ بلثمه عنوة، صرفني وأغلق القبر دوني". وكأنها ترسل إشارات لاحترام الوالدين وتحذيرات للعاقّين آباءهم أو الذين لم يتحملوا كبرهم وحاجتهم للرعاية والاهتمام ووضعوهم في بيوت العجزة.
ولا يخالجني شك بأن شخصيات القصص واقعية، فمن لا يعرف الموظفة المتصابية التي تتجسس على زملائها استرضاء لمديرها، أو المراهقين الذي يتلصصون من وراء سور مدرسة للطالبات، أو "قعدات" العجائز وهن يفرطن الملوخية أمام بيوتهن، أو السياسي الذي يدوس الآخرين حفاظًا على مركزه أو سطوته، أو أناشيد الصباح المدرسية مثل "فلسطين داري ودرب انتصاري" و"تظل بلادي هوى في فؤادي".
"الذين يكتبون عن الحروب لا ينجون، بل يموتون بالتقسيط، سطرًا وراء سطر"
ولم يغب العدوان على غزة والصحافيون الذين استشهدوا وهم يؤدون واجبهم المهني وينقلون الحقيقة "الذين يكتبون عن الحروب لا ينجون، بل يموتون بالتقسيط، سطرًا وراء سطر". وفي قصة "أول الحياة.. آخر الموت" جاء فيها "عاد كل امرئ إلى بيته.. مهلًا، كيف للمرء أن يعود إلى بيت غير موجود؟ عاد كل امرئ إلى أرضه.. كل الأرض بور.. إنها أول الحياة.. آخر الموت.. مهلًا.. هل للموت آخر؟".
وكشفت الدكتورة أماني -في حديث للجزيرة نت- أن "جبل الجليد" انشغلت بالهوية وجسّدت اغتراب الفرد، وقالت إن "ثمة تأملات في الحرب والحب والقلق والذات والهوية، وحضور لشخوص فنية افتراضية لها أشباه في الحياة، تحاول مقاومة خساراتها ومواجهة الانكفاء على الذات، وتعترض على خراب العالم وفساده وتنتقده".
وقالت أستاذة الأدب والنقد في قسم العربية بجامعة البترا "أقف في (جبل الجليد) عند ثيمات توزعت بين هموم وأشواق ذاتية وأخرى إنسانية. فقد تأمّلت القصص طبقات الذات والهوية، فانشغلت أكثر من قصة بالهوية وتلمُّس عمقها النفسي، والتفكّر بإشكالياتها وتحوّلاتها".
وتضيف "كما جسّدتْ كثير من القصص اغتراب الفرد وما يواجهه من سلطات وقوى متصارعة، كسلطة الضمير والوعي، والسلطة الاجتماعية والثقافية الفكرية، وكذلك السياسية، فضلًا عن سلطة الماضي وسلطة الموت. وفي كل ذلك، كانت المعضلة في كيفية مقاومة الفرد لكل ما لا يريده أو ما لا يعجبه، للإمساك بصورته التي يختارها لنفسه، محققًا وجوده الخاص وكينونته في عالم شرّير يمعن في تفتيت الهوية وتشتيتها على مستوى الجماعات والأفراد".
وحول تماسّ قصص المجموعة مع حياتنا وواقعنا، رأت الدكتورة أماني أن "القصص بالضرورة ذات صلة بالواقع، وخصوصًا الواقع الآني السياسي والاجتماعي والإنساني. ثمة تأملات في الحرب والحبّ، والقلق الوجودي، والموت والذات والهوية. تظهر الحروب القاسية على سبيل المثال في ثنايا القصص، لكنها تعبّر عن هذا الواقع بأسلوب غير واقعي، مستثمرةً تقنيات من شأنها توسيع دلالات القصص الفكرية وآثارها الشعورية، وجعلها أكثر تشويقًا وحيوية وتفاعلًا مع لاوعي المتلقي. ورغم اتصال القصص بالواقع والعالم حولنا، إلا أنني حاولت إعادة تخليق العالم في قصصي على هواي، وعلى الهيئة التي أشتهيها بنيةً ومتنًا".
وفي معرض ردها على سؤال، قالت الدكتورة أماني "تعبّر قصصي عن عالم باتت سمته الأساسية التمزّق والتشظّي واللايقين والاستهلاك والاستعلاء، مما يتطلّب من القصة أن تتجاوز البنية التقليدية، وتنحو نحو الحداثة والتجريب عبر كسر النمطي وتجاوز المألوف على أكثر من مستوى. وذلك يستدعي بالضرورة استخدام الرمز والإيحاء، وتنوّع الرواة، وتيار الوعي، وتداخل الأزمنة، وخلخلة عناصر السرد. فتجد السرد في المجموعة يتناسل من السرد، كما نلحظ تلاعبًا دقيقًا بالضمائر، ومناورة خاصة مع الراوي العليم الذي يظهر في بعض القصص من الظلّ إلى العلن ليحاور الشخصيات".
وقالت أيضا "لقد غدا العالم الواقعي مادّتي الأوّليّة التي أعيد صياغتها فنيًّا ليغدو عالمًا جماليًّا يحقق بالدرجة الأولى متعة التلقي والتأثير الجمالي، ويدفع المتلقي فيما بعد إلى تأمّل الذات والتفكر في موقع هذه الذات في هذا العالم".
وحول شخوص المجموعة، أوضحت الدكتورة أماني أنه "في الكتابة لا بدّ من الإفادة من كل ما حولنا، فيصبح العالم منبع الكتابة ومصدرها، كأن القصص من العالم وإليه. لكن أعيد التأكيد على ضرورة التفريق بين الواقع الحقيقي، والخيال السردي الذي يوهم بالواقع فيما هو يعيد بناءه وينظم عناصره بصورة جديدة قد تكون ممثِّلة للواقع كما نريده لا كما هو كائن. وهذا ما يمكن أن يتيحه العمل الإبداعي، وإلا غدا الكاتب مؤرّخًا أو موثّقًا للوقائع".
وفي مجموعة "جبل الجليد" -والحديث للدكتورة أماني- ثمة حضور كثيف لشخوص فنية افتراضية و"هذا لا يعني أنها غير واقعية، لكن واقعيتها هنا تكمن في أن ما جاء منها في القصص يمكن أن نكتشف له أشباهًا في الحياة الواقعية".
وتستطرد "أما عن توصيف الشخصيات، فبالمجمل تحاول شخوص القصص مقاومة خساراتها ومواجهة الانكفاء على الذات عبر مواجهتها ومساءلتها، ورفض ما تمليه من ضعف وركون واستسلام للفقد والاغتراب والضياع. إنها تحاول النجاة من بؤس العالم المحيط على مختلف مستوياته، وتعترض على ما في هذا العالم من خراب وفساد وتنتقده. بالمقابل، نلمح في عدد من القصص تحوّلات للشخوص من حال إلى آخر وفق ما تمليه تجاربها وما يفرضه العالم عليها".
وتحدثت الأديبة عن ثيمات مشتركة بين القصص وأبطالها فقالت "تبدو كل قصة في (جبل الجليد) مستقلة تمامًا، لها إطارها الفني الجمالي الذي يتواءم مع الرؤية الفكرية التي تطرحها. يقرؤها المتلقي فتكتمل لديه اللحظة الشعورية والأثر الأدبي. لكن، ثمة خطوط رفيعة تربط هذه القصص، وتحملها على إيقاعات طباقية، تنثر دلالات تتقاطع في كثير من الأحيان، بحيث يشعر المتلقي أنه أمام عوالم تبتعد عن بعضها إلى حدٍّ قصيّ لكنها تتعالق بشكل يشدّ الانتباه، مما يمنحه شعورًا كليًّا واحدًا ويسمح بأن تُقرأ المجموعة في إطار نفسي متقارب".
وتقول كذلك "ويمكن في هذا السياق أن أشير إلى أن بعض شخصيات القصص قفزت من قصة ووجدت ذاتها في قصة ثانية، كأنما تستكمل دورها وتستأنف أنفاسها وأصواتها ورؤاها بين قصة وأخرى. كما أن بعض الأحداث قد ظهرت في أكثر من قصة بمنظور ورؤية فنية مختلفة، كأنما يُعاد تأمل الحدث الواحد من زوايا متعددة، وهذا التأمل المتعدد يفضي إلى بُنى أو تجلّيات سردية قصصية مختلفة".
وحول وجود تقارب أو تباين بين "جبل الجليد" و"غيمة يتدلّى منها حبل سميك" قالت الدكتورة أماني "لعل الخيط الناظم بين بعض قصص المجموعتين هو الجانب المتعلق بالجانب النفسي للشخصيات، (الرؤية السيكولوجية) والتعمُّق في الحياة الداخلية التي تمثل كنزًا سرديًّا مخبوءًا، من مَهمَّةِ السرد القصصي أن يجادله وأن يفجّره".
وتقول "ففي (جبل الجليد) أَجِدُني أستأنف تأمل النفس الإنسانية ولكن على نحو أكثر عمقًا وتدقيقًا، عبر التجوال في عوالم شخصيات وأحوال جديدة، إذ تواجه الشخصياتُ ذواتَها وتحاول استكشافَها وفَهْمَ بواطنها للنهوض واستئناف مسيرة الحياة. وتبدو الشخصيات في (جبل الجليد) أكثر وَعْيًا وإدراكًا لأهمية هذا النهوض بروح أكثر صرامة وقوة. هناك حضور للشخصيات القوية، المتمردة، المقاوِمة رغم الألم والأسى والخسارات".
وترى أن "أي تغيير في المضامين والرؤى الفكرية يستدعي بُناه وأشكاله الفنية. ثمة تنويع أكثر في تقنيات التجريب في (جبل الجليد) فالأفكار الجديدة تطلّبت بعض الانزياح عن لغة (غيمة يتدلى منها حبل سميك) وعن بناها السردية. فملتُ مثلًا إلى التجريد حينًا، وإلى تقنية كَسْرِ الإيهام المستخدمة في المسرح البريختي".
وتقول "كما منحتُ فرصة لشخوص القصص لمناورة رُواتهم ومواجهتهم ومحاكمتهم، وأفدتُ من تقنية الرسائل، والتقطيع السينمائي وغيرها، بأسلوب أكثر نضجًا ووعيًا بالكتابة السردية والفن القصصي. فالراوي لم يعد محايدًا، وكذلك المؤلف لم يعد يتظاهر بأنه خارج عالمه السردي. هذه الاعتبارات القادمة من الأنماط السردية التقليدية تجاوزها السرد ما بعد الحداثي، الذي تنتمي له قصص (جبل الجليد) مما تطلَّب أبنيةً ولغةً جديدة، آمل أن يتفهمها القارئ ويجد فيها شيئًا من ضالّته الجمالية والسردية. وشخصيًّا، أنتصر للقصة القصيرة".
وختمت الدكتورة أماني داود حديثها بالقول إنها تسعى إلى "الكتابة المتأنّيةِ، العميقةِ، المشغولةِ على نارٍ داخليةٍ هادئة. القصة الجيدة هي التي تنطوي على الدهشة، هي التي تقتنص اللحظة الإنسانية وتُكتَب بحسّ إنساني عميق وبوعي سردي وجمالي خاص. لذلك، أطرح تساؤلاتي المشروعة بما يحيط بي من واقع غريب أو مجنون عبر شخصيات قصصي، وأمنحها فرصة الحديث والتعبير عبر موقعها السردي عن بؤس هذا العالم، أو عمّا تحلم به ولا يمكنها القبض عليه، أو عن رفضها وتمردها. والأكثر من ذلك، هي فرصتي عبر صوتها للصراخ في وجه هذا العالم الظالم: كفى!".
وعلى صعيد متصل، وصف الأديب هاشم غرايبة مجموعة "جبل الجليد" بـ"كشّة" أماني سليمان. ويوضح أن "(هذه) الكشّة هي هالة الشعر المنكوشة أعلى الرأس. هي قاصة من طراز فريد، عنونت مخطوط كتابها (الابن الذي زرع أباه ورشه بالماء) ثم أصدرته بعنوان (جبل الجليد) فيما أجدني بعدما قرأت الكتاب قد أمسكت بكشّة أماني سليمان، محاولًا التعرف على سيرتها من خلال فك شيفرة الرموز والعلامات والمراحل التي أحرقها السرد الذكي".
وأبلغ غرايبة الجزيرة نت قوله إن "القصص الطافية على موج الكتاب لا تدلل على قمة طافية لجبل جليد ما، بقدر ما جرّتني إلى عوالم مضطرمة أجادت القاصة في تبرئة نفسها من تبعاتها. (كشّة) من الأحداث والصور والمعاني والألفاظ تشي برأس بنهرٍ يمور بالحكايات والأفكار والأحداث والتفاصيل المثيرة، فتنسقها القاصة بقصدية تامة في إطار بانورامي، فيبدو الكتاب رواية مدهشة تذكرني بعمارة عصر الباروك: منمنمات غاية في الدقة والجمال، وفي مجملها تشكل مجسمات فاخرة مدهشة".
ووصف خليط الكلمات وموسيقى الواقع وتهويمات الخيال ومنحوتات اللغة وقصقصة القص والرسم بالكلمات والتصوير الفني المتوهج ببلاغة النعت، بأنها "صنعت من (كشّة أماني سليمان) قصصًا تبدو في ظاهرها مختلفة تعبر عن شخوص وأماكن وأزمان، تنوع فيها الرواة وتعددت أساليب السرد، وفي باطنها لاعبة ماهرة وظفت التقنيات السينمائية، وآليات الوصل والقطع، للتعبير عن الحياة النفسية والذهنية للشخصيات، بما يتلاءم مع المناخات الواقعية والسلوكيات الطقسية المناسبة للحدث".
وقال غرايبة "إن تناغم الدراما الداخلية والخارجية، وتوظيف أسلوب الرسائل والمخاطبات والحوارات المختصرة، واللعب بالأصوات، وكسر الإيهام، والمواءمة بين التجريد والتجسيد، والفانتازيا المقنعة، شكلت بمجملها سيرة جوانية للكاتبة، قصقصتها قصصًا من ذاكرة الطفولة والمدرسة والبيت والعائلة والجامعة والجريدة والمدينة".
وواصل قوله "سيرة تعتمد رؤية الذات من خلال الآخر، ملغزة بلغة رمزية خصبة عالية وكثيفة غنية بالدلالات، فضلًا عن معادِلات موضوعية ورموز محبوكة بطريقة حرفية مكَّنَتْ الكاتبة من أن تخفي جبل الجليد خلف (كشّتها)".
ويضيف "فإذا كان القاص يحذق في إيضاح الحدث وترتيب الصور المبعثرة بين الواقع ومخيلته ليسلكها في خيط سبحته، فإن أماني سليمان تجيد العبث بالواقع والوقائع لتبعثر الصور وتعيد تركيبها في لوحة فسيفساء مرصعة بالصور، فيمتعك المشهد البانورامي وتدهشك اللوحات المؤطرة بعناوين: رجل الملاريا، كأس في حفل للموتى، كأسٌ لحفل الموتى، الذي زرع أباه.. ثم تبدأ ظلالها ترتسم على شاشة بعيدة على هيئة كشة مبهمة عليك أن تعيد تفكيكها شعرةً شعرة".
وختم حديثه قائلًا "لا تعرف -أو لا أعرف أنا- من أين تأتي الرجفة: هل أيقظت القصص صورًا وأحداثًا غافية في الذاكرة وعطست مستردة أنفاسها على يد أماني سليمان؟ أم هو تأثير السبكة الحداثية التي نسجت التفاصيل بدقة فمنحت الصورة الكلية كمالها وحفظت للتفاصيل ألوانها الطبيعية؟ ليس بمقدوري أنْ أصفَ.. لكن.. لَكَ أنْ تتخيّلَ هذا وحَسْب. التوقيع: أنا".