آخر الأخبار

من "مهزلة" ستالين إلى "عناق" بوتين.. هل خسرت أميركا الهند؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

على أرض مطار إنديرا غاندي بالعاصمة الهندية دلهي، وصلت طائرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أول زيارة منذ 4 سنوات، والأولى منذ اندلاع حرب أوكرانيا، مساء الأربعاء 3 ديسمبر/كانون الأول الجاري.

نزل بوتين سُلَّم الطائرة ليجد رئيس الوزراء الهندي نارِيندرا مودي في انتظاره، في استقبال شخصي لا يفعله مودي عادة لدرجة أنه عُد تجاوزا للبروتوكول الهندي في استقبال الضيوف، تبعه عناق حار أصبح بصمة مميزة لمودي خلال ترحيبه بالزعماء الذين يلتقيهم.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 كيف خسرت الهند بنغلاديش وربحتها الصين وباكستان؟
* list 2 of 2 لست وحدك في الكون.. رسالة العرض العسكري الصيني لترامب end of list

بيد أن الزيارة التي تزامنت مع احتفاء إعلامي وشعبي كبير في الهند، كانت قد أثارت تحفًّظات أوروبا والغرب فعلا قبل أن تبدأ، إذ أفردت صحيفة "تايمز أوف إنديا" صفحاتها لمقال بعنوان "العالم يريد إنهاء حرب أوكرانيا، لكن روسيا ليست جادة بشأن السلام"، والذي كتبته المفوَّضة السامية البريطانية (اللقب الذي تطلقه بريطانيا على سفرائها في دول الكومنولث) ليندي كاميرون والسفير الفرنسي تييري ماتو والسفير الألماني فيليب أكرمان، قبل ساعات من هبوط طائرة بوتين في دلهي.



سرعان ما أتى الرد الهندي حادا على التذمُّر الأوروبي، إذ صرَّح مسؤول دبلوماسي هندي أن كتابة مقال بهذا الشكل قبل زيارة رفيعة المستوى "أمر غير مُعتاد، وممارسة دبلوماسية غير مقبولة بإلقاء الدروس حول علاقات الهند مع بلد آخر".

وعلَّق أيضا كنوال سيبال، وزير الخارجية الهندي السابق، قائلا إن "هذا المقال الخبيث يخرق القواعد الدبلوماسية، ويُعَد إهانة للهند وتدخُّلا في شؤونها الداخلية، ومحاولة لإذكاء الميول المُعادية لروسيا داخل الدوائر القريبة من أوروبا في الهند". من جهتها، ردَّت روسيا بمقال عنوانه "خيانات أوروبا الأربع تعرقل السلام في أوكرانيا"، كتبه سفيرها لدى الهند دنيس أليبوف في صحيفة "تايمز أوف إنديا" ذاتها بعد الهجوم عليها بسبب المقال الأول.



في نهاية المطاف، تمَّت الزيارة على مدار يوميْن، وحازت نصيبها من الحفاوة الإعلامية والاحتفاء الشعبي على خلفية توتُّر العلاقات بين الهند والولايات المتحدة، نتيجة تطبيق إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب جمارك قيمتها 50% على الصادرات الهندية.

إعلان

ورُغم ما قيل طيلة عقديْن عن فتور العلاقة بين الهند وروسيا، وتبلور شراكة قوية بين دلهي وواشنطن نتيجة المصلحة المشتركة في احتواء الصين، فإن التحالف الروسي الهندي الذي تشكَّل أثناء الحرب الباردة، يبدو أنه لم يفقد جذوره وقواعده الأساسية، وعلى رأسها شراكة عسكرية وتجارية انطلقت في الخمسينيات، ولا تزال مستمرة رُغم تضاؤل مركزية روسيا، مقابل نمو كبير لدور الاقتصاد الهندي في النظام العالمي.

صداقة أنقذها موت ستالين

"أنا أعيش في مدينة لم تكُن لتظهر إلى الوجود لولا الاتحاد السوفياتي أو روسيا، وكل سكان المدينة يحبون حكايات الروس، ويفخرون بصور المدينة القديمة".

بتلك الكلمات ردَّ أحد قاطني مدينة بيلاي الهندية على سؤال سأله كاتب مجهول على موقع "كورا" للأسئلة عن العلاقات الهندية الروسية، مُشيرا إلى المدينة الصناعية التي تأسست حول مصنع الحديد والصلب الذي ساعد السوفيات في بنائه في منتصف الخمسينيات، وذكريات الأجيال القديمة من سكان بيلاي مع المهندسين الروس الذين تردَّدوا عليها، وحديقة الصداقة السوفياتية الهندية التي لا تزال قائمة في المدينة، بعد أن تجاوز تعدادها أكثر من نصف مليون على مرِّ السنين.

في الحقيقة، لم تبدأ العلاقات الهندية الروسية بداية طيبة، وكان السبب هو الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، الذي نظر نظرةً سلبية لحركة الاستقلال الهندية بقيادة المهاتما غاندي وجواهرلال نهرو، مثلها مثل معظم حركات التحرر الوطني التقليدية التي رأى فيها الماركسيون اللينينيون في روسيا مجرد تجليات لطبقة برجوازية محلية. ولذا، حين استقلت الهند عن بريطانيا عام 1947، اعتبر ستالين أن استقلالها "مهزلة" أو "أضحوكة" سياسية.

ولكن هذا الجمود الأيديولوجي من جهة السوفيات، سرعان ما أفسح الطريق لعلاقة عملية بعد وفاة ستالين وصعود خروشوف، الذي طوَّر علاقة خاصة مع رئيس الوزراء الهندي نهرو من منتصف الخمسينيات، تُوِّجت بزيارة تاريخية طاف فيها خروشوف شتى أنحاء الهند، واستقبل حشودا فاقت المليون في مدينة كولكاتا، حتى إن السيارة التي حملت القادة السوفيات لم تكد تتحرك بفعل التزاحم من الجماهير الذين تكالبوا عليها.

في غضون سنوات تطوَّرت العلاقة الهندية السوفياتية بكل أبعادها إلى تحالف كامل، بدءا بصفقات تسليح في الستينيات بعد صدام الهند مع الصين عام 1962 ومع باكستان عام 1965، الذي تبعه حظر تسليح من الدول الغربية وتوتُّر علاقات الهند بالولايات المتحدة، وصولا إلى تبادُل الود بين الهنود والروس على المستويات كافة، ترك العشرات من القصص والذكريات، أشهرها "حلَّاق بولغانين" الشهير في إحدى قرى الهند، الموجود حتى يومنا هذا، حيث توقَّف رئيس الوزراء السوفياتي السابق نيكولاي بولغانين لحلق شعره في إحدى القرى بولاية تاميل نادو.

في عام 1962، وبعد هزيمتها العسكرية أمام الصين، أبرمت الهند صفقة مع روسيا لاستيراد طائرات الميغ 21 والبدء في إنتاج مكوِّناتها داخل الهند، مما فتح الباب أمام شراكة عسكرية استمرت طيلة الستينيات وشملت توريد وتصنيع مئات الدبابات والصواريخ والسفن المتطورة، حتى وصل نصيب السوفيات إلى أكثر من 50% من السلاح الهندي.

هذا إلى جانب المشاريع الصناعية التي أشرف عليها السوفيات مثل مصنعيْ بيلاي وبوكارو للحديد والصلب، ومُجمَّع للصناعات الثقيلة في جاركَنْد، وشراكات في تطوير شركات النفط والغاز الهندية وشركات الأدوية، وكذلك تطوير وتوسيع معاهد الهند للتكنولوجيا الشهيرة (IIT). بيد أن الانعطافة الأهم لترسيخ العلاقة بوصفها أقرب ما تكون للتحالف لم تكُن قد أتت بَعْد.

1971: تبلوُر الشراكة العسكرية

"العلاقات بين الهند وروسيا ليست مجرد سياسة أو دبلوماسية أو اقتصاد، إنها شيء أعمق من ذلك بكثير".

بواسطة سوبرامانيام جايشانكار، وزير الخارجية الهندي

العاشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1971. تقف حاملة الطائرات الأميركية يو إس إس إنتربرايز الأكبر من نوعها في العالم آنذاك قبالة سواحل فيتنام، على أهُبة الاستعداد للتحرُّك نحو خليج البنغال، بعد أن تلقَّت الأوامر من الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بأن تصبح جزءًا من "قوة المهام 74".

إعلان

كانت تلك ثاني مرة في التاريخ تُفعَّل فيها قوة المهام 74 من جانب الولايات المتحدة، بعد أن فعَّلتها لأول مرة في مواجهة اليابان عام 1943 أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد شملت هذه المرة 7 مُدمِّرات وغواصة نووية، إلى جانب حاملة الطائرات البريطانية إتش إم إس إيغل.

الهدف من ذلك التحرُّك الضخم لم يكُن الاتحاد السوفياتي، بل الهند، التي كانت في ذروة تحالفها مع الاتحاد السوفياتي، وأعلنت الحرب للتو على باكستان حليف واشنطن من أجل "تحرير" بنغلاديش (ِشرق باكستان آنذاك). لم تكُن واشنطن ولندن وحدهما من يملك قوة بحرية في شرق آسيا، بل امتلك السوفيات أيضا القدرة على تحريك قوتهم البحرية من ميناء فلاديفوستوك في شمال المحيط الهادي لردع الأميركيين والبريطانيين، في واحدة من فصول الحرب الباردة التي أوشك فيها المُعسكران على الدخول في صدام مُباشر.

تلقَّت باكستان هزيمة ضخمة وسريعة سرعان ما كتبت نهاية الحرب ورسَّخت استقلال بنغلاديش، وترسَّخت قوة الهند إقليميا منذئذ بعد أن تحرَّرت من حصار باكستان لها من الشرق والغرب (كانت دولة باكستان التي ولدت بعد رحيل الاستعمار البريطاني فريدة جغرافيا حيث لم تكن قطعة واحدة، بل كانت منقسمة إلى شطرين يفصل بينهما أكثر من 1600 كيلومتر من الأراضي الهندية)، وهو وضع جيوسياسي لا يزال ساريا إلى يومنا هذا، ولحظة لا تزال تُشكِّل حجر الأساس للعلاقة الهندية الروسية، إذ قفزت الشراكة بين دلهي وموسكو منذ ذلك الحين في كل المجالات العسكرية والصناعية، بما فيها مجالات دخلتها الهند في السبعينيات مثل الفضاء، بإطلاق القمر الصناعي الهندي الأول "أرياباتا" عام 1975 عبر صاروخ سوفياتي.

مصدر الصورة خريطة الهند (الجزيرة)

بحلول الثمانينيات، كان السلاح السوفياتي يُمثِّل نحو 80% من مخزون السلاح الهندي، ثم انخفضت تلك النسبة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي واضطراب الوضع في روسيا في التسعينيات، قبل أن تُستأنف الصفقات العسكرية من جديد مع صعود بوتين، وإن لم تستعِد موسكو هيمنتها السابقة، حيث تظل أهم مصدر سلاح للهند حتى اليوم، لكن بنسبة نحو 35%، تليها فرنسا بنسبة نحو 30%، أما السلاح الروسي حول العالم فإن الهند أهم مُشتر له بأكثر من الثلث، تليها الصين بنسبة أقل من نصف النسبة الهندية، رُغم العلاقة القوية الآن بين الصين وروسيا.

تنبع تلك التفاوتات من تضاؤل الدور الروسي في النظام العالمي ونمو الاقتصاد الهندي طيلة العقديْن الماضيين، وليس من تراجع الشراكة العسكرية الهندية السوفياتية بحد ذاتها، إذ تظل قيمة الصفقات العسكرية بين البلديْن (محسوبة بتسعير ثابت للدولار وفقا لقيمته عام 1990) أكبر مما كانت عليه في الحرب الباردة.

بوتين ومودي.. شراكة مستمرة

"نجاح الهند في السياسة الدولية يتطلَّب مِنا صداقة متوازنة مع روسيا والولايات المتحدة، لكن إذا ما اضطررنا للاختيار إما هذا أو ذاك، فإن روسيا قد أثبتت صداقتها بالفعل مرات كثيرة".

بواسطة مُعلِّق هندي بإحدى المواقع الصحافية

على صفحته الرئيسية، أفسح موقع "فِرست بوست" الهندي، المنحاز نسبيا لحكومة رئيس الوزراء نارِيندرا مودي، قِسما كاملا لزيارة بوتين إلى الهند، إلى جانب التقسيمات المُعتادة لأقسام الموقع، في تجلٍ واضح للأهمية التي حظيت بها زيارة الرئيس الروسي، لا سيَّما في صفوف أنصار الحزب الحاكم. تحت عنوان "بوتين في الهند" كُتِبَت عشرات المقالات، من المقالات التي خُصِّصَت للتعريف بأنواع الطعام المُفضَّلة لبوتين، إلى تلك التي تناولت أحدث الصفقات العسكرية بين البلدين، بما فيها اتفاقية "ريلوس" التي اعتمدها الدوما الروسي قبيل زيارة بوتين.

مصدر الصورة وسَّعت الهند من اعتمادها على النفط الروسي بعد أن بدأت موسكو تعرضه بأسعار مُخفَّضة نتيجة العقوبات الغربية وهو ما وجدته دلهي مواتيا لظروفها الاقتصادية (الفرنسية)

ريلوس (RELOS) هي اختصار "التبادل الثنائي للدعم اللوجستي"، وتسمح الاتفاقية للطائرات والسفن وغيرها من القطع الحربية الهندية والروسية باستخدام المنشآت العسكرية للبلد الآخر لنشاطات مُحدَّدة، مثل التدريبات المشتركة وبرامج التدريب والعمليات الإغاثية، ومن ثمَّ يعني ذلك أن روسيا تستطيع أن تتواجد في المحيط الهندي عبر موقع الهند الإستراتيجي فيه، وكذلك أن الهند تستطيع أن تتواجد في واحدة من أكثر المناطق البعيدة وغير المتوقَّع أن تتواجد فيها رُغم أهميتها في الآونة الأخيرة، وهي منطقة القطب الشمالي، التي تتمتَّع فيها روسيا بوجود كبير إلى جانب كندا والولايات المتحدة والصين ودول إسكندنافيا.

إعلان

شملت الزيارة أيضا ملفات تجارية، على رأسها قضية صادرات النفط الروسية إلى الهند، التي يُعزى لها الغضب الأميركي والجمارك العقابية التي أقرَّها ترامب، إذ وسَّعت الهند من اعتمادها على النفط الروسي بعد أن بدأت موسكو تعرضه بأسعار مُخفَّضة نتيجة العقوبات الغربية، وهو ما وجدته دلهي مواتيا لظروفها الاقتصادية، ومن ثمَّ قفزت صادرات النفط الروسية إلى دلهي من نسبة لا تُذكر، إلى أكثر من ثُلث احتياجات السوق الهندي في غضون 3 سنوات، في حين تحولت الهند إلى ثاني أكبر متلق للنفط الروسي عالميا بعد الصين.

على قائمة الأولويات أيضا تحضر مطالب الهند للحصول على المزيد من وحدات نظام الدفاع الجوي "إس 400" ، الذي تحاول الهند الحصول على النسخة الأحدث منه، رُغم مخاطر تطبيق عقوبات أميركية بموجب قانون "كاتسا" الشهير الهادف إلى فرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية على الدول والكيانات التي تعتبرها الولايات المتحدة خطرا على أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية، وقد وجه ضد الصفقات العسكرية الروسية.

وكان التلويح بتلك العقوبات في ولاية ترامب الأولى سببا في تعطيل الاتفاق بين موسكو ودلهي، لكن إدارة بايدن منحت الهند استثناء من القانون في محاولة للتقرُّب من الهند، وليس واضحا ما إن كانت الإدارة الحالية ستعيد العقوبات أم لا إذا ما توسَّع التعاون العسكري بين البلديْن.

وقد استخدمت الهند الوحدات التي حصلت عليها سابقا من منظومة "إس – 400" في معاركها الأخيرة مع باكستان، المعروفة في الهند بالعملية سيندور ، وعلى العكس من الطائرات الفرنسية التي لم تُظهر أداء قويا في مواجهة باكستان، فإن الدفاع الجوي الروسي اعترض المُسيَّرات الباكستانية، وأثبت فعالية جيدة، مما دفع الهند لطلب المزيد منه، بل وطلب النسخة الأحدث إس 500، التي لم تُصدِّرها روسيا إلى أي دولة أخرى حتى اليوم، وتُعَد الهند أول من يُبد اهتماما بها.

دلهي.. استقلالية لن تموت

"المُفارقة في نهج ترامب هو أنه أنتج ما سعى لمنعه ابتداءً، وهو دولة هندية ذات علاقات أكثر تنوُّعا، وذات استثمارات في شراكات متعددة، وأقل عُرضة للضغط الضارب من الولايات المتحدة".

بواسطة جيمز كرابْتْري، زميل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ورودْرا تشودري، مدير برنامج الهند بمؤسسة كارنيغي في مقال مشترك بينهما بمجلة فورين أفيرز

من بين الدول الصاعدة في العالم اليوم، تُعَد الهند اللُغز الأبرز في توجُّهاتها الجيوسياسية والإستراتيجية، إذ يتسابق المحللون في الولايات المتحدة وأوروبا باستمرار للتنبُّؤ بوفودها إلى هذا المعسكر أو ذاك، والتبشير بصعودها إلى مصاف القوى الكبرى، منذ سنوات طويلة، دون أن تظهر أمارات واضحة على أن أيا من تحليلاتهم أصابت بالفعل طيلة العقد الماضي، بل يبدو في الحقيقة أن معظمهم كان يحاول مواكبة المسارات المتعرِّجة للسياسة الهندية، وأن يُطعِّم تحليلاته ببعض من رغباته فيما يخص "ما يتوجَّب أن تفعله الهند"، وليس ما تنوي فعله في الواقع.

أما ما تريده الهند، فكثيرًا ما تغيَّر وفقا لمعطيات كثيرة، وبخاصة مع صعود رئيس الوزراء الحالي نارِيندرا مودي، على رأس حركة قومية هندوسية غير مسبوقة منذ عام 2014، ظنَّ البعض أنها كتبت نهاية الكثير من ثوابت الدبلوماسية الهندية التي خطَّها حزب المؤتمر منذ استقلال البلاد عام 1947، وعلى رأسها الموقف من القضية الفلسطينية التي أفصحت فيها الهند في عهد مودي عن انحياز غير مسبوق لإسرائيل يخالف ثوابتها التاريخية.

ولكن مودي لم يستطع أن يلغي كل الثوابت التي شكَّلت المؤسسة الدبلوماسية والعسكرية الهندية، لا سيَّما تلك التي تبلورت طيلة عقود انعكاسا لوضع الهند الجيوسياسي وطبيعة ارتباطها بالاقتصاد العالمي، وليس تجسيدا لقيم حزب المؤتمر.

على رأس تلك الثوابت أتت العلاقة الوطيدة مع روسيا، التي ظنَّ كثيرون أنها تُطوى ببُطء منذ صعود التحدي الصيني للهيمنة الأميركية، الذي عُدَّ منطقا يدفع دلهي وواشنطن نحو تحالف لا مفر منه، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وفتور علاقتها بباكستان.

مصدر الصورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب (يمين) ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في نيودلهي/الهند 25 فبراير/شباط 2020 (رويترز)

غير أن مواقف إدارة ترامب، ورؤيتها للمصالح التجارية الأميركية، ورغبتها في الحصول على أقصى مكتسبات من حلفائها، وبذل أقصى الضغوط المُمكنة على أعدائها، كشف للهند أنها ليست حليفا راسخا مثل أوروبا واليابان، وعادت لتذكيرها بأنها دولة تنتمي اقتصاديا للجنوب العالمي قبل أي شيء، وأن الرغبة في الحصول على نصيب أكبر من النمو والثروات العالمية يتعارض بوضوح مع سباق ترامب المحموم لحماية الطبقات الوسطى والعُليا الأميركية التي انتخبته على حساب ذلك الجنوب نفسه.

إعلان

في 22 سبتمبر/أيلول 2022، كتب هابيمون جيكوب، أستاذ الدبلوماسية بجامعة جواهرلال نهرو في دلهي، ومؤسس مجلس البحوث الإستراتيجية والدفاعية بالهند، مقالا في مجلة فورين أفيرز الأميركية بعنوان "روسيا تخسر الهند"، واصفا علاقات دلهي وموسكو بأنها في طور الأفول بعد حرب أوكرانيا، وأن تأثير "مُعاداة أميركا" في صفوف النخبة الهندية بدأ يتراجع، وأن تأجيل صفقات التسليح بين البلديْن مؤشر بعيد المدى على صعود مُعادلة جديدة في آسيا مرتبطة بهدف احتواء الصين المُشترك بين دلهي وواشنطن.

ولكن في غضون أقل من عاميْن، كتب جيكوب نفسه مقالا آخر في المجلة ذاتها بعنوان "الهُوَّة الصادمة بين الهند والولايات المتحدة"، مُشيرا إلى تراجع أهمية الشراكة مع الهند في نظر صناع القرار الأميركيين، وأولوية إبرام صفقة مع الصين تتجاهل مصالح الهند، أو الجنوب العالمي في العموم.

على عكس دول أصغر حجما، نجحت في بلورة علاقة عمل حذرة مع إدارة ترامب، تحصل منها على مكتسبات قصيرة الأمد، وتتقي بها قرارات الإدارة التجارية العدائية، يبدو أن الهند بقيادة مودي، الذي توقَّع له كثيرون بالنظر لخلفيته الأيديولوجية أن يتمكَّن من بلورة علاقة قوية مع ترامب هو الآخر، قد أثبتت أنها بلد أكبر من أن تساير إدارة أميركية بعينها من أجل مكتسبات قصيرة الأجل، وأن الكثير من جذور توجُّهاتها الدبلوماسية والإستراتيجية ليس سهلا اقتلاعها تحت حُكم رجل واحد، مهما كان الدعم الشعبي الذي يتمتَّع به أو السلطة التي يحظى بها.

في بلد هو الأكبر تعدادا في العالم، وصاحب واحدة من أعقد النظم السياسية الفدرالية، مع علاقة فريدة بالاقتصاد السياسي العالمي تتجاوز البلدان المتوسطة العالقة بين الديون وفرص التنمية المتآكلة، لكنها لا ترقى في الوقت نفسه إلى مصاف القوى الاقتصادية الكبرى مثل الصين واليابان، تحتل الهند اليوم موقعا فريدا نسبيا ومُعقَّدا في النظام الدولي وذا خيارات محدودة أقل من القوى الكبرى لكن أكثر من الدول المتوسطة.

وقد أفرط كثيرون في الاعتقاد بأن مودي بوسعه تجاهل كل ذلك كي يخلق دينامية قوية مع ترامب، وأن قوميته الهندوسية ستخلق قطيعة مع ما سبقها من عقود عدم الانحياز والاستقلال الإستراتيجي والحساسية الشديدة من استهانة القوى الكبرى بدلهي، التي جسَّدتها بجلاء الحملة الشعبية ضد ترامب والإدارة الأميركية في الهند بعد الجمارك المرتفعة التي فرضها على البلاد منذ أشهر.

بيد أن قومية مودي الهندوسية أثبتت أنها أقرب إلى سجال داخلي مع إرث غاندي ونهرو، دون أن يمس هذا السجال استقلالية الهند الإستراتيجية ورفضها الانخراط في تحالفات كاملة، وحساسيتها تجاه التعامل معها بلدا من الدرجة الثانية، وهو ما أفصح عنه مودي بوضوح، معيدا للأذهان التوتُّر بين دلهي وواشنطن في عهد نهرو، والعداء الشخصي العنيف بين الرئيس الأميركي نيكسون وإنديرا غاندي في ذروة الباردة، حيث أطلق عليها نيكسون اسم الساحرة العجوز. ورُغم أن مودي نفسه استهل مسيرته السياسية بمعارضة إنديرا في صِباه، فإنه يجد نفسه اليوم على خطى مسارات سياسية رسمتها هي ووالدها لم تتغيَّر إلى اليوم.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا