آخر الأخبار

كارلو روفيلي: ما الذي أخطأنا في فهمه حول أصول ميكانيكا الكم؟

شارك

مقدمة الترجمة

تخيّل عالمًا حيث كل شيء حولك لا يسير كما اعتدت أن تفهمه: الجسيمات لا تتحرك بسلاسة، الضوء قد يكون موجة وجسيمًا في الوقت ذاته، والأشياء تتأثر ببعضها رغم المسافات الشاسعة بينها. هذا هو عالم ميكانيكا الكم، النظرية التي قلبت فهمنا للواقع رأسًا على عقب.

في هذا المقال المترجم من مجلة "نيوساينتست"، يأخذنا الفيزيائي الشهير كارلو روفيلي، في رحلة ساحرة عبر ولادة هذه النظرية العجيبة: من اكتشافات بلانك وآينشتاين، مرورًا بصياغة قواعدها على يد بورن وهايزنبرغ وديراك، وصولًا إلى أمواج شرودنغر الشهيرة.

يوضح روفيلي كيف تكشف هذه النظرية عن عالم متشابك وغريب، لكنه قابل للفهم، حيث يتشكل الواقع من طريقة تأثير كل شيء على الآخر، وتصبح الاحتمالات جزءًا أساسيًا من طبيعة الكون نفسه.

مصدر الصورة الفيزيائي الشهير كارلو روفيلي (فرونتيراس دو بينسامينتو)

نص الترجمة

كثيرًا ما تُروى قصة نشأة ميكانيكا الكم، غير أنها -في نظري- لا تُروى دومًا كما يجب، فعادةً ما تبدأ الحكاية في دروس الفيزياء التمهيدية بالمعادلة الباهرة التي صاغها إروين شرودنغر عام 1926، تلك التي منحت الموجات الكمية لغتها الرياضية.

لكنني أرى أن هذا التركيز على الموجات قد أورثنا التباسًا لا يزال يرافقنا حتى يومنا هذا، فالشرارة الأولى للنظرية لم تشتعل هناك، بل قبل ذلك بعام، على يد الفيزيائي وعالم الرياضيات الألماني ماكس بورن وشركائه في البحث.

يطيب لي أن أستوقف القارئ عند هذه اللحظة، ليس فقط من باب إنصاف بورن ومنحه ما يستحق من تقدير، بل لأنني مؤمن بأن التركيز المُفرِط على موجات شرودنغر هو ما ألقى بنا في دوامة الحيرة المستمرة حول ما تكشفه لنا ميكانيكا الكم عن حقيقة هذا العالم.

دعني أعود إلى البداية. كثيرًا ما يُقال إن فيزياء الكم هبطت كالمفاجأة، في زمنٍ ظن فيه الفيزيائيون أنهم قد أحاطوا بجميع القوانين الأساسية للطبيعة، لكن الحقيقة أن مثل هذا الزمن لم يوجد قط. ففي أواخر القرن 19، كانت الساحة العلمية غارقة في الحيرة، والفيزيائيون يتخبطون أمام أسئلة جوهرية لم يجدوا لها جوابًا.

إعلان

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1900، قدّم ماكس بلانك معادلة بسيطة تفتقر إلى السند النظري، في محاولته لفكّ لغز بعض القياسات الغامضة للإشعاع الكهرومغناطيسي داخل التجاويف الساخنة. ومع ذلك، لم يلتفت إليه أحد.

كانت تلك المعادلة هي: E=hν، حيث تربط طاقة الإشعاع (E) بتردده (ν) من خلال ثابت جديد تمامًا هو (h)، سيُخلّد لاحقًا باسم ثابت بلانك. وما بدا آنذاك مجرد رقم غريب، صار اليوم العلامة التي تحدّد أفق الظواهر الكمية ومقياس عالمها الخفي.

ويشاء القدر أن تمر 5 أعوام فقط، ليظهر ألبرت آينشتاين ويبصر ما تخفيه معادلة بلانك بين رموزها، وهو أن الضوء ليس مجرد موجة كما اعتقد الجميع، بل جسيمات أو حبات صغيرة من الطاقة، أو ما أسماها "كمّات من الضوء"، يحمل كل منها قدرًا محددًا من الطاقة مقداره E=hν.

غير أن هذا التصور تعارض بقوة مع اليقين الراسخ آنذاك بأن الضوء عبارة عن موجة. ولنا أن نتخيّل، لو أن باحثًا شابًا اليوم في مرحلة ما بعد الدكتوراه تجرأ على طرح رؤية كهذه تُناقِض المُسلّمات الراسخة، بالطبع لم يكن ليلتفت إليه أحد، ولظل صوته يتلاشى في ضجيج المؤسسة العلمية.

مصدر الصورة ماكس بورن (جامعة رايس)

حتى آينشتاين نفسه لم يكن استثناءً، ولم تكن أفكاره بمنأى عن التشكيك، فقد صعد نجمه سريعًا بفضل نظريته في النسبية، لكن حديثه عن "كمّات الضوء" بدا لكثيرين ضربًا من الخيال، لدرجة أن رسالة توصية وُجّهتْ إلى وزارة التعليم في برلين لتأمين منصب جديد له، وصفتْ آينشتاين بالشاب العبقري الذي ينبغي التسامح مع "أفكاره السخيفة" بشأن كمّات الضوء. لكنّ ما اعتُبر يومًا سخفًا، أثبتته التجربة لاحقًا، فتحوّل إلى حقيقة راسخة، وكان السبب الذي قاده إلى جائزة نوبل.

استهل آينشتاين بحثه في هذا الموضوع بالعبارة التالية: "يبدو لي أنّ العديد من الملاحظات تزداد وضوحًا إذا افترضنا أن طاقة الضوء موزّعة في الفضاء على نحو متقطع". وهنا علينا أن نتأمل قليلًا بداية حديثه حينما قال "يبدو لي"، فالناس العاديون يتكلمون وكأن اليقين حليفهم، في حين نجد العباقرة دائمي التردد.

جاءت الخطوة التالية في مسيرة نظرية الكم على يد عالم الفيزيائي الدنماركي نيلز بور. انصب اهتمام بور على سرّ الذرة، تلك الوحدة الصغيرة التي تُطلِق ضوءًا عند ترددات دقيقة لا تخطئها أجهزة المختبر. ومن تأملاته خرج بفكرة مدهشة: الإلكترونات لا تدور حول النواة كيفما شاءت، بل تلتزم بمدارات خاصة، مُحددة سلفًا، تُسمى مدارات "كمية". وعندما ينتقل الإلكترون من مدار إلى آخر، فإنه لا يقطع المسافة تدريجيًا، بل يقفز قفزة مفاجئة، يُطلِق معها كمًّا من الضوء (فوتونًا). وهذه القفزات الغامضة هي ما أكسبت نظرية بور شهرتها.

بالنسبة لمعظم الفيزيائيين، بدا الأمر كأنّه ضربٌ من السحر الأسود، غير أن الفكرة أثبتت نجاحها: فبفضل هذه الافتراضات الجريئة، استطاع بور أن يتنبأ بترددات الضوء المنبعث بدقة مدهشة. وهكذا بدأ ستار الغموض المحيط بالذرة ينفرج شيئًا فشيئًا.

ذاع صيت نيلز بور، فأسس في كوبنهاغن معهدًا أصبح منارة تهتدي إليها العقول الشابة اللامعة من الجيل الجديد، في محاولة لسبر أغوار فيزياء الذرة حتى أعماقها. وكان من بين هؤلاء، عالم الفيزياء الألماني فيرنر هايزنبرغ. ففي صيف عام 1925، وتحت وطأة أفكار بور الملهمة، انسحب الشاب هايزنبرغ البالغ من العمر 23 عامًا -والمصاب بنوبة حادة من حمى القش (حساسية الأنف)- إلى عزلة قصيرة على جزيرة هيليغولاند، تلك الرقعة القاسية التي تعصف بها رياح بحر الشمال.

إعلان

بعد أيام محمومة من الحسابات المكثفة والمضطربة، والزاخرة بالأفكار المربكة، توصّل هايزنبرغ إلى حساب جريء سيغيّر مسار العلم. لم يعد موقع الإلكترون عنده مجرد متغير منفرد، بل تحوّل إلى جدول من الأعداد، تتقاطع صفوفه وأعمدته لتكشف عن المدار الذي يبدأ منه الإلكترون والمدار الذي ينتهي إليه، في قفزته الكمية الغامضة.

بعد أعوام، كتب هايزنبرغ عن تلك اللحظة على الجزيرة، ولعله أضفى على الذكرى مسحةً من رومانسية مشوبة بالحنين: "كانت الساعة تقترب من الثالثة فجرًا حين تكشّفت أمامي نتائج الحسابات.. ارتجف وجداني من الداخل، وتركتني النتائج مشدوهًا، مضطربًا لا تعرف السكينة سبيلًا إلى نفسي، لدرجة أن النوم لم يظفر بجفوني.. انتهى بي المطاف متلمسًا طريقي إلى خارج المنزل، أخطو بخفوت في ظلام الليل الدامس، ثم تسلقتُ صخرة تعلو البحر عند حافة الجزيرة، وجلستُ أحدّق في الأفق، أترقب لحظة بزوغ الشمس".

مصدر الصورة ماكس بلانك (يمين) ونيلز بور (مواقع التواصل الاجتماعي)

معادلة أشبه بالوحي

عاد هايزنبرغ إلى جامعته في غوتنغن، مثقلاً بأوراق حساباته التي بدت كأنها فوضى عارمة لا تقود إلى شيء. لكن ما إن سلّمها إلى أستاذه ماكس بورن، حتى التقط الأخير من تلك الفوضى ومضةَ أمل لفيزياء جديدة تمامًا. أدرك بورن أن طبيعة المقادير الفيزيائية (مثل الموقع أو الزخم) لا تُفصح عن أسرارها عبر متغيرات بسيطة، بل عبر كيانات رياضية أعقد.

تتمتع هذه المقادير بخاصية غريبة: عند ضربها ببعضها لا تكون النتيجة دائمًا هي نفسها إذا عُكست الترتيبات، أي أن الضرب غير تبادلي.

ومن هنا، خرجت العلاقة التي ستصبح حجر الأساس في فيزياء الكم: وهي أن موضع الإلكترون (X) وزخمه (P) لا يتبادلان الأدوار بسلاسة، بل ينسجان معادلة عميقة تقول: XP – PX = ih/2π.

في هذه المعادلة، يمثل الرمز (h) ثابت بلانك الذي قُدِّم قبل 25 عامًا، فيما يشير (i) إلى الوحدة التخيلية (الجذر التربيعي لـ -1). وهذه العلاقة تُعد من الأسس الجوهرية في ميكانيكا الكم.

هذه المعادلة الغامضة الأشبه بالوحي، تُعدّ جوهر نظرية الكم، فهي تعني أننا إذا بدأنا بقياس موضع الجسيم ثم سرعته، فقد نحصل على نتيجة تختلف عمّا إذا عكسنا الترتيب وبدأنا بقياس السرعة قبل الموضع. وبذلك يتضح أن الموضع والسرعة ليسا من الخصائص التي يمكن تحديدها بدقة وبصورة متزامنة للإلكترون.

أرسل بورن مقالة هايزنبرغ إلى إحدى الدوريات العلمية باسم هايزنبرغ، ثم عاد لينشر بمعونة مساعده البارع باسكال جوردان -الذي كان حينذاك في أوائل العشرينيات من عمره- الورقة التي ستُصبح حجر الأساس في ميكانيكا الكم، متضمنة المعادلة الجديدة. وبسخاء بالغ، نسب الفضل كلّه إلى هايزنبرغ. ومع أن الكثير من التوضيحات والتطبيقات المدهشة كانت بانتظار النظرية عام 1925، فإن ما نُشر في مقالات بورن وجوردان وهايزنبرغ كان كافيًا لوضع نظرية الكم على أسسها الراسخة.

من وجهة نظري، يستحق ماكس بورن الفضل الأكبر في اكتشاف نظرية الكم، أكثر من أي عالم آخر شارك في هذه المغامرة الفكرية العظيمة، فهو من صاغ مصطلح "ميكانيكا الكم"، واستشفّ المعادلة التأسيسية: XP – PX = ih/2π. وبالتالي، يُعدُّ بورن البطل المجهول في تاريخ نظرية الكم.

بعد بضعة أشهر، أثبت عالم الفيزياء النمساوي فولفغانغ باولي أن النظرية الجديدة لم تكن تكتفي بحساب ترددات الضوء المنبعث من الذرات، بل كانت قادرة أيضًا على تحديد شدته بدقة من المبادئ الأولى. وفي رسالة إلى صديقه القديم ميشيل بيسو، عبّر آينشتاين عن إعجابه العميق بذلك، فكتب يقول له: "إن أكثر النظريات التي تسببتْ في لجة متقافزة من الأفكار التي يصعب معها السكون في الأزمنة الحديثة هي نظرية هايزنبرغ-بورن-جوردان حول الحالات الكمية، إنها حسابات أشبه بالسحر الحقيقي".

إعلان

أما نيلز بور، الأستاذ المخضرم، فعاد ليروي الحكاية بعد عدة أعوام قائلًا: "في ذلك الوقت لم يكن أمامنا سوى أمل غامض، ربما هشّ، في إعادة صياغة النظرية بحيث يُستبعد تدريجيًا كل استخدام غير مناسب للأفكار الكلاسيكية. وبسبب صعوبة هذا المسعى، تملكتنا جميعًا موجة من الدهشة العارمة تجاه هايزنبرغ، الذي وبكل جرأة، وفي 23 من عمره فقط، حقق ذلك دفعة واحدة". لكن، ولكي نكون منصفين، علينا الاعتراف بأن هايزنبرغ تمكن من تحقيق هذا النجاح بلمسة دعم من أصدقائه، لكن القصة لم تُسدِل ستائرها بعد، ولم تبلغ الرحلة منتهاها عند هذا الحد.

في البداية، أدرك عالم الفيزياء البريطاني بول ديراك، الذي كان حينذاك شابًا في أوائل العشرينيات من عمره، أن جداول هايزنبرغ ليست سوى متغيرات غير تبادلية، فشيّد نظرية تجريدية، تَبيّن لاحقًا أنها تعادل في جوهرها ما توصّل إليه "سحرة غوتنغن" (أو بمعنى أدق عباقرة جامعة غوتنغن، مثل بورن، وهايزنبرغ، وجوردان*).

ثم هبّت العاصفة، فإذا بشرودنغر يتوصل إلى نتائج تضاهي ما بلغه باولي، لكن عبر دروب فكرية مغايرة تمامًا. ولم يأتِ اكتشافه من أروقة الجامعات ولا من مقاعد المختبر، بل من أعالي جبال سويسرا، حيث تروي القصة أنه اعتكف في عزلة شاعرية هناك.

استلهم شرودنغر خيط الفكرة من أطروحة الدكتوراه للفيزيائي الشاب لويس دي برولي، تلك التي أثارتْ انتباه آينشتاين، فكان يكمن بين سطورها المليئة بالجرأة احتمال غامض، وهو أن الإلكترونات التي اعتُبرت يومًا محض جسيمات، قد تكون أيضًا موجات على غرار كمّات الضوء التي كشف عنها آينشتاين.

بعدها، أخذ شرودنغر يتساءل: أي معادلة تُنشدها هذه الموجات؟ فغامر بحدسه وتنبّأ بها. ثم، وفي فسحات الوقت المقتطعة من إجازته في جبال سويسرا، انبثقت أمامه النتائج نفسها عن الذرة، تلك التي كان باولي قد اقتنصها من أعماق النظرية التي شيدها علماء جامعة غوتنغن.

على الجانب الآخر، كانت الفكرة التي تشير إلى أن الإلكترون لا يعدو كونه مجرد موجة؛ فكرة بسيطة للغاية لدرجة أنها أربكتْ علماء جامعة غوتنغن، بكل ما حملته من تأملات غامضة حول المتغيّرات غير التبادلية. بدا وكأن هايزنبرغ وبورن وجوردان وديراك قد شيّدوا نظرية معقدة وغامضة لمجرد أنهم سلكوا طريقًا متعرّجًا وطويلاً.

أما الحقيقة فربما تكون أبسط بكثير، وهي أن الإلكترون موجة، والموجات يسهل تصوّرها. وهكذا قد يخيّل إليك أن شرودنغر انتصر في النهاية.

لكن انتصاره لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما أدرك هايزنبرغ أن وضوح موجات شرودنغر لم يكن سوى سراب أو وهم عابر. فالموجة بطبيعتها تنتشر، أما الإلكترون فلا يفعل ذلك، لأنه حين يحطّ رحاله، لا يظهر إلا في نقطة بعينها.

وهنا احتدم النقاش واشتعل الجدل، وظهر هايزنبرغ قاسيًا وجارحًا في حكمه حينما قال: "كلما تأملت في الجوانب الفيزيائية لنظرية شرودنغر، ازداد نفوري منها. فعندما يكتب شرودنغر بنفسه أن تصوّر نظريته قد لا يكون صحيحًا تمامًا، فكأنما يعترف بأن النظرية لا تتعدى كونها محض هراء". فما كان من شرودنغر إلا أن واجهه بروح ساخرة قائلا: "لا أستطيع أن أتصوّر إلكترونًا يقفز هنا وهناك مثل برغوثٍ شارد".

مصدر الصورة بول ديراك (مواقع التواصل الاجتماعي)

تغذية الأوهام

كان هايزنبرغ على صواب، فميكانيكا الموجات لم تكن أوضح أو أبسط من ذلك الحساب الغامض غير التبادلي الذي صاغه علماء جامعة غوتنغن. فبعد أعوام، لم يجد شرودنغر -الذي غدا لاحقًا من ألمع العقول التي سبرت غرابة العالم الكمّي- سبيلًا أمامه سوى الاعتراف بالهزيمة، فكتب يقول: "كانت هناك لحظة توهّم فيها مبتكرو ميكانيكا الموجات (وأقصد نفسي) أننا تخلصنا من الانقطاعات في نظرية الكم. لكن ما إن نواجه النظرية بالواقع الذي نرصده، حتى تعود تلك الانقطاعات لتطلّ برأسها من جديد، وإن غابت عن معادلاتها".

حاز ماكس بورن على جائزة نوبل متأخرًا جدًا، في عام 1954، ولم تكن الجائزة إلا عن التفسير الإحصائي لدالة الموجة، وهو ما قد يُثير تساؤلًا هامًا: "لماذا جاء التكريم متأخرًا إلى هذا الحد؟"، ولماذا لم يُعتَرف بمساهمته العظيمة عام 1925، يوم وضع اللبنة الأساسية لميكانيكا الكم، بصيغتها ومعادلتها الجوهرية، وكشف عن تفسيرها الإحصائي حتى قبل أن يتوصل شرودنغر إلى دالة الموجة؟ ربما كانت لظلال السياسة دور في ذلك، إذ يُقال إن باسكوال جوردان، رفيق بورن في كتابة الورقتين المؤسستين للنظرية، كان متعاطفًا مع النازية. وبعد الحرب العالمية الثانية غدا من العسير منح جائزة نوبل لشخص مرتبط بتلك الحقبة.

إعلان

في ورقةٍ بحثية نشرتُها عام 2023 بالاشتراك مع مؤرّخ العلوم جون هيلبرون، تتبّعنا المسارات التاريخية التي أفضت إلى ميلاد نظرية الكم، وخلصنا إلى أن مسيرة العلم -شأنها شأن مسيرة التاريخ كلّه- لا تُقرأ مرة واحدة وإلى الأبد، بل إن صورتها تتبدّل مع تبدّل الحاضر، وتُعاد صياغتها كلما أفرزت الأفكار رؤية جديدة.

ما تكشفه الظواهر الكمية عن طبيعة الواقع لا يزال موضع جدل. لقد تفرّعت التفسيرات وتشعّبت السبل. أمّا أنا، فأميل إلى أن أمواج شرودنغر ليست سوى لغة رياضيّة تصف ما يملكه نظام فيزيائي من معرفة عن نظام آخر.

يُسمّى هذا المنظور بالعلائقي، لأنه يُبرز أن ما نستطيع الإمساك به ليس صورة الأشياء في عزلتها، بل شبكة التأثيرات التي تنسجها فيما بينها. وفي قراءات أخرى، مثل "ميكانيكا بيشان الكمية"، لا تُعَدّ الحالات الكمية وصفاً لطبيعة النظام نفسه، بل مجرّد انعكاس لمقدار معرفتنا نحن بهذا النظام.

وفي ضوء هذه الأفكار، أرى أن أمواج شرودنغر لم توضح النظرية التي صاغها علماء غوتنغن وديراك، بل ألقت عليها ظلالا من الغموض، إذ دفعت المجتمع العلمي إلى الاعتقاد بأن ميكانيكا الكم هي كشف عن موجات غامضة (أو ما تُسمّى "الحالات الكمّية" الغامضة)، بدلاً من فهمها بالطريقة المباشرة التي تبناها علماء جامعة غوتنغن، بوصفها نظرية تحدد بوضوح كيف يمكن لأي نظام أن يظهر أو يتجلى عند تفاعله مع نظام آخر.

أعتقد أن ما تخبرنا به الظواهر الكمية هو أن العالم يعيش في دائرة الاحتمالات، وأنه مبني من وحدات صغيرة جدًا عند المقاييس التي يحددها ثابت بلانك.

كما أن الواقع نفسه ليس شيئًا موجودًا بمعزل عما حوله، بل يتشكّل من الطريقة التي تتفاعل بها الأنظمة الفيزيائية مع بعضها، وهو ما عبّر عنه نيلز بور قائلًا: "في الفيزياء الكمية، التفاعل مع أدوات القياس جزء لا ينفصل عن الظاهرة نفسها. ولكي نصف الظاهرة بدقة، لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار كل الجوانب المهمة للتجربة".

بعد مرور قرن كامل على ولادة هذه الفكرة، اتضح أن القليل فقط هو ما يحتاج إلى تصحيح أو تعديل فيها، فكل ما يجب فعله هو استبدال عبارة "أداة القياس" بعبارة "أي نظام فيزيائي آخر" يتفاعل معه النظام المعني. فالعالم باختصار، هو مجموع الطرق التي تؤثر بها الأنظمة الفيزيائية في بعضها، وهو ما يُعتَبر في رأيي جوهر الفيزياء الكمية كما تصوّرها ماكس بورن، العالم الذي منحها اسمها.

مصدر الصورة عالم الفيزياء الألماني فيرنر هايزنبرغ (أسوشيتد برس)

ما هي نظرية الكم؟

المبدأ الأساسي لنظرية الكم ليس معقدًا كما يبدو. ولتقريب الصورة أكثر، تخيّل أنك تحرك زر الصوت في جهاز ستيريو قديم، فيزداد الصوت تدريجيًا.

في عالم الكم، خصائص الجسيمات، مثل طاقتها، لا تتغير بهذه السلاسة، بل إنها تنتقل بين قيم محددة ومنفصلة فقط، كأن تضبط حرارة منظم الحرارة فتنتقل من درجة إلى أخرى دون مراحل وسطية. ويتضح أن هذا الافتراض حول كيفية عمل الجسيمات هو الطريقة الأفضل لتفسير الواقع.

تبدأ الصعوبات عندما نحاول فهم كيفية عمل النظرية على أرض الواقع، فهي تعطي احتمالات لما ستجده عند قياس جُسيم، لكنها لا تقول شيئًا عما يفعله الجسيم قبل القياس.

ومنذ البداية، أربكنا تفسير هذه الحقيقة الغامضة. ومع مرور الوقت، اكتشفنا أن الجسيمات الكمّية تتصرف بطرق غريبة للغاية: أحيانًا تتصرف كأنها موجات، وقد تتشابك أزواج منها بحيث تؤثر خواص أحدها على الآخر رغم المسافات الشاسعة التي تفصل بينهما. بل وأكثر من ذلك، يمكن لجسيم أن يكون في حالة تراكب، أي متواجدًا في مكانين أو يسلك مسارين في الوقت ذاته.

____________
* إضافة المترجم

هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار