آخر الأخبار

إف-1.. لحظة ولادة أول قوة نووية في أوروبا

شارك

في السادسة مساء من يوم الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1946، وتحت قيادة الأكاديمي إيغور كورتشاتوف، شهد الاتحاد السوفيتي حدثًا تاريخيا تمثل في إطلاق أول مفاعل نووي في أوروبا.

НИЦ "Курчатовский институт"

على الرغم من سبق الولايات المتحدة بإطلاق أول مفاعل نووي في العالم عام 1942، إلا أن هذه الخطوة مثلت علامة فارقة ورمزا بالغ الأهمية للاتحاد السوفيتي، إذ أعلن عن انضمامه رسميا إلى نادي الدول الرائدة في مجال العلوم والتكنولوجيا النووية، وذلك في خضم السباق المحتدم في تلك الفترة.

تم إنجاز هذا المشروع الطموح في وقت قياسي، حيث اكتمل بناؤه في أقل من عامين. بدأ المفاعل عملياته عبر إطلاق سلسلة من تفاعلات الانشطار النووي لليورانيوم، ما مثل البداية الفعلية لتطور البرنامج النووي السوفيتي بشقيه، العسكري والمدني.

أطلق على هذا المفاعل اسم "إف-1" كاختصار للعبارة "الأول فيزيائيا"، ليعكس الغاية البحثية والتجريبية الأساسية من بنائه، وهي تمهيد الطريق لبناء مفاعلات صناعية أكبر تعمل بالجرافيت واليورانيوم لإنتاج البلوتونيوم اللازم لبرنامج الأسلحة النووية.

أسندت مهمة تشييد هذا الصرح العلمي المعقد إلى العالم إيغور كورتشاتوف، رئيس المختبر رقم 2 التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية، والذي يمثل النواة الأولى لما يعرف اليوم بمعهد كورتشاتوف الوطني للأبحاث في موسكو.

مصدر الصورة

واجه العلماء والمهندسون السوفييت تحديات كبيرة، حيث كانت خبرتهم في بناء مثل هذه الأجهزة المعقدة شبه معدومة. كان كل شيء يُنفذ للمرة الأولى، بدءا من تأمين المواد الخام مثل اليورانيوم والجرافيت بدرجات نقاء غير مسبوقة، ومرورا بتطوير تقنيات بناء جديدة. تطلبت طبيعة العمل النووي مستويات عالية جدا من النقاء الكيميائي للمواد، إذ إن أدنى نسبة من الشوائب كانت كفيلة بامتصاص النيوترونات وإخماد التفاعل المتسلسل قبل أن يبدأ. لتجاوز هذه العقبة، بذلت جهود هائلة لتنقية المواد وضمان جودتها.

وضع المفاعل داخل مبنى خاص أطلق عليه اسم "المبنى كي"، والذي صمم خصيصا لاستيعابه ولتوفير الحماية الإشعاعية. تضمن المبنى حفرة خرسانية بعمق سبعة أمتار، ومختبرا تحت الأرض مجهزا بلوحة التحكم. كان الهدف من هذا العمق تشكيل درع بيولوجي يحمي العاملين من الأشعة القاتلة. كما أن الوصول من المختبر إلى الحفرة التي يحتويها المفاعل لم يكن مباشرا، بل عبر ممر ضيق متعرج الشكل، مبني من طبقات سميكة من الرصاص وكتل من خليط البارافين مع حمض البوريك، وهي مواد تتميز بقدرتها على امتصاص النيوترونات وإبطائها. اكتمل بناء هذا المبنى الحصين في صيف عام 1946، لتبدأ بعدها مباشرة، في الخامس عشر من نوفمبر من العام نفسه، مرحلة بناء المفاعل نفسه داخله.

مصدر الصورة

برزت الحاجة الملحة لبناء مفاعل نووي في إطار السباق لتطوير السلاح النووي، الذي يتطلب مادة انشطارية أساسية هي البلوتونيوم-239. لا يوجد هذا النظير في الطبيعة بشكل حر، بل يجب إنتاجه صناعيا عبر تعريض اليورانيوم-238 لسيل من النيوترونات داخل بيئة محكمة. لإنتاج كميات كبيرة منه تكفي لصنع رأس نووي، كان لا بد من وجود مفاعل قادر على تحقيق تفاعل متسلسل مستدام ومتحكم به، يوفر تدفقا قويا للنيترونات ولفترات طويلة.

تألف قلب مفاعل "إف-1" من تصميم هندسي دقيق، عبارة عن منظومة كروية متعددة الطبقات من قوالب الجرافيت واليورانيوم. تكونت هذه المنظومة من 76 طبقة، شكلت 60 طبقة منها قلب المفاعل النشط حيث تجري تفاعلات الانشطار، واشتملت على خليط من قوالب الجرافيت واليورانيوم. أما الطبقات الست عشرة المتبقية، فتوزعت ثمانية في الأعلى وثمانية في الأسفل، وتكونت من قوالب جرافيت خالصة لتشكل طبقة عازلة تحيط بالقلب وتنظم تدفق النيوترونات.

في اللحظة التاريخية المسجلة، عند السادسة مساء يوم 25 ديسمبر 1946، وبعد رفع قضيب التحكم مسافة 26 سنتيمترا، بدأ أول تفاعل نووي متسلسل ومستقر في الأراضي السوفيتية. لم يكن هذا الإنجاز مجرد تجربة مخبرية رمزية، بل قدم كميات قابلة للوزن من البلوتونيوم، وهي كميات هائلة مقارنة بالكميات الضئيلة التي كان العلماء يتعاملون معها سابقا لمجرد التأكد من وجود العنصر. تحول المفاعل "إف-1" بعد تشغيله إلى منصة بحثية، وأداة فعالة لدراسة الخصائص الفيزيائية للمواد وتصميمات قلوب المفاعلات المستقبلية. بواسطته أجريت عشرات الأبحاث في الفيزياء النووية، وقيست خصائص عدد كبير من المواد الانشطارية.

مصدر الصورة

ظل هذا المفاعل الرائد في الخدمة لأكثر من ستين عاما، شاهدا على حقبة وتطورا علميا هائلا. في السادس والعشرين من ديسمبر 2016، أي بعد سبعين عامًا بالضبط على تشغيله، تم تحويل المبنى إلى متحف يخلد هذا الإرث.

يصنف المفاعل "إف-1" اليوم كمعلم علمي وتكنولوجي وطني في روسيا. يضم المعرض أدوات تاريخية ومعدات علمية تعود إلى أربعينيات القرن العشرين، بالإضافة إلى مجموعة غنية من الصور والوثائق الأرشيفية والملفات الشخصية للعلماء الذين أسهموا في هذا المشروع العملاق.

هكذا، لا يقتصر دور المتحف على عرض الآلات، بل يسرد قصة مشروع علمي وحضاري طموح، كان حجر الأساس لتطور العديد من المجالات في الاتحاد السوفيتي ووريثته روسيا، من برنامج الطاقة النووية إلى الأساطيل البحرية المدعومة بالطاقة الذرية، وحتى التطبيقات السلمية في مجال الطب والصناعة، ليظل "إف-1" شاهدا حيا على لحظة انطلاق ثورة علمية غيرت وجه العالم.

المصدر: RT

شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار