في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
الهيمالايا- على ارتفاع يقارب 5364 مترا، حيث يزيد الهواء البارد النقي من صعوبة التنفس، يستقر موقع مخيم "إيفرست بيس كامب" كأعلى نقطة مأهولة، يصل إليها المتسلقون، قبل صعود أعلى قمة في العالم.
هنا، تتعانق الجبال الشامخة مع السحب المتناثرة، وتغطي الثلوج البيضاء الصخور كستائر حريرية، فيما تلمس أولى أشعة الشمس قمم جبال الهيمالايا لتضيئها بألوان ذهبية وردية ساحرة، وكأن الطبيعة ترسم لوحة نادرة يشاهدها زائر المكان مرة واحدة في عمره.
وفي قلب هذا المشهد المهيب، نسمات الهواء الرقيقة تتداخل مع أصوات الرياح الحاملة لهمسات الجبال البعيدة، والضباب يلتف حول الصخور، مانحا المكان هالة من الغموض والجمال الذي يخطف الأنفاس.
اختار الشابان اللبنانيان، محمد حميد وحسين فرحات، اختبار حدود القدرة البشرية وروح المغامرة، منطلقين من قرى جنوب لبنان المعبأة بآثار الألم والدمار، فحمل كل منهما حلمه وعدسته، وانطلقا في رحلة استثنائية، حيث كل خطوة تعني تحديا جديدا، وكل نفس هو امتحان للإرادة والصبر.
لم يكن طريقهما سهلا؛ فالمنحدرات وعرة، والطريق طويل يمتد عبر وديان متعرجة، ما جعل كل خطوة تمثل تجربة فريدة تتطلب التركيز والقوة البدنية، لكنها في الوقت نفسه كانت مليئة بالجمال الذي يصعب وصفه بالكلمات.
وبينما كانا في طريقهما نحو المخيم، الذي يعد المحطة الأخيرة قبل الانطلاق نحو القمة، أدركا أنه ليس مجرد محطة على طريق الوصول، بل إن الطريق نحوه يمثل تجربة حية تلامس العين والقلب والروح.
فبين صلابة الطبيعة وجمالها الساحر، اكتشف الشابان أن المغامرة ليست مجرد صعود نحو الأعلى، بل رحلة إلى أعماق الذات، حيث يتقاطع الخوف مع الجمال، والإصرار مع المشاعر التي يصعب وصفها، فكل لحظة هنا تحكي حكاية، وكل منظر طبيعي يترك بصمة لا تُمحى في الذاكرة.
بدأ شغف محمد حميد بالمغامرة منذ طفولته، فكانت تشده جبال ووديان جنوب لبنان، ويقول "منذ صغرنا نحب المشي في الطبيعة، نزور الأنهار ونخيّم في الجبال، أول مرة قمت فيها برحلة مسير كان عمري 15 عاما، ومن بعدها استمررنا في اكتشاف لبنان وجماله الطبيعي".
ويستعيد حميد تفاصيل الرحلة ويقول للجزيرة نت "قررنا أن نخوض تجربة مختلفة، مغامرة تجمع بين حب المغامرة واكتشاف المجهول، كانت الرحلة جميلة وصعبة في آن واحد، لكنها حققت لنا ما كنا نبحث عنه: اكتشاف شيء جديد عن أنفسنا وعن العالم من حولنا".
الانطباع الأول للمكان كان ساحرا بكل المقاييس، يصف حميد المشاهد بعين تفيض إعجابا، ويوضح "ربما هو أجمل مكان في العالم، المناظر هناك تتجاوز الوصف؛ الجبال المهيبة تحيط بك من كل جانب، شعرت وكأنني زرت أجمل بقاع الأرض، لدرجة أنني لم أعد أرغب في زيارة أي مكان آخر، ربما أخطأنا بالبدء من القمة، لأننا بدأنا من أجمل ما يمكن رؤيته!"
يقاطعه رفيقه حسين فرحات ويضيف مبتسما "منذ صغرنا كانت لدينا شرارة حب المغامرة، ورافقتنا حتى صرنا كبارا، فكانت رحلتنا إلى إيفرست بيس كامب خطوة طبيعية في حياتنا".
ويؤكد فرحات للجزيرة نت أن هذه الرحلة لم تكن مجرد نزهة بين الجبال، بل كانت اختبارا حقيقيا لقدرة الإنسان على التحمل، ويقول "أصعب ما يواجه المتسلقين هناك هو نقص الأكسجين، الذي يترك أثره على الجسد والعقل معا، فالأخير يبدأ بإعطاء أوامر غريبة، وتشعر وكأنك لست واعيا تماما، كل شيء يصبح تحديا، حتى أبسط الحركات".
لقاء الشابين بسكان المنطقة الأصليين واحتكاكهما بتفاصيل الحياة الصعبة في جبال الهيمالايا زاد تفاصيل الرحلة عمقا، فالناس هناك لا يزالون يحافظون على أسلوب حياة معزول عن العالم الحديث.
يتحدث حميد عن "البورتَرز" وهم الرجال الذين يحملون الأمتعة عبر الممرات الجبلية الوعرة، ويصفهم بإعجاب قائلا "قدراتهم خارقة، يسيرون في أماكن لا يصلها أحد غيرهم، ويتحملون ظروفا لا يمكن تصورها، كل خطوة لهم تحكي عن القوة والكرامة والصبر".
ويضيف "كنا نظن أننا نعرف حدود قدرات الإنسان، لكننا اكتشفنا أنها أبعد مما نتخيل، هؤلاء يسيرون أياما طويلة حاملين أوزانا ثقيلة، ويعيشون في قرى لم تصلها سيارة أبدا، وتبعد مسافة سير أسبوع عن أقرب طريق، كان لقاء هؤلاء درسا في الصبر والتحمل".
ومن ناحية أخرى، يضيف فرحات "في تلك الارتفاعات، يصبح كل شيء غاليا؛ حتى الماء، لتر واحد قد يصل سعره إلى 7 دولارات، في مكان يفترض أن يكون ملاذا للروح، لا ساحة للتجارة".
تركت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على جنوب لبنان أثرا صعبا على حياة حميد، ويقول "توقفت حياتنا تماما، مشاريعنا جُمّدت، وأصابتنا خيبات الأمل، فقد كانت فكرة الصعود إلى إيفرست موجودة في بالنا، لكننا قررنا تأجيلها حتى تهدأ الأوضاع، وبعد عام من انتهاء الحرب، قلنا: مهما حصل، علينا أن نحافظ على شغف الحياة والمغامرة".
ويؤكد الشابان أن المغامرة لا تقاس بالإنفاق المالي، بل هي استثمار في الذات، موضحين أن تكلفة 3 آلاف دولار لكل شخص، ليست مجرد رقم، بل قرار يختاره القلب قبل العقل، ويقولان "بعض الناس ينفقونها على أشياء عابرة، أما نحن، فقد خصصناها لتجربة صقلت روحنا ووسعت نظرتنا للحياة".
يعتبر حميد أن الرحلة نحو قمة إيفرست ليست مجرد تحد جسدي، بل فعل مواجهة للخوف واليأس، ويقول "نحن لا نهرب من الواقع، لكننا نؤمن أن علينا أن نحيا رغم كل شيء، قد تأخذ الحرب منا الكثير، لكنها لن تأخذ شغفنا بالحياة".
تركت الرحلة أثرا عميقا في أعماق الشابين، رسمه كل مرتفع ومنحدر مرّا فيه، وعزز كل وادٍ وجرف جليدي من مستوى الإرادة والإصرار في نفوسهما، وتلاشت كل أنفاس تعبهما عندما رفعا علم لبنان على القمة، ليؤكدا أن المغامرة الحقيقية تكمن في اكتشاف الذات، وسط صعوبات الطبيعة وسحرها الآسر، وأن روح الإنسان المغامر قادرة على تحدي أصعب الظروف.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة