آخر الأخبار

الطحلب الياباني الذي نجا لأكثر من 9 أشهر في الفضاء

شارك

تنتشر على الأرض بيئات بالغة القسوة، من الفوهات الحرارية في أعماق المحيطات إلى الأنهار الجليدية المتجمدة. ورغم شدتها، فإنها لا تضاهي بيئة الفضاء الخارجي، حيث تواجه الكائنات هناك تغيرات حادة في درجات الحرارة، وانعدام الجاذبية تقريبا، ومستويات عالية من الإشعاع، وكلها عوامل تدفع حدود القدرة البيولوجية على البقاء إلى أقصاها.

يصف عالم النباتات في جامعة هوكايدو اليابانية، توموميشي فوجيتا، الفضاء بأنه "مكان شديدة القسوة على الكائنات الحية".

ويقول في حديثه للجزيرة نت إن "الفضاء خال من الهواء، ومشبع بإشعاع فوق بنفسجي مكثف قادر على إتلاف الحمض النووي، كما تتذبذب درجات الحرارة فيه بين التجمد الحاد والحرارة الشديدة"، ما يجعل أي شكل من أشكال الحياة يقف أمام اختبار وجودي صارم.

ورغم هذه الظروف المتطرفة، تتزايد قائمة الكائنات التي أثبتت قدرتها على النجاة في الفراغ الكوني البارد. من أشهرها بطيء المشية أو دب الماء، إضافة إلى بعض النباتات المزهرة، مثل رشاد أذن الفأر أو رشاد ثال (أرابيدوبسيس ثاليانا).

ومؤخرا، انضم نوع من الطحالب إلى هذه القائمة، وهو "طحلب الأرض المنتشر"، المعروف علميا باسم "فيسكوميتريلا باتنس". فقد أثبت قدرته على الصمود في رحلة طويلة إلى الفضاء الخارجي، وفقا لما أعلنه فوجيتا وباحثون آخرون جامعة هوكايدو في دراسة حديثة نُشرت في مجلة " آي ساينس ".

مصدر الصورة استطاعت الطحالب البقاء حية في بيئة الفضاء القاسية والمشبعة بالإشعاع (تشانغ هيون ماينغ ومايكا كوباياشي – جامعة هوكايدو)

قدرات استثنائية.. لماذا هذا الطحلب؟

تُعرف الطحالب -وهي كائنات حية مائية متنوعة، شبيهة بالنباتات، ذاتية التغذية، تقوم بالبناء الضوئي، نراها غالبا في البيئات الرطبة والظليلة- بقدرتها اللافتة على تحمل الظروف القاسية، بما في ذلك الإشعاع القوي والجفاف الشديد. ويُعتقد أنها من أوائل الكائنات التي استطاعت التأقلم مع الحياة على اليابسة قبل نحو 500 مليون عام.

إعلان

وبينما ركزت معظم الدراسات السابقة على كائنات أكبر مثل البكتيريا أو المحاصيل النباتية، اختار الباحثون في هذه الدراسة طحلب الأرض المنتشر باعتباره نموذجا نباتيا مثاليا. فخصائصه الفريدة وبنيته البسيطة وجينومه المتسلسل جعلته من أكثر الأنواع استخداما في الأبحاث العلمية حول النمو والتطور والتكيف.

واليوم، ينمو هذا الطحلب في البيئات المعتدلة حول المستنقعات والبرك في أوروبا وأميركا الشمالية وشرق آسيا، لكنه يشتهر بقدرته على العيش في أكثر البيئات تطرفا على كوكب الأرض من التندرا القطبية وقمم جبال الهيمالايا المتجمدة وجليد القارة القطبية الجنوبية إلى حقوق الحمم البركانية الجديدة، وحتى في الرمال الحارقة والجافة تماما في صحراء " وادي الموت " في كاليفورنيا.

ومن هذا التنوع المذهل في قدرات التحمل، انطلق فوجيتا، وهو المؤلف الرئيسي للدراسة، من سؤال بسيط لكنه جوهري: إذا كان هذا الطحلب ينجو في الجليد القارس والبراري الصحراوية الجافة والبيئات البركانية، فهل يضيف إنجازا آخر إلى سجله، ويبرهن على قدرته على البقاء في بيئة الفضاء القاسية؟

مصدر الصورة وحدة التعرض للفضاء المُستخدمة في التجربة، بجانب عملة معدنية من فئة 100 ين للتوضيح (توموميتشي فوجيتا – جامعة هوكايدو)

اختبار صمود الطحلب على الأرض

قبل إرسال هذا الطحلب إلى الفضاء، عمل الباحثون على محاكاة ظروفه القاسية على الأرض، فعرّضوا عيناته لمجموعة من الضغوط الشبيهة ببيئة الفضاء، بما في ذلك درجات الحرارة القصوى والبرودة الشديدة والفراغ شبه التام ومستويات مرتفعة من الأشعة فوق البنفسجية..

ولتحليل قدرة الطحلب على التكيف مع تلك الظروف المدمرة، ركز الفريق على 3 أنواع من خلاياه في مراحل مختلفة من دورة حياته: البنى الفتية (الطور الأول من نمو الطحلب)، والخلايا الجذعية الحاضنة التي تتشكل تحت الضغط، والأكياس البوغية التي تضم داخلها الأبواغ المسؤولة عن التكاثر.

وكشفت التجارب أن الإشعاع كان العامل الأكثر فتكا، فقد أدى سريعا إلى تدمير الطور الفتيّ تماما. ورغم أن الخلايا الحاضنة أظهرت قدرا أعلى من المقاومة، فإنها لم تقترب من مستوى التحمل الذي أظهرته الأبواغ المحمية داخل الأكياس البوغية.

ففي كل الاختبارات تقريبا، كانت هذه الأكياس الأكثر تحملا للضغوط والصمود أمام الأشعة فوق البنفسجية والحرارة الشديدة والبرودة القارسة. وتحملت الإشعاع بمعدل يفوق قدرة أي جزء آخر في النبات بنحو ألف مرة، في أداء يقترب من قدرات أكثر الكائنات تطرفا على الأرض.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل صمدت الأبواغ تحت تجميد شديد بلغ 196 درجة مئوية تحت الصفر لمدة أسبوع، وهي درجة تعادل تقريبا درجة حرارة النيتروجين السائل. كما تحملت حرارة مرتفعة تصل إلى 55 درجة مئوية لمدة شهر كامل، وهي حرارة تتجاوز الحدود الآمنة، ويمكن أن تسبب إجهادا شديدا للجسم البشري. وبسبب هذا التحمل المبهر، اختيرت الأكياس البوغية لتكون العينة المرسلة إلى محطة الفضاء الدولية.

ويفسر فوجيتا هذا الصمود بالقول إن "الغلاف الخارجي الذي يحيط بالأبواغ يعمل كدرع واق يمتص الأشعة فوق البنفسجية ويحمي الخلايا من الجفاف". ويعتقد أن "هذه الخاصية تطورت مبكرا في تاريخ النباتات البرية، عندما بدأت الطحالب الأولى بالانتقال من الماء إلى اليابسة، فاحتاجت إلى دروع طبيعية تحميها من بيئة الأرض القاسية آنذاك".

مصدر الصورة معظم أبواغ هذا الطحلب نجت لمدة 9 أشهر خارج محطة الفضاء الدولية (توموميتشي فوجيتا – جامعة هوكايدو)

من التجارب الأرضية إلى اختبار الفضاء

لإجراء اختبار أكثر واقعية ودقة، أرسل الباحثون مئات الأكياس البوغية إلى محطة الفضاء الدولية، حيث ثبّت رواد الفضاء العينات على السطح الخارجي للمحطة داخل منصة خاصة متصلة بوحدة مختبر "كيبو" اليابانية . وهناك، بقيت لأكثر من 9 أشهر، من أوائل مارس/آذار حتى أواخر ديسمبر/كانون الأول 2022.

إعلان

وعند عودة العينات إلى الأرض بعد 283 يوما من التعرض المستمر لظروف الفضاء القاسية، وجد الفريق أن تأثير هذه الظروف كان محدودا بشكل لافت. فقد أظهرت الأبواغ قدرة استثنائية على البقاء حية دون أي ضرر، في أداء يوازي قدرة الكائنات الشهيرة بصلابتها مثل بطيئات المشية.

وأظهرت النتائج أن هذا الطحلب تفوق بوضوح على أنواع نباتية أخرى جرى اختبارها في ظروف مماثلة سابقا.

فعندما زُرعت الأبواغ في أطباق بتري عند عودتها، استطاع أكثر من 80% منها مواصلة النمو، ونما كثير منها بشكل طبيعي، وكأن رحلة الفضاء لم تترك عليها أثرا.

وحافظت الأبواغ أيضا على مستوياتها الطبيعية من الكلوروفيل، الصبغة الأساسية لعملية التمثيل الضوئي، باستثناء انخفاض طفيف بنسبة نحو 20% في "الكلوروفيل أ" الأكثر حساسية للضوء. ومع ذلك، لم ينعكس هذا التراجع على صحة الأبواغ العامة أو قدرتها على النمو.

ويقول فوجيتا "كنا نتوقع أن لا ينجو شيء تقريبا، لكنّ ما حدث كان عكس ذلك تماما. فوجئنا بأن معظم الأبواغ بقيت حية وقادرة على الإنبات مرة أخرى عند زراعتها في المختبر. لقد كانت قدرة هذه الخلايا النباتية الصغيرة مدهشة حقا".

ويتساءل تعليقا على هذه النتيجة المفاجئة "لماذا تتمتع هذه الأبواغ بكل هذه القدرة على الصمود؟"

ويضيف "لا نعرف بعدُ السبب الدقيق، لكن قد يعود ذلك إلى دخولها في حالة سبات خلال وجودها في الفضاء. صحيح أن نموها كان أبطأ مما توقعنا، لكنّ عدد الأبواغ التي أنبتت كان أعلى بكثير من تقديراتنا".

مصدر الصورة استمر ما يقارب 80% من أبواغ الطحالب في الإنبات بعد عودتها إلى الأرض (تموميتشي فوجيتا-جامعة هوكايدو)

خطوة نحو بناء نظم بيئية خارج الأرض

باستخدام البيانات التجريبية، وضع الفريق نموذجا تقديريا يشير إلى أن أبواغ هذا الطحلب قد تتمكن نظريا من الصمود في الفضاء لمدة تصل إلى 5600 يوم، أي نحو 15 عاما. ومع ذلك، يشدد العلماء على أن هذا الرقم يبقى تقديرا أوليا يحتاج إلى مزيد من التجارب لتأكيده.

يقول فوجيتا إن "معظم الكائنات الحية، بما في ذلك البشر، لا تستطيع النجاة حتى لفترة قصيرة في بيئة الفضاء القاسية والمشبعة بالإشعاع. ومع ذلك، احتفظت أبواغ الطحلب بحيويتها لشهور متواصلة تحت التعرض المباشر، مما يقدم دليلا قويا على أن الحياة على الأرض تمتلك، على المستوى الخلوي، آليات داخلية تمكنها من تحمل ظروف تتجاوز حدود البيئة الأرضية".

ويُرجح أن هذه القدرات الاستثنائية كانت السبب وراء نجاح الطحالب والبريوفيتات الأخرى -مثل الحزازيات- من القيام بالقفزة التكيفية الأولى للنباتات من الماء إلى اليابسة قبل ملايين السنين.

استخلصت هذه الكائنات البرية الأولى على الأرض العناصر الغذائية من الصخور، وأسهمت في تشكيل التربة الأولى التي مكنت الحياة من الانتشار عبر المناطق الجافة على سطح الكوكب. ولهذا السبب، أصبحت محط اهتمام الباحثين الذين يستكشفون إمكانية تهيئة بيئات صالحة للحياة على كواكب أخرى.

ورغم أن الدراسة تبدو للوهلة الأولى اختبارا لحدود تحمل نوع واحد من الكائنات، إلا أنها تكشف جانبا جديدا من بيولوجيا الأرض قد لا يقتصر على سطح كوكبنا وحده.

ويأمل فوجيتا، الذي يشتهر بدراساته حول تحمل النباتات للبيئات القاسية، أن يساعد هذا الاكتشاف في مستقبل الدراسات المتعلقة بتربة المريخ، وأن يفتح أفقا جديدا للبحث في الزراعة خارج كوكبنا.

ويقول "أتمنى أن تكون دراستنا على الطحالب نقطة البداية لبناء نظم بيئية حقيقية خارج الأرض".

ويشير إلى أن "فهم كيفية صمود الكائنات الأرضية مثل الطحالب والنباتات المزهرة والميكروبات، ومعرفة مدى تحملها للتعرض طويل المدى لبيئة الفضاء، يمكن أن يوفر معرفة أساسية لتطوير أنظمة طبيعية قادرة على دعم إنتاج الغذاء في البيئات الفضائية".

إعلان

ورغم أن الأمر لا يعني أن الإنسان قادر على العيش خارج الأرض في الوقت الحالي، فإن هذه النتائج قد تساعد مستقبلا في توسيع حدود وجودنا إلى ما بعد كوكبنا.

ويخطط الباحثون في المرحلة المقبلة لتحليل الجينات المسؤولة عن قدرة الأبواغ على تحمل بيئة الفضاء، لمعرفة ما إذا تعرضت لأي تلف ناتج عن الأشعة فوق البنفسجية، ويأملون في اختبار أنواع أخرى من النباتات لفهم أسرار بقاء هذه الخلايا القوية في ظروف لا ترحم.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار