مع انتهاء الانتخابات النيابية السادسة التي جرت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دخل المشهد السياسي العراقي مرحلة جديدة، عنوانها الاستحقاقات الدستورية لاختيار الرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية، ورئاسة البرلمان، ورئاسة مجلس الوزراء.
هذه المرحلة ليست جديدة على العراقيين، إذ تتكرر بعد كل دورة انتخابية، ولكنها تأتي هذه المرة في ظروف مختلفة، تحكمها تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية ثقيلة، وتجربة طويلة من الأزمات والانقسامات.
واقع جعل الشارع العراقي أكثر تشككاً، وأقل ثقة بقدرة الطبقة السياسية على إحداث تغيير حقيقي.
ورغم أن الدستور العراقي لا ينص بشكل صريح على توزيع المناصب السيادية وفق الانتماء القومي أو المذهبي، فإن العرف السياسي الذي ترسخ بعد عام 2003 فرض معادلة غير مكتوبة: رئيس للجمهورية من القومية الكردية، ورئيس للبرلمان من المكون السني، ورئيس للوزراء من المكون الشيعي.
هذه الصيغة قُدّمت في بداياتها على أنها ضمانة للتوازن والشراكة ومنع الإقصاء، بيد أنها تحولت مع مرور الوقت إلى أحد أبرز مظاهر المحاصصة، وباتت محل انتقاد مستمر من قوى سياسية وشرائح واسعة من الرأي العام.
ومع انتهاء عملية الاقتراع، وتصديق المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات، وفرز القوى السياسية الفائزة بالمقاعد النيابية، برز الإطار التنسيقي، الذي يضم أغلب القوى السياسية الشيعية، باستثناء التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر الذي قاطع الانتخابات، بينما كان التيار يشكل الكتلة الأكبر داخل البرلمان.
وأعلن الإطار أن هذا الواقع يضعه أمام مسؤولية التوافق على اختيار اسم رئيس الوزراء العراقي الجديد، وقيادة عملية تشكيل الحكومة المقبلة، التي من المتوقع أن تضم مختلف الكتل السياسية.
ويواجه رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته، محمد شياع السوداني، الذي حصل تحالفه على 46 مقعداً من أصل 329 مقعداً، والطامح لولاية ثانية، اعتراضات من داخل الإطار التنسيقي، نتيجة تحفظات تبديها بعض القوى الشيعية بشأن أدائه أو توجهاته.
وبرغم أن الأسماء المتداولة في وسائل الإعلام لم تُطرح بشكل رسمي، فإن مصادر سياسية مقربة من الإطار تحدثت إلى بي بي سي عربي، مشيرة إلى أن الترشيحات باتت محصورة بين ثلاثة أسماء: رئيس جهاز المخابرات الوطني حميد الشطري، ورئيس هيئة المستشارين في رئاسة الجمهورية علي شكري، ورئيس هيئة المساءلة والعدالة باسم البدري.
وكان من المتوقع أن يتم اختيار أحد هذه الأسماء خلال اجتماع للإطار التنسيقي عقد يوم أمس، إلا أن ذلك لم يحدث، بحسب المصادر، التي ترجّح أن سبب التأجيل يعود إلى الحاجة إلى توافق داخلي أوسع، إضافة إلى توافق خارجي، لا سيما مع الولايات المتحدة.
كما أن هناك قوائم أخرى تم تداولها من على مواقع التواصل الاجتماعي أو المواقع الإخبارية المحلية تضم أكثر من عشرة أسماء، من ضمنها رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، الذي تم ترشيحه بشكل رسمي من قبل الأمانة العامة لحزب الدعوة الإسلامي الذي يتزعمه، وكذلك رئيس الوزراء المنتهية ولايته محمد شياع السوداني، فضلاً عن أسماء أخرى.
ورغم أن التقديرات السياسية تشير إلى أن هذه الدورة قد تكون الأسرع من حيث تشكيل الحكومة، مقارنة بدورات سابقة استغرقت أشهراً طويلة وربما عاماً كاملاً، فإن هذا التفاؤل يبقى حذراً.
فالمسار قد يصطدم بمسألة الموقف الأمريكي من اسم رئيس الوزراء المقبل، إذ تشير مصادر سياسية إلى أن واشنطن تفضّل مرشحاً بعيداً عن نفوذ إيران أو الفصائل المسلحة المدعومة منها.
وفي هذا السياق، حذر مارك سافايا، مبعوث الرئيس الأميركي إلى العراق، من أن البلاد تقف عند "لحظة حاسمة"، داعياً القادة السياسيين والدينيين إلى اتخاذ قرارات موحدة لتجنب العودة إلى "التشرذم والانحدار".
وكتب سافايا على منصة إكس، أن المسؤولية تقع الآن على عاتق القادة العراقيين، مؤكداً أن قراراتهم المقبلة ستحدد ما إذا كان العراق يتجه نحو الاستقرار والسيادة، أم سيعود إلى دوامة التراجع والاضطراب، محذراً من تداعيات اقتصادية وسياسية وعزلة دولية محتملة.
هذه التصريحات أثارت ردود فعل واسعة، جاء أبرزها من كتائب حزب الله العراقية، إذ دعا مسؤولها الأمني، المعروف باسم أبو علي العسكري، السياسيين إلى تجنب التواصل مع المبعوث الأميركي، معتبراً أن أي تواصل من هذا النوع يُعد "خيانة".
لم تنجح أي من القوائم المتنافسة في الحصول على أغلبية مريحة تتيح لها تشكيل الحكومة بمفردها، ما جعل بناء التحالفات أمراً لا مفر منه، في مشهد برلماني منقسم.
وفي الوقت ذاته، يصعب على القوى السياسية تجاهل الموقف الأمريكي، خصوصاً في ظل مطالب واشنطن المستمرة بنزع سلاح الفصائل المسلحة، وهي مطالب لم تتحقق حتى الآن، في وقت ترتبط فيه هذه الجماعات بعلاقات وثيقة مع أحزاب شيعية حققت مكاسب انتخابية.
هذا و رجح أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، علاء مصطفى، في حديث إلى بي بي سي عربي، أن تشهد المرحلة المقبلة مراجعة داخل قوى الإطار التنسيقي، في ظل عدم رغبة بعض أطرافه بتجديد ولاية رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إلى جانب مخاوف من تعاظم حضور نوري المالكي، الذي يُعد أيضاً من المرشحين المحتملين لرئاسة الحكومة.
وأوضح مصطفى أن هذه المعطيات قد تدفع باتجاه التوافق على اسم وسطي، مشيراً إلى أن المرشح في هذه المرحلة يجب أن يحظى بموافقة دولية ورضى إقليمي.
وأضاف أن تأكيد مجلس القضاء الأعلى على احترام الاستحقاقات الدستورية وعدم تجاوز المدد الزمنية المحددة "يعكس وجود نية جدية للالتزام بالسقوف الدستورية خلال مسار تشكيل الحكومة المقبلة".
وحدد رئيس الجمهورية، عبد اللطيف جمال رشيد، يوم الثلاثاء، الـ29 من ديسمبر / كانون الأول الجاري، موعدا لعقد الجلسة الأولى للبرلمان العراقي.
وأصدر رشيد، مرسوماً جمهورياً حمل الرقم (54)، والصادر استناداً إلى أحكام المادة (54) والبند الرابع من المادة (73) من الدستور".
وأشار المرسوم إلى أن "الجلسة الأولى سيترأسها أكبر الأعضاء سناً، على أن يُنشر المرسوم في الجريدة الرسمية ويُعمل به من تاريخ صدوره".
وبحسب وثيقة صادرة عن مجلس القضاء الأعلى، فإن انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبيه يجب أن يتم خلال 15 يوماً من تاريخ تصديق المحكمة الاتحادية العليا على النتائج، أي اعتباراً من 14 ديسمبر/كانون الأول 2025.
كما يُنتخب رئيس الجمهورية خلال 30 يوماً من انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان، على أن يُكلّف رئيس مجلس الوزراء خلال 15 يوماً من انتخاب رئيس الجمهورية، وتُشكّل الحكومة خلال مدة أقصاها 30 يوماً من تاريخ التكليف.
وعلى الرغم من محدودية صلاحيات رئيس الجمهورية، إلا أن المنصب يُنظر إليه بوصفه رمزاً لوحدة الدولة ومؤشراً على طبيعة العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان، حيث ينحصر التنافس غالباً بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.
أما رئاسة البرلمان، فتمثل بدورها محطة مهمة لإعادة ترتيب البيت السني، بعد سنوات من الانقسامات التي انعكست على أداء المؤسسة التشريعية.
ويرى محللون أن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في اختيار الأسماء، بل في طبيعة البرنامج الحكومي المقبل، وقدرته على معالجة الملفات المزمنة، من الخدمات الأساسية إلى البطالة، ومكافحة الفساد، وحصر السلاح بيد الدولة، في ظل توازنات داخلية وإقليمية معقدة، ونفوذين أمريكي وإيراني يصعب تجاهلهما.
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة