آخر الأخبار

سيفيرانس: كابوس المكتب المعاصر وكيف يدفعنا العمل إلى خيانة أنفسنا

شارك
مصدر الصورة

تخيّل أن تستيقظ فجأة في مكتب بلا نوافذ، لا تعرف من أين أتيت ولا إلى أين ستذهب. حياتك كلها محصورة بين جدران بيضاء، وزملاء غرباء، ومهام متكررة لا معنى لها. في اللحظة التي تستخدم فيها مصعد الشركة عند انتهاء دوام العمل، ينطفئ وعيك كموظّف ويستيقظ وعي آخر يعيش حياتك في الخارج: يتنزه، يأكل، يحب، لكنه لا يتذكر عنك، كموظّف، أي شيء.

هذا هو الكابوس الذي يضعنا فيه مسلسل "سيفيرانس" (إنتاج آبل تي في بلاس وإخراج بن ستيلر) منذ مشاهده الأولى: عالمٌ يُفصَل فيه الوعي إلى نسختين لا تعرفان شيئاً الواحدة عن الأخرى.

من هذه الفرضية يبني مسلسل الخيال العلمي الذي عُرض الموسم الأول منه عام 2022 والثاني في 2024، استعارة كثيفة عن ثقافة العمل في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة: اغتراب العامل عن ذاته، الإدارة الحديثة التي تجعل العامل مجرد "ترس في آلة"، وأيديولوجيا "المساعدة الذاتية" التي تلطّف علاقات الاستغلال. وفي قلب كل ذلك يطلّ سؤال أكثر شمولاً: ما الذي يجعلنا ذواتاً موحّدة؟ وما معنى الهوية من دون ذاكرة؟


*
*

"الاغتراب" في أقصى صوره

مصدر الصورة

منذ المشاهد الأولى، يضعنا المسلسل أمام عالمٍ غرائبي يُفصَل فيه وعي الموظف لدى شركة "لومن" من خلال عملية جراحية تنتج شخصيتين منفصلتين تماماً: "الداخلي"(innie) الذي يعيش فقط داخل أسوار الشركة التي يشبه مقرّها إلى حد بعيد، السجن، و"الخارجي"(outie) الذي يعيش خارجها. لا ذاكرة مشتركة بينهما، ولا رغبات، ولا حتى خيط سردي يوحّد التجربة الإنسانية.

من خلال هذه الحبكة يقدّم المسلسل مفهوم ماركسي شهير في أقصى صوره، وهو مفهوم "الاغتراب".

في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية (1844)، يعرّف الفيلسوف الألماني كارل ماركس الاغتراب بأنه الحالة التي يُنتزع فيها العمل من العامل فيصبح شيئاً غريباً عنه، خارجياً وعدائياً. يقضي العامل تحت شروط النظام الرأسمالي، ساعات طويلة في إنتاج شيء لا يتحكّم فيه ولا يعود إليه، شيئاً لا يخصّه. وهنا لا يغترب العامل فقط عن نتاج عمله، بل أيضاً عن عملية الإنتاج نفسها، وعن زملائه، وفي النهاية عن ذاته كإنسان قادر على الإبداع والحرية.

في "سيفيرانس" (Severance - تعني بالعربية "فصل أو قطع")، يفضي الانفصال الجذري في وعي الموظف إلى نسخة متطرّفة لمفهوم الاغتراب. فالعامل لم يعد منفصلاً عن عمله فحسب، بل عن نفسه أيضاً. وإجراء "الانفصال" عند شركة "لومن" يمثّل الحد الأقصى لعلاقات العمل الرأسمالية، حيث لا يخضع وقت الإنسان وقوة عمله فقط للاستملاك، بل وعيه نفسه أيضاً، ويعاد تشكيله لخدمة المؤسسة قبل أي شيء آخر.

في "لومن"، يصبح "الداخلي" محكوماً بحياة عمل لا تنتهي، لا يعرف فيها الراحة أو أي معنى للوجود خارج جدران المكتب. أما "الخارجي" فيستفيد من الراتب وثمار العمل من دون أن يتحمّل كلفة الاغتراب اليومية. يكشف المسلسل هنا عن جوهر المنطق الرأسمالي: نقل الألم والخسارة إلى أجساد غير مرئية منزوعة من الإنسانية، بينما تُزيَّن صورة الحياة الفردية في "الخارج" بالرفاهية ووهم الاختيار الحر.

كابوس التايلورية

مصدر الصورة

وجد اغتراب العامل عن عمله الذي تعمّق خصوصاً مع الثورة الصناعية الثانية وتحوّلاتها، شكله المؤسس في القرن الماضي عبر نظريات الإدارة الحديثة. فقد شكّلت "التايلورية" الإطار الذي نظّم علاقة العامل بعمله وكرّس أرضية التحكّم بالموظفين التي يتمحور حولها المسلسل.

فما هي التايلورية؟

في مطلع القرن العشرين، وضع المهندس الأمريكي فريدريك تايلور ما عُرف بـ"الإدارة العلمية" أو التايلورية، وكان هدفها رفع الإنتاجية عبر تقسيم العمل إلى وحدات قابلة للقياس، وإخضاع كل حركة للرقابة والتنظيم بشكلٍ يضمن الفعالية القصوى.

فالعامل في هذا التصوّر لا يعود مبدعاً أو فاعلاً حرّاً، بل يصبح مجرّد "ترس في آلة" ضخمة، تختزل وظيفته في تنفيذ المهام بكفاءة وسرعة.

في "سيفيرانس"، تجسّد بيئة المكتب المعقمة والمقسّمة بصرامة، والمهام التكرارية الفارغة، وأنماط الرقابة المتشددة، صورةً كابوسيّة لهذه المنهجية.

نرى الشخصيات الرئيسية في العمل، وهم موظفون في "قسم تنقية البيانات الضخمة" يتلقون تدريباً على أداء مهمة مجردة وعديمة المعنى تماماً، وهي فرز أعداد رقمية بناءً على "شعور"، من دون أي معرفة بالصورة الكاملة أو ما الذي يفعلونه حقاً. إنّه الشكل الأقصى للعمل التكراري الفارغ من التفكير والقائم فقط على التنفيذ، والذي يعدّ أساساً في مبادئ التايلورية.

ولا يكسر رتابة هذه المهام سوى حوافز جوفاء مثل "حفلة الوافل" أو "تجربة الرقص الموسيقي" التي يسخر المسلسل بواسطتها من ثقافة الشركات المعاصرة التي تحاول تغطية الاستغلال من خلال نشاطات سطحية أو عبر "جلسات الصحة النفسية". فحتى هذه الأخيرة ليست سوى أداة لتعزيز التطويع والمراقبة التي يجد الموظف نفسه تحتها طيلة فترة دوام العمل.

كذلك، يعكس تصميم الشركة والتقسيم الجذري بيئة مثالية لفرض السيطرة على الموظفين. إذ يعزل هؤلاء عن الأقسام الأخرى ويحرّضهم المدراء على بعض في إطار سياسة "فرّق تسُد"، لمنعهم من بناء تحالفات في ما بينهم أو مساءلة النظام القائم.

أيديولوجيا "المساعدة الذاتية"

مصدر الصورة

يحضر خطاب "المساعدة الذاتية" (self-help) كأداة ساخرة لتعرية هذا البعد الأيديولوجي الذي عرف أوج ازدهاره مع صعود النيوليبرالية .

فشركة "لومن" لا تكتفي بالتحكّم بوعي الموظفين، بل تفرض عليهم أيضاً جرعات من "الإلهام" و"الرعاية" التي تبدو أقرب إلى نسخة كاركاتورية من كتب التنمية البشرية.

يتجسّد ذلك أولاً في "جناح الخلود" حيث تعرض أقوال مؤسس الشركة "كير إيغان" كحِكم ملهمة، لكنها في الواقع لا تختلف عن شعارات تحفيزية فارغة تستخدم لإنتاج الولاء المؤسسي أكثر من أي وعي حقيقي. كما نرى ذلك في جلسات الصحة النفسية التي يُملى فيها على "الداخلي" عبارات إيجابية عن "الخارجي" مثل: "نسختك الخارجية طيّبة. لقد أنارت أيّام الناس بمجرد ابتسامتها". تُذكِّر هذه الجلسات، بدلاً من أن تمنح معنى أو عزاء، العامل بالهوة السحيقة بينه وبين ذاته الأخرى، فتضاعف شعوره بالاغتراب والعزلة.

لكن أذكى تجسيد لهذا البعد يظهر عبر كتاب ألّفه ريكن هيل (مايكل تشرنوس)، زوج أخت مارك (آدم سكوت). فالكتاب، المليء بالعبارات المبتذلة والسطحية، يبدو تافهاً ومثيراً للسخرية في العالم الخارجي - على الأقل في نظر نسخة مارك خارج "لومن".

غير أن النسخ المهرَّبة منه إلى "الداخليين" تتحوّل إلى ما يشبه الشرارة الأولى لوعي طبقي، إذ تُقرأ هناك ككلمات ثورية تحمل وعداً بالتحرر من قبضة الشركة. وهكذا، يتحوّل ما يبدو لغواً سخيفاً في العالم "الحقيقي" إلى مانيفستو شبه مقدّس داخل عالم "الداخليين" الذين حُرموا من المعرفة والإرادة.

بهذا المعنى، يقدّم العمل نقداً مزدوجاً: فهو يسخر من صناعة المساعدة الذاتية المعاصرة التي تَعِدُ الفرد بالتمكين بينما تدفعه إلى الاستكانة في نهاية المطاف إلى النظام القائم وتنحية إمكانية الثورة جانباً، وفي الوقت ذاته يبيّن كيف يمكن حتى للخطابات الفارغة أن تكتسب معنى مقاوماً حين تُقرأ في سياق الحرمان المطلق من الحرية والمعرفة.

الذات: "بيتٌ بمنازل كثيرة"؟

مصدر الصورة

في صميم المسلسل يطلّ سؤال يتجاوز مسألة العمل: هل الإنسان حقاً واحد؟ إذ إنه يمكن قراءة "القطع" الجراحي الذي يفصل وعي الموظف إلى "داخلي" و"خارجي"، كاستعارة عن هشاشة وحدة الذات. فما الذي يجعلنا "ذواتاً" موحّدة؟ هل هو الوعي أم الذاكرة أم الإرادة الحرة؟ وماذا يحدث للهوية حين تتفكك هذه العناصر وتنعزل عن بعضها؟

عالجت الفلسفة الغربية تاريخياً سؤال وحدة الذات بطرق متبانية: بين نظرة وحدوية غير قابلة للانقسام مع الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وأخرى ترى أن وحدة الذات ليست إلا خدعة تصنعها الذاكرة، كما في رؤية الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم.

من جهته، يمثّل تمييز الفيلسوف الفرنسي بول ريكور للهوية السردية عدسة نافعة لقراءة هذه الجزئية في المسلسل.

فهو يرى أن الإنسان لا يفهم نفسه إلا عبر قصة يرويها عن ذاته، تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتوحّد التجارب المختلفة في نسيج سردي متماسك.

يحطّم القطع بين "ذاتين" في "سيفيرانس" إمكانية بناء هوية سردية. فكل واحدة تعيش حياة مبتورة، بلا استمرارية في الذاكرة أو في المسؤولية. "الداخلي" يعيش زمناً أبدياً دائرياً لا يعرف فيه سوى العمل، منقطعاً عن أي سردية أوسع لحياته. و"الخارجي" يعيش حياة يومية عادية، لكنه عاجز عن دمج ما يحدث في العمل ضمن قصته عن نفسه. وبالنتيجة، كلاهما محروم من إمكانية أن يقول "هذه هي قصتي" أو "هذا أنا".

يرى ريكور أن غياب السرد يعني غياب الذات: فالهوية ليست مجرد استمرارية فيزيائية أو نفسية، بل هي قدرة على ربط التجارب داخل قصة واحدة.

يبرهن "سيفيرانس" أن أخطر ما يفعله النظام القائم ليس فقط استغلال العمل أو السيطرة على الوقت، بل سرقة الهوية من الإنسان، عبر تمزيق قصته الشخصية وتحويلها إلى فصول منفصلة لا رابط بينها.

لذلك، يبقى احتمال "إعادة الاندماج" ("خياطة" النسختين معاً من جديد) هاجساً يسكن الموظفين. فهو لا يمثل مجرد أمل بالتحرر من قبضة رب العمل أو النظام، بل محاولة لاستعادة وحدة الهوية وردم الهوّة بين وعيين وإعادة وصل للذاكرة.

ففي الختام، يمكن الإشارة إلى أنّ العمل، الذي فازت عنه بريت لوور وتراميل تيلمان بجائزتي أفضل ممثلة في مسلسل درامي وأفضل ممثل مساعد في مسلسل درامي على التوالي في حفل جوائز إيمي قبل أيام، ينطوي على مفارقة لافتة. فهو من إنتاج شركة "آبل"، وهو ما اعتبره بعض النقاد تجسيداً لسياسة "الاستيعاب" (recuperation)، حيث يحتضن النظام النقد الموجَّه إليه ويعيد توظيفه. فشركات التكنولوجيا العملاقة، وفي مقدمتها "آبل"، تقف اليوم في صلب ثقافة "الاحتراق الوظيفي" التي تضع الإنتاجية والفعالية فوق حياة الموظفين ورفاههم.

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار