في مشهد سنوي يعكس أحد أكثر تقاليد البيت الأبيض طرافة واهتماماً إعلامياً، وقف الديك الرومي "غوبل" بجانب الديك "وادل" أمام عدسات المصورين والصحفيين الذين احتشدوا لمتابعة مراسم العفو الرئاسي عن الديك الرومي بمناسبة عيد الشكر.
أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عفوه عن "غوبل"، وهو الديك الرومي الذي فاز في تصويت هذا العام، فيما نجا "وادل" أيضاً بفضل الأعراف الرئاسية التي تقضي بعدم ذبح أي من الديكين اللذين يدخلان في عملية التصويت ويُحضرا إلى البيت الأبيض في هذا اليوم.
ومع أن الطقوس تبدو خفيفة الظل، فإنها تحمل إرثا يمتد إلى عقود، وترتبط بشكل وثيق بتاريخ عيد الشكر نفسه، الذي يجمع بين صفحات من التعاون الأول، وصراعات دامية لاحقة، وتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية واسعة.
بدأ هذا التقليد رسمياً على يد الرئيس الأمريكي الراحل، جورج بوش الأب، في عام 1989، حين قرر منح الديك الرومي المخصص لمائدة الرئيس "عفواٍ رئاسياٍ" ينقذه من المصير الذي تواجهه ملايين الديوك الرومية الأخرى في عيد الشكر.
ومنذ ذلك الوقت، أصبح هذا المشهد جزءاٍ من الذاكرة الأمريكية، تمزجه وسائل الإعلام بالطرافة والتعليقات الخفيفة التي يطلقها الرئيس خلال الحفل، في لحظة فريدة تجمع بين السياسة والترفيه.
لكن جذور هذا التقليد أبعد من ذلك. فإحدى الروايات الشعبية تشير إلى الرئيس أبراهام لينكولن، الذي طلب منه ابنه "تاد" ذات مرة إنقاذ حياة ديك رومي كان قد تعلق به، فاستجاب لينكن ومنحه "عفواً" غير رسمي.
ومع مرور الزمن، تحوّل هذا السلوك الفردي إلى عادة، ثم إلى تقليد متكامل فيه ديكان يُنقلان خصيصاً إلى البيت الأبيض، ويُمنحان حياة ثانية، ثم يُرسلان إلى مزرعة أو جامعة ليقضيا بقية العمر بعيداً عن أطباق العيد.
أما بالنسبة للرؤساء، فقد أصبح العفو مساحة لإطلاق روح الدعابة أو الرسائل السياسية غير المباشرة.
وبالنسبة للمتابعين، فهو لحظة خفيفة وسط المشهد السياسي الأمريكي المعقد، لكنها تذكرهم في الوقت ذاته بأن عيد الشكر ليس مجرد مائدة عامرة، بل هو مناسبة ذات أبعاد متشابكة تمتد إلى جذور تأسيس الولايات المتحدة نفسها.
يعود أصل عيد الشكر إلى القرن الـ17، حين وصل المستعمرون الأوروبيون إلى الساحل الشرقي للقارة الأمريكية.
وقد كان هؤلاء المهاجرون، الذين جاؤوا غالباً من بريطانيا، يجهلون طبيعة الأرض والمناخ، فواجهوا مجاعات قاسية أدت إلى وفاة كثيرين منهم. وفي هذه اللحظة المفصلية، تدخل السكان الأصليون، وتحديداً أفراد قبيلة وامبانواغ، وقدموا للمستوطنين دروساً في الزراعة والري وفهم البيئة المحلية.
وفي عام 1621، قرر المستوطنون الاحتفال بما حصدوه لأول مرة منذ وصولهم، فخرجوا لصيد الطيور وإعداد وليمة كبيرة. لكن صوت الصيد لفت انتباه السكان الأصليين الذين توافدوا نحو المستعمرة، وتجمع نحو 90 منهم مقابل 50 من المستوطنين.
ورغم الاختلافات الثقافية واللغوية، استقبل المستعمرون ضيوفهم بترحاب، وتقاسموا معهم مأدبة حملت أصنافاً من الطيور والأسماك والغزلان والخضروات. لم تكن هناك موائد خشبية بعد، فجلس الجميع على الأرض، وامتدت الاحتفالات يومين كاملين تخللتها سباقات وإطلاق نار احتفالي وتبادل للمشروبات.
كان هذا اللقاء الرمزي بمثابة اللبنة الأولى لفكرة عيد الشكر، فكرة الامتنان بعد الحصاد، والشعور بالمشاركة في مواجهة قسوة الطبيعة. وسرعان ما انتقلت هذه الاحتفالات إلى المستعمرات المجاورة، خصوصاً في ماساتشوستس وولايات الساحل الشرقي.
لكن هذا الوئام لم يدم طويلاً. ففي 1675 اندلعت حرب تُعرف باسم "حرب الملك فيليب"، بين السكان الأصليين والمستعمرين، في واحدة من أعنف الصراعات في تاريخ أمريكا المبكر. انتهت الحرب بقتل الآلاف من السكان الأصليين، مقابل مئات من المستوطنين، واعتبرها مؤرخون كثيرون "إبادة جماعية".
ومنذ تلك اللحظة، أصبح لعيد الشكر بعد آخر: فهو بالنسبة للبعض مناسبة احتفال، لكنه بالنسبة لآخرين ذكرى مؤلمة ترتبط بالاقتلاع والدمار والفقدان.
استمرت المستعمرات البريطانية، التي عُرفت لاحقاً باسم "نيو إنغلاند"، في الاحتفال بعيد الشكر بعد الحرب، مركّزة على الصلوات والإعراب عن الامتنان للنجاة والحصاد، وأحياناً للانتصارات العسكرية، ما زاد من تعقيد دلالات المناسبة.
وفي القرن الـ 18، ترك الكونغرس قرار الاحتفال بكل ولاية على حدة بسبب الجدل حول ارتباط المناسبة بالدين. ولم يتحول العيد إلى مناسبة قومية إلا في عام 1863، حين أعلن الرئيس أبراهام لينكون عيد الشكر احتفالاً وطنياً استجابة لدعوات استمرت ثلاثين عاماً قادتها الكاتبة والصحفية سارة جوزيفا هايلي، التي اعتبرت أن الأمريكيين بحاجة إلى مناسبة توحّدهم خلال الحرب الأهلية.
لاحقاً، ثبت الرئيس فرانكلين روزفلت الموعد رسمياً عام 1942 في "رابع خميس من نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام"، وذلك بعد قرار من الكونغرس عام 1941، ليصبح العيد جزءاً من التقويم الوطني، ومناسبة يتقاسمها الأمريكيون من مختلف الأديان والخلفيات.
ومع تعاقب العقود، خف الطابع الديني للعيد، وتحول إلى مناسبة اجتماعية جماعية تتضمن تجمعات عائلية، ومواكب ضخمة، ومباريات كرة قدم أمريكية، استعدادات لـ"الجمعة السوداء"، التي أصبحت إحدى أكبر مناسبات التسوق في العالم.
بدأت المواكب بالظهور مع نهاية القرن الـ 19، وكان أبرزها موكب فيلادلفيا عام 1920، الذي شارك فيه 50 شخصاً، وظهر فيه سانتا كلوز، الذي يعرف بـ"بابا نويل" لاحقاً، وهو ما عُد إيذاناً ببدء موسم الميلاد. وفي نيويورك انطلق أشهر المواكب عام 1924، وأدخلت فيه المناطيد والبالونات العملاقة عام 1927، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من ثقافة العيد.
كما ارتبط العيد أيضاً برياضة كرة القدم الأمريكية، إذ شهد عام 1876 أول مباراة احتفالية بين ييل وبرنستون، لتصبح كرة القدم منذ ذلك الوقت ركناً ثابتاً في يوم عيد الشكر، سواء على المستوى الجامعي أو في دوري المحترفين.
أما على مستوى الاقتصادي، فقد أصبح عيد الشكر نقطة الانطلاق الرسمية لموسم التسوق السنوي. فبعد يوم واحد فقط، يبدأ الأمريكيون بالتوافد على المتاجر خلال "الجمعة السوداء"، التي تطورت إلى حدث عالمي تتكرر فيه التخفيضات في عشرات الدول.
المفارقة أن الديك الرومي لم يكن جزءا من الوليمة الأولى عام 1621، إذ كان المستوطنون يفضّلون صيد البط والإوز البري. لكن في القرن التاسع عشر، ومع انتشار عيد الشكر كمناسبة قومية، وقع الاختيار على الديك الرومي ليصبح الطبق الأول للعيد، بسبب حجمه الكبير الذي يكفي عددا كبيرا من أفراد العائلة، ولأنه طائر لا يُعتمد عليه لانتاج البيض، ما جعله أقل تكلفة وأكثر وفرة.
واليوم يتوسط الديك الرومي المائدة بوصفه رمزا لا يقل أهمية عن المناسبة ذاتها، إلى جانب أطباق البطاطا، والخضروات المشوية، وصلصات التوت البري، والحلويات التي يدخل فيها القرع بشكل أساسي. وعلى الرغم من أن ملايين الديوك تُطهى في هذا اليوم، ينجو ديكان فقط كل عام - ديكا البيت الأبيض - في تقليد يمزج بين الاستعراض والرمزية.
ورغم أن عيد الشكر ارتبط في الوعي العالمي بالولايات المتحدة، فإن كندا تحتفل أيضاً بالمناسبة، لكن في سياق مختلف.
فالعيد الكندي يأتي في "الاثنين الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام"، أي في وقت مبكر جداً مقارنة بالولايات المتحدة، بسبب اختلاف المناخ ومواعيد الحصاد. ولهذا يُنظر إلى عيد الشكر الكندي بوصفه "احتفال الحصاد" أكثر من كونه مناسبة تاريخية.
كما أن الروايات التي تحيط بالعيد في كندا أقل ارتباطا بصراعات دموية بين المستعمرين والسكان الأصليين، رغم وجود نقاشات مشابهة حول الذاكرة التاريخية.
ويقترب شكل المائدة الكندية من نظيرتها الأمريكية، مع وجود الديك الرومي أيضا، لكن الاحتفال يميل إلى أن يكون عائلياً أكثر وأقل ضخامة في المواكب والاستعراضات التجارية.
بالنسبة لكثير من الأمريكيين، يظل عيد الشكر مناسبة للعائلة، للطعام، ولتقديم الشكر. لكنه بالنسبة لآخرين مناسبة للتذكير بتاريخ لم يُطوَ تماماً، ولم تعترف به البلاد بشكل كامل حتى الآن.
ولا يزال بعض الأمريكيين، حتى يومنا هذا، يقاطعون الاحتفال بعيد الشكر، ويعتبرونه "ذكرى للمجازر التي تعرّض لها السكان الأصليون"، في حين يراه آخرون مناسبة لمراجعة التاريخ وليس مجرد تناول وجبة شهية.
وفي النهاية، يبقى عيد الشكر مناسبة تختلف قراءتها بين الأمريكيين: فهو يوم امتنان لدى البعض، ويوم حداد لدى آخرين، وهو اليوم الذي يبدأ فيه موسم الأسرة والشراء والاستعراضات، لكنه أيضا اليوم الذي يستدعي الأسئلة حول التاريخ والهوية والذاكرة الوطنية.
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة