يحرك بيدرو كاردوزو مدير مطعم "بونوكيو" في منطقة "بايشا" وسط العاصمة البرتغالية لشبونة ملعقته الخشبية بتركيز ودقة وسط تصاعد الدخان من المطبخ، هو عادة لا يفعل ذلك لكن الزبون القديم ينتظر في الجوار ويطلب أعلى درجات الجودة، في الوقت الذي ينتظر فيه لويس فيليبي فييرا أخباراً سارة من المدير الرياضي بخصوص حسم تجديد عقد المدرب جورجي جيسوس.
يجلس لويس فيليبي على مقعده الجلدي الفاخر في مكاتب نادي بنفيكا بالقرب من مركز كولومبو التجاري، ينظر إلى ساعته بتوتر مع اقتراب غروب شمس الخامس من يونيو 2015 بانتظار خبر تجديد عقد جيسوس، إلا أن العاجل الذي بثته القنوات التلفزيونية حينها جعلته لا يستطيع القيام من مكانه، وضرب بيده على الطاولة وصرخ "اللعنة، لا يمكن أن يحدث هذا !" وذلك بعدما رأى أن المدرب المخضرم قد انضم رسمياً لتدريب الغريم التقليدي سبورتينغ.
جاء المدير الرياضي لبنفيكا إلى الرئيس بوجه تتضح عليه ملامح الارتباك بنية نقل الخبر لكن فييرا سبقه وقال: أريد إزالة كل صور جورجي جيسوس من الملعب والنادي قبل أن تشرق شمس الغد.
صنع جيسوس التاريخ مع بنفيكا، بطل الدوري 3 أعوام متتالية وفريق يتواجد في البطولات الأوروبية وينافس عليها، كانت مهمة العمال بإزالة صوره ليست هينة، ستة أعوام من الذكريات ذهبت أدراج الرياح، ولا أحد يستطيع الاعتراض، فالرئيس الذي لم ينفك عن إطلاق الشتائم أمرهم بذلك قبل أن يتنهد ويقول: لم يكن واحدا منا على الإطلاق. وذلك في إشارة إلى ارتباط جورجي السابق بالغريم التقليدي عندما كان لاعباً قبل أكثر من ثلاثين عاماً منذ خبر التوقيع الصادم.
كان لويس فيليبي يشعر بالغضب والخيانة، قال وهو يصرخ: لقد جعلناه "ملكاً" في الكرة البرتغالية، وبالنهاية رد إلينا الجميل بالتوقيع مع سبورتينغ.. اللعنة لم يجد سوى سبورتنيغ؟
كانت البرتغال بأسرها واقفة على قدم وساق في تلك الليلة، جمهور يحرق الصور والقمصان وآخر يحتفل ويرقص بالحصول على خدمات أحد أنجح مدربي البلاد عبر التاريخ، معلقون يعتبرون الخامس من يونيو 2015 إحدى اللحظات المفصلية في تاريخ كرة القدم البرتغالية، ليست فوز بورتو ببطولة دوري أبطال أوروبا، أو لقطات رونالدو التاريخية، بل انتقال جورجي جيسوس من بنفيكا إلى سبورتينغ.
هدأ فييرا بعد صدمة الخبر، وتذكر ما سمعه قبل أيام بأن جيسوس كان في منزل برونو دي كارفايو رئيس سبورتينغ حينها الواقع في الغارف، المنطقة الساحلية التي يعشق البرتغاليون التواجد فيها في فترة الصيف، وتذكر كذلك خبراً نشرته صحيفة "أو جوغو" قبل الإعلان الرسمي بساعات عن احتمالية تدريب جيسوس للغريم التقليدي، وسخر من نفسه عندما كان يعتبر ذلك خبراً مفبركاً بسبب الارتباط الوثيق بين جورجي والنادي، لكنه لم يكن يعرف أن المدرب الشهير ينتمي فقط لبضعة أشخاص، وفي عالم كرة القدم لا يتحدث سوى بلغة الاحتراف، سواء مع بنفيكا أو سبورتينغ أو حتى الهلال والنصر.
كانت كرة القدم البرتغالية تشتعل، الكل يبحث عن جورجي ، العدو والبطل، إنه ليس بعيداً عن مصدر الحريق فهو في حي أمادورا الذي يبعد 7 كيلومترات عن مقر نادي بنفيكا حيث يركل لويس فيليبي فييرا كل شيء أمامه ويسمع صوته الغاضب من خلف الجدران، أما جيسوس فهو مع المقربين الأربعة منه، شقيقه جوزيه، صديقيه فيتور ولويس زميليه في المصنع قبل نصف قرن، وجوليو نائب رئيس نادي أمادورا والذي وقع مع جيسوس عقداً تدريبياً قبل 30 عاماً تقريباً، يقف الأربعة تحت مظلة أمام مكان كانوا يجتمعون به منذ كانوا مراهقين للعب البلياردو وشراء المرطبات من المتجر الذي يقع خلف منازلهم، قهقهاتهم تقطع السكون الذي يحيط بالحي الذي بات مقراً لسكن المهاجرين من خارج البلاد، أما علاقتهم تدور حول الضحك والذكريات القديمة، ودائماً ما يفسدها جورجي بحديثه عن كرة القدم وأفكاره للمباريات المقبلة.
خرج رئيس بنفيكا ببيان يعلن فيه تعيين روي فيتوريا مدرباً جديداً للفريق، لم يذكر حتى في المؤتمر الصحفي اسم جيسوس واكتفى بقول "الموظف السابق" وبالطبع لن يفوت العجوز السبعيني الفرصة للرد على ذلك.
قال جيسوس بعد تولي تدريب سبورتينغ إن بنفيكا تركه يرحل بعدما ماطله بمفاوضات تجديد التعاقد، والمصادر البرتغالية تصادق على ذلك، إذ كشفت أن فييرا قرر تخفيض راتب جورجي جيسوس البالغ 4 ملايين يورو سنوياً والتقليل من صلاحياته في سوق الانتقالات، بينما قدم كارفايو 6 ملايين يورو وسيطرة كاملة على تعاقدات الفريق.
العارفون ببواطن الأمور قالوا بأن جيسوس، الرجل العنيد والصارم، شعر بـ"قلة احترام" عندما عرض عليه بنفيكا مبلغاً أقل مما كان يتقاضاه، وهو ما دفعه إلى الانتقال نحو سبورتينغ. إذاً كان ذلك القرار ناتجا عن ردة فعل غاضبة ولم يكن 100% رياضياً.
استغل جيسوس كل فرصة للضرب ببنفيكا، مرة قال بأنها مسألة وقت وسبورتينغ سيتجاوز بنفيكا، وأخرى قال بأن كرة القدم التي يلعبها سبورتينغ أفضل من بنفيكا وتناسب أفكاره، وثالثة انتقد قرار تعيين خلفه روي فيتوريا قائلاً بأنه مدرب بلا خبرة ولا دراية تكتيكية.
بدأ الموسم بلقاء سبورتينغ وبنفيكا في كأس السوبر البرتغالية، فاز فريق جيسوس بهدف دون رد بمباراة "الثأر" وفي الدوري وفي أول زيارة له لملعب "النور" فاز سبورتينغ 3-0 بمباراة سميت بـ"ديربي الخيانة"، إذ شهدت أجواء عدائية تجاه المدرب السابق، والشتائم كانت تلاحقه طوال 90 دقيقة، بينما يحتفل بشدة على خط التماس ما أدى إلى دخول عناصر الأمن لحمايته من آلاف الغاضبين في المدرجات.
كان التنافس على أشده بين بنفيكا فيتوريا وسبورتينغ جيسوس، تعثر الأخير أمام فريق أروكا المتواضع ما جعل جورجي يخرج بتصريح ساخن قال فيها: الكثير من الأمور التي تحدث في كرة القدم البرتغالية غير طبيعية. فنحن لدينا أبطال في الملعب وأبطال خارجه. في إشارة إلى تأثير بنفيكا على الحكام، ما جعل وسائل إعلام مقربة من النادي الأحمر تصفه بـ"الموهوم".
خرج جيسوس بتصريح جديد ليضرب فيه ناديه السابق بعدما قال: لقد صنعت فريق بنفيكا، والآن أعتقد أنهم يعرفون مدى الخسارة التي لحقت بهم بعد رحيلي .
لم يحقق جيسوس الدوري مع سبورتينغ خلال 3 أعوام على رأس الدفة الفنية للفريق العاصمي وانتهت علاقته بالفريق في صيف 2018 بشكل مأساوي بعدما هجم عشرات المشجعين الغاضبين على المدرب والفريق في ملعب التدريبات بسبب سوء النتائج واعتدوا عليهم، ليقرر بعدها الخروج من البرتغال لأول مرة في حياته عندما وقع عقد تدريب الهلال.
قلب قرار انتقال جيسوس من بنفيكا إلى سبورتينغ كرة القدم البرتغالية رأسًا على عقب، الجماهير لا تصدق، والإعلام يكتب ويكتب ويكتب، أما جورجي فكان في طاولته المعتادة مع أصدقائه الأربعة في الدور العلوي من مطعم "بونوكيو"، يضحكون على حكاية قديمة عن حفلة راقصة انتهت بشجار بينهم سرعان ما تحول إلى ضحك.
أحدهم التفت إليه ضاحكًا: ماذا فعلت بالبرتغال يا "ميستر" خائن وبطل في يوم واحد؟ كيف تفعل ذلك؟ جيسوس ابتسم غير آبه بما يدور بجانبه في "أفينا دي ليبرتاد" حيث لا يسمع حديث بين الناس غير مناقشة قراره المثير، قطع بيدرو كاردوزو الحديث وهو يحمل طبقاً يتناوله جيسوس منذ عقود إذ قال ضاحكاً: كل شيء يتغير يا جيسوس في هذه الحياة، إلا طبق رأس السمكة.
نظر المدرب المخضرم مبتسماً إلى الطبق، ثم إلى جوزيه، جوليو، فيتور ولويس الذين لم يتغيروا منذ 50 عاماً ورفع شوكته غير آبه بما يحدث بالجوار، ففي الخارج الصحف توزع والقمصان تمزق، أما بالنسبة له فلا شيء يضاهي هذه الجلسة و"رأس السمكة".