في أحد شوارع الأشرفية في بيروت، تتحدث سيدة خمسينية عبر هاتفها الخليوي بصوت عالٍ يسمعه المارة من حولها، قائلة بانزعاج: "لا أعلم لماذا عادت اليوم، وما الذي تفعله فوق الأشرفية منذ طلوع الشمس؟".
وعلى بعد عشرات الأمتار، تشكو سيدة أخرى تملك دكاناً من صعوبة التركيز مع زبائنها: "صوتها في رأسي منذ الصباح الباكر، أشعر بصداع وكأن دماغي سينفجر".
يقف بعض الأشخاص أمام محالهم التجارية، يرفعون أنظارهم إلى السماء للحظات.
في صباح ذلك اليوم، الإثنين 20 أكتوبر/تشرين الأول، عاد طنين الطائرة الإسرائيلية المسيرة فوق العاصمة اللبنانية بعد غياب لأيام قليلة. كان الصوت مرتفعاً على نحو غير مألوف مقارنة بأيام أخرى، ما يوحي بأن الطائرة كانت تحلق على ارتفاع منخفض نسبياً.
رغم مرور عام على إعلان وقف إطلاق النار بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، ما زال طنين المسيرات يؤرق السكان في بيروت وجنوب لبنان والبقاع.
تشغل سكان بيروت عند سماعها، فيتبادل بعضهم الرسائل عبر الهواتف للسؤال عما إذا كان صوتها مسموعاً في أحياء أخرى من العاصمة.
الأشرفية منطقة في شرق بيروت تمتد على تلة واسعة، وتشرف أجزاء منها على ضاحية بيروت الجنوبية.
عادةً ما تكثّف الطائرات الإسرائيلية المسيرة طلعاتها فوق الضاحية الجنوبية، وهي المنطقة التي كانت الأكثر عرضةً للقصف في بيروت خلال الحرب العام الماضي.
في اتصال مع سيدة تسكن في الضاحية للسؤال عن سماعها صوت المسيرة بالتزامن مع تحليقها في أجزاء أخرى من العاصمة، تجيب: "ومتى رحلت كي تعود؟ لم نعد ننتبه لغيابها أو حضورها، أصبح صوتها جزءاً من يومياتنا. أحياناً يشعرك الصوت بأنها داخل منزلك". وتضيف: "تشاركنا جلسات القهوة الصباحية".
حين يتناقل السكان أخبار طنين المسيرات فوق العاصمة، يتساءلون أحياناً عن دلالات التوقيت: لماذا عادت اليوم تحديداً؟ وما الهدف هذه المرة؟ هل سيتبع تحليقها اغتيالاً أو إنذاراً بالإخلاء تمهيداً لغارة؟
من المعروف أن مهمة الطائرات الإسرائيلية المسيرة تشمل الاستطلاع والمراقبة والتصوير وتحديد الأهداف أو تأكيدها، إلى جانب قدرة أنواع عديدة منها على تنفيذ غارات أو إلقاء قنابل.
لكن إسرائيل توظف تفوقها التكنولوجي في معاركها في غزة ولبنان بطرق أوسع، منها استخدام المسيرات في الدخول إلى المنازل والتفتيش وبث الرسائل الصوتية. فالمسيرات المقاتلة في الجيش الإسرائيلي بمثابة روبوت - آلة تراقب وتقاتل وتقتحم الأماكن الخطرة بدلاً من الجنود، ويقول الجيش الإسرائيلي إن هذه المسيرات ذات مهمة دفاعية.
في لبنان، يثير طنينها الدائم انزعاجاً لدى الناس، ويحدث غيابها وعودتها المفاجئة شعوراً بالقلق والهواجس.
فهل تصبح المسيرات الإسرائيلية جزءاً من واقع اللبنانيين اليومي بعد نتائج الحرب الأخيرة؟
وجّه فريق بي بي سي في القدس أسئلة للجيش الإسرائيلي حول أثر تحليق المسيّرات المستمر في لبنان وما إذا كان ذلك يعتبر خرقاً لاتفاق وقف إطلاق النار، إضافة إلى طلب التعليق حول التقارير التي تفيد بأنّ المسيرات تنتهك الخصوصية وتسبب الخوف والقلق ومشاكل طبية أخرة لدى اللبنانيين.
وردّ المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إنّ "الجيش يعمل بدقة وفقاً للقانون الدولي ووفقاً لتفاهمات وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان".
وأضاف قائلاً: "يحدد الجيش الإسرائيلي محاولات منظمة حزب الله الإرهابية لإعادة بناء بنيتها التحتية وأنشطتها في جنوب لبنان، بما يتعارض مع التفاهمات، ويتخذ إجراءات ضدها. هذه الإجراءات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي، والتي تُنفذ بواسطة طائرات مسيرة أو طائرات حربية، هي ذات طبيعة دفاعية وتُتخذ بهدف تحييد التهديدات الفورية لأمن إسرائيل".
وتابع: "إنّ الضربات التي ينفذها الجيش الإسرائيلي هي ضربات دقيقة تستهدف نشاطاً إرهابياً أو محاولات لإعادة بناء البنية التحتية، والتي، على غرار نمط عمل حزب الله في الماضي، تُجرى من مناطق مدنية في لبنان، مما يعرض سكان لبنان للخطر".
في جنوب لبنان، تبدو قصص المسيرات مع السكان العائدين إلى قراهم بعد الحرب أكثر غرابة.
تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وسائل إعلام محلية وعربية، مقاطع تُظهر اقتراب مسيرات من منازل وأفراد ومراقبتهم عن قرب، أو توجيه تعليمات ورسائل صوتية إليهم.
من الأمثلة على ذلك، خبر تداولته منصات التواصل الاجتماعي ونقلته وسائل إعلام لبنانية وعربية، عن طائرة صغيرة من نوع "كوادكابتر" اقتربت من منزل في قرية حولا صباح أحد أيام يوليو/تموز الماضي، وتخاطب رجلاً يجلس قرب زوجته عبر مكبر الصوت قائلة: "شو حج، عمتشربوا نسكافيه؟".
وفي الشهر ذاته، يوثق شاب من بلدة كفركلا الحدودية كيف لاحقته مسيرة صغيرة عن كثب أثناء وجوده قرب منزله وأثناء قيامه بتمارين رياضية على سطحه أو زيارة قبر أخيه. لم تظهر على ملامح الشاب أي إشارة خوف أو ارتباك، وكأنه اعتاد المشهد.
"لم تعد المسيرات ترعب أحداً في قرى الجنوب. تحلق فوق معظم المناطق الجنوبية بصورة شبه يومية، فيما يواصل سكان القرى حياتهم وأعمالهم كالمعتاد، حتى بعد تنفيذها عمليات اغتيال".
بهذه الكلمات يصف شاب أربعيني من قرية جنوبية قريبة من الحدود، في حديث إلى بي بي سي، المشهد اليومي في منطقته.
يقيم الشاب الذي فضّل عدم ذكر اسمه أو اسم قريته، في بيروت مع عائلته، ولا يزور القرية إلا نادراً، لكنه يقول إن القصص التي تروى بين أبناء القرية والطائرات المسيرة لا تحصى.
يروي أن أحد أبناء قريته توجه لتفقد منزله، وكان يقود حافلة صغيرة. اقتربت المسيرة من المركبة بعد توقفها، وتبعته عن قرب، فشعر بالخطر وفتح الصندوق الخلفي ليظهر محتواه، وعندها غادرت.
ويتابع قائلاً: "كثيراً ما يحدث في قريتنا أن تقترب المسيرة من أحد المارة على الطريق، فتحلق على مقربة منه كأنها تدقق في ملامحه، ثم تغادر بهدوء".
شاب آخر لم يتجاوز العشرين من عمره روى لبي بي سي لحظة اقتراب مسيرة من نافذة منزله في قرية حدودية أخرى أيضاً فضّل عدم ذكرها أو ذكر اسمه.
التقط هاتفه ليصورها، فصدر منها صوت يأمره بالتوقف عن التصوير، محذراً من أن وجودهم في المنزل يعرض حياتهم للخطر لأن حزب الله يعيد بناء قدراته، وداعياً إياهم إلى عدم التعامل مع عناصر الحزب أو استقبالهم لتجنب "الخطر الوشيك".
تعيد هذه المشاهد إلى الأذهان، رواية "1984" للكاتب البريطاني جورج أورويل، وعبارته الشهيرة: "الأخ الأكبر يراقبك"، حيث تتحول الآلة إلى عين معلقة في السماء، تتابع الأنفاس وتوجه التعليمات داخل المنازل وفي الطرقات.
يسقط اللبنانيون صفات بشرية على المسيرة حين يتحدثون عنها؛ يقولون "غادرت، جاءت، عادت، تعبت، أو أخذت قيلولة". يتحدثون إليها أحياناً، يطلبون منها الرحيل رحمة بأعصابهم، أو يوجّهون لها الشتائم.
وحين تحلق على ارتفاع منخفض، يرفع الناس أنظارهم إلى السماء في محاولة لرصدها بالعين المجردة، فيما يوثق آخرون مرورها بهواتفهم.
وأثناء تنقلها فوق أحياء بيروت، سواء كان المرء يسير على قدميه أو يقود سيارته، يلازمه شعور بأنها تراقبه.
لقب اللبنانيون الطائرات الإسرائيلية المسيّرة باسم "إم كامل" منذ ظهور النماذج الأولى من نوع MK في جنوب لبنان منتصف الثمانينيات. حرفت تسميتها إلى ما يشبه الاسم الشعبي الطريف المتداول، لتصبح بنظرهم شخصية واشية تنقل الأخبار إلى الجيش الإسرائيلي.
لكن قدرات هذه الطائرات ووظائفها تطوّرت مع مرور الوقت؛ إذ باتت بعض أنواعها قادرة على تنفيذ غارات دقيقة، أو إلقاء قنابل صغيرة، أو بث رسائل صوتية، إلى جانب إنتاج نماذج صغيرة من نوع "كوادكابتر".
تستطيع هذه النماذج الصغيرة الدخول عبر نوافذ المنازل والتنقّل بين الغرف والاقتراب من الأشخاص على مسافات قريبة، كما حدث في غزة عندما صورت إحداها موقع وجود رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يحيى السنوار، قبيل اغتياله.
ومن الأساليب الجديدة التي سجلت في لبنان أيضاً، توجيه رسائل وتحذيرات مباشرة إلى السكان، كذكر أسماء أشخاص أو إصدار تعليمات بعدم الاقتراب منهم، أو تحذير الأهالي من استضافة عناصر تشتبه إسرائيل بانتمائهم إلى حزب الله.
خلال الأسابيع الأخيرة، نفّذ الجيش الإسرائيلي عدداً من الغارات عبر المسيرات استهدفت سيارات ودراجات نارية في جنوب لبنان، وقال في بياناته إنها طالت عناصر من حزب الله.
في 22 سبتمبر/أيلول، أدّت غارة استهدفت دراجة نارية في قرية بنت جبيل إلى مقتل خمسة أشخاص من عائلة واحدة، بينهم ثلاثة أطفال، كانوا في سيارة قرب الدراجة المستهدفة.
وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي إنّ الغارة استهدفت عنصراً من حزب الله "كان ينشط في منطقة مدنية"، مضيفاً أن الجيش "يأسف لسقوط مدنيين" وإن الحادث قيد التحقيق.
كما استهدفت المسيرات عناصر جرحى في حوادث تفجير "البايجر" العام الماضي في حادثتين منفصلتين: الأولى في 6 أكتوبر/تشرين الأول في قرية زبدين وأدت إلى مقتل الجريح وزوجته، والثانية في 3 نوفمبر/تشرين الثاني في قرية الدوير وأدت إلى مقتل جريح آخر.
إلى جانب هذه العمليات، تستهدف المسيرات جرافات أو تلقي قنابل صوتية في القرى الجنوبية وأحياناً قرب الأشخاص. وينسب إليها في بعض المناسبات، توجيه رسائل سياسة مثل ما جرى عند تحليقها في 20 أكتوبر/تشرين الأول فوق القصر الرئاسي.
بيروت ليست مدينة هادئة. يعيش سكانها وسط طبقات من الضجيج اليومي، بين الاكتظاظ السكاني، وزحمة السير، وضوضاء المولدات الكهربائية، والمحال التجارية، وورش البناء.
الحرب الأخيرة عمقت هذا المشهد الصاخب؛ أصوات القصف والغارات الجوية والطائرات الحربية والمسيرات التي نادراً ما تفارق السماء، تتداخل مع اختراق جدار الصوت الذي يهز المدينة بين حين وآخر.
بيروت مدينة صغيرة المساحة، ورغم ذلك، يبقى غير واضح عدد المسيرات التي تحلق عند سماع طنينها. فهل هو صدى طائرة واحدة يمتد عبر أكثر من حي بدرجات متفاوتة، أم أن أكثر من مسيرة تملأ السماء في وقت واحد؟
في أحد الأيام التي ارتفع فيها الضجيج بشكل غير مسبوق، تمكن السكان من رصد ثلاث مسيرات تحلق جنباً إلى جنب في سماء العاصمة، في مشهد بدا كأنه عرض جوي. هنا تضاعف الصوت ثلاث مرات، وتحول الطنين إلى ما يشبه موجة مستمرة من الضغط الصوتي.
في تقرير نشره موقع الجامعة الأمريكية في بيروت في حزيران/يونيو 2026، استناداً إلى مقابلات مع طلاب جامعيين، ورد أن الضجيج المتصاعد في البلاد أثر على الطلاب أكاديمياً ونفسياً.
تقول طبيبة الأنف والأذن والحنجرة رنا بركة، وهي أخصائية في أمراض وجراحة الأذن، إنها تتلقى شكاوى متزايدة من سكان يشكون طنين المسيرات المستمر.
وتوضح أن هذا الصوت، إضافةً إلى تسببه بصداع متكرر، يضعف القدرة على التركيز أثناء العمل أو الدراسة ويؤدي إلى تشتت الانتباه.
وتضيف بركة أن الأشخاص المعرضين للصداع النصفي هم الأكثر تأثراً، موضحة أن "هناك محفزات معروفة للصداع النصفي، من بينها المؤثرات البصرية والسمعية، مثل الضوء القوي أو الأصوات المزعجة".
وتتابع: "الطنين المتواصل للمسيرة يمكن أن يسبب آلاماً في الرأس، خصوصاً لدى من يعانون من الصداع النصفي، لأن الصوت ثابت ومستمر وبتردد منخفض مزعج".
كما تشير إلى أن الأشخاص الذين يعانون من الميزوفونيا – وهي حالة عصبية تتسم برد فعل سلبي كالغضب أو القلق عند سماع أصوات معينة مثل الصفير أو النقر أو الطنين – قد يتأثرون أكثر من غيرهم، إذ يتحول الصوت بالنسبة إليهم إلى مصدر دائم للانزعاج والتوتر، يؤثر على إنتاجهم وحياتهم اليومية.
تقول المعالجة النفسية جوزيان حداد لبي بي سي إنّ أصوات المسيرات تؤثر بوضوح في الصحة النفسية لدى الأطفال والبالغين على حد سواء.
وتوضح: "هذا الصوت يعيد إلى الذاكرة أجواء الحرب والغارات الجوية التي كانت تسبقه، ويثير شعوراً بالتوتر والترقب لما قد يحدث بعده".
وتضيف: "يؤدي ذلك إلى حالة من القلق المستمر، أو ما يُعرف بالقلق المزمن، إذ يشعر الناس بتوتر دائم في حياتهم اليومية لأن الصوت قريب ولا يمكن تفاديه".
وتشير حداد إلى أن "الخوف يزداد لأننا لا نعلم سبب هذا التحليق: هل هناك ضربة جديدة؟ هل ستعود الحرب؟"، لافتةً إلى أن التعرض المتواصل لصوت مزعج يؤثر في الدماغ وفي عمل النواقل العصبية.
وترى أن الأصوات المرتفعة والمتكررة بتواتر ثابت "تترك أثراً طبياً ونفسياً واضحاً؛ فلا يمكن القول إننا نتعود عليها، بل إن التعرض لها على المدى الطويل يجعل الشخص أكثر توتراً وسرعةً في الغضب والانفعال".
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني أعلنت الحكومة اللبنانية عن الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل.
تضمن ورقة الاتفاق وجوب انسحاب مقاتلي حزب الله من المنطقة الواقعة جنوب الليطاني في جنوب لبنان، وجعلها منطقة خالية من السلاح وانتشار الجيش اللبناني. في المقابل كان على إسرائيل وقف الغارات والانسحاب من من خمس نقاط احتلتها داخل الأراضي اللبنانية خلال الحرب.
كان حزب الله قد دخل على خط الاشتباكات مع إسرائيل في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد يوم على اندلاع الحرب في غزة بعد هجوم حركة حماس على جنوب إسرائيل، وأطلق الحزب على عملية مشاركته "إسناد غزة".
استمر الطرفان بتبادل القصف مدة عام تقريباً حتى شنّت إسرائيل هجوماً عسكرياً واسعاً في نهاية سبتمبر/أيلول 2024، تمكنت خلالها من اغتيال كبار القادة العسكريين في الحزب بالإضافة إلى اغتيال أمينه العام حسن نصرالله والأمين العام الذي خلفه هاشم صفي الدين.
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة