آخر الأخبار

في عامها الـ103.. هل تصمد بي بي سي أمام أقوى أزمة منذ نشأتها؟

شارك

تطفئ هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي هذا العام شمعتها الثالثة بعد المائة، لكنها تجد نفسها في قلب أزمة تهدد مستقبلها.

فمن تهديدات قضائية أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومطالب بتعويضات بمليارات الدولارات، إلى موجة استقالات شملت أعلى المناصب، مرورا بانتقادات حادة من داخل المؤسسة نفسها، وصولا إلى مساع سياسية لوقف تمويلها.

في هذا التقرير، نستعرض أبرز محطات هذه الأزمة وتداعياتها على مستقبل عملاق الإعلام البريطاني.

مصدر الصورة مدخل مكاتب هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي (الفرنسية)

كيف انفجرت الأزمة؟

بدأت فصول الأزمة في 3 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، حين نشرت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية تقريرا تحت عنوان: "بي بي سي تلاعبت بخطاب ترامب".

واستندت الصحيفة إلى مذكرة مسربة أعدّها المستشار السابق للجنة معايير بي بي سي، مايكل بريسكوت، وصف فيها ما سماه "مشاكل منهجية مُقلقة في تغطية بي بي سي".

ومن الأمثلة التي ساقها ما اعتبره عملية تضليل استهدفت تشويه خطاب لترامب ضمن برنامج "بانوراما" الذي بثته الهيئة قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة.

وقد تضمن البرنامج دمجا لجزأين من خطاب ترامب في 6 يناير/كانون الثاني 2021، وهو اليوم الذي اقتحم فيه أنصاره مبنى الكابيتول ، وقد أعطى ذلك الدمج انطباعا بأن ترامب يُشجع صراحة أعمال شغب.

فقد قال ترامب في خطابه: "سنسير إلى مبنى الكابيتول، وسنُشجع أعضاء مجلس الشيوخ والنواب الشجعان"، بينما ظهر في برنامج بانوراما بي بي سي وهو يقول: "سنسير إلى مبنى الكابيتول.. وسأكون هناك معكم، وسنقاتل، سنقاتل بشراسة".

وكان الفاصل بين مقطعي الخطاب اللذين دمجا معا أكثر من 50 دقيقة، حيث تم اقتباس عبارة "سنقاتل بشراسة" من مقطع تحدث فيه ترامب عن "فساد" الانتخابات الأميركية.

تلقف ترامب الأخبار المتداولة عن التلاعب بخطابه بسرعة وشرع في إطلاق الانتقادات والتهديدات لبي بي سي، وطالب بالاعتذار إليه فورا وتعويضه بمبالغ ضخمة تراوح بين مليار و5 مليارات دولار، متوعدا باللجوء إلى القضاء إن لم تتم الاستجابة لطلباته.

إعلان

حاول رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر مسك عصا القضية من المنتصف عندما سئل عنها في البرلمان، فلم يتعرض لتهديدات ترامب، لكنه طالب بي بي سي بترتيب أوضاعها الداخلية، معلنا في الوقت نفسه أنه يؤمن بهيئة الإذاعة البريطانية القوية والمستقلة على عكس بعض الحاضرين في إشارة إلى النواب المحافظين.

مصدر الصورة ستارمر طالب بي بي سي بترتيب أوضاعها الداخلية وقال إنه يؤمن بهيئة الإذاعة البريطانية القوية والمستقلة (الفرنسية)

ارتباك في إدارة الأزمة

يذكر الصحفيان جين برادلي وطارق بانجا اللذان عملا نحو عقدين من الزمن في بي بي سي، في تقرير مشترك بصحيفة نيويورك تايمز، أن أعضاء مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين في بي بي سي انقسموا خلال اجتماع عقدوه في اليوم التالي لتسريب المذكرة حول طريقة التعامل مع الأزمة.

فرأى فريق أنه ينبغي التركيز فقط على الخطأ التحريري في برنامج بانوراما حول ترامب والاعتذار عنه، ووجد فريق آخر أنه من الضروري الاعتراف بثغرات أوسع في الخط التحريري.

وقد أدى هذا الانقسام إلى استقالة 2 من أكبر مسؤولي بي بي سي على رأسهم المدير التنفيذي العام تيم ديفي والرئيسة التنفيذية لإدارة الأخبار ديبورا تورنيس، كما أدى إلى عدم صدور أي رد من المؤسسة طوال أسبوع، وهو ما فاقم الجدل وأبان عن ارتباك وضعف في إدارة بي بي سي، حسب العديد من المحللين.

مصدر الصورة تيم ديفي المدير التنفيذي العام لبي بي سي غادرها بسبب أزمة برنامج بانوراما مع ترامب (رويترز)

ونقل تقرير نيويورك تايمز عن الباحث السياسي آلان راسبريدجر أن هذه الاستقالات تمثل ردة فعل مبالغا فيها وأظهرت نوعا من الضعف والإذعان للضغوط، مضيفا أن "لدى هيئة الإذاعة البريطانية أعداء شرسين يضعونها تحت المجهر ويُضخّمون أي شيء تفعله".

وفي السياق ذاته، وضمن مقال عن القضية نشرته صحيفة الغارديان، يعتبر محرر الشؤون الإعلامية في الصحيفة مايكل سافاج أن هناك غيابا تاما لهيئة الإذاعة البريطانية في الدفاع عن نفسها في فترة حرجة، مما سمح للوضع بالتفاقم.

ويرى سافاج أن مقطع فيديو مُعدّلا بشكل خاطئ وبث نقاشات حرب الثقافة اليمينية كلها أمور تافهة لا تستحق هذه الضجة.

وبدورها، تنقل الغارديان عن الكاتبة جين مارتينسون قولها "إن هيئة الإذاعة البريطانية انتهى بها الأمر إلى أن تبدو "ضعيفة وجبانة عندما تطلّب الأمر قوة وشجاعة".

هل بي بي سي يسارية معادية لإسرائيل؟

بالإضافة إلى خطاب ترامب، سردت مذكرة بريسكوت ما وصفته بسلسلة من الإخفاقات التحريرية التي أظهرت تحيزا يساريا منهجيا في هيئة الإذاعة البريطانية، خصوصا في ما يتعلق بالحرب بين إسرائيل وحماس .

وحسب مراقبين، فقد وجد خصوم بي بي سي المتربصون بها من المحافظين واليمين البريطاني في المذكرة المسربة سانحتهم للانقضاض على الهيئة واتهامها بالانحياز للفلسطينيين والمطالبة بوقف التمويل عنها.

وكانت جهات يمينية قد شنت حملة واسعة على بي بي سي بعد بثها فيلما وثائقيا بعنوان: "غزة: كيف تنجو من منطقة حرب"، قيل إن الطفل الذي ظهر يتحدث فيه ابن لأحد قادة حماس، كما ثارت ثائرة اليمينيين أيضا لكون بي بي سي لم تقطع بث مهرجان غلاستونبري الموسيقي عندما هتف أحد الفنانين "الموت للجيش الإسرائيلي".

إعلان

ويتحدث منتقدو بي بي سي أن تغطيتها للحرب على غزة "صُممت لتقليل معاناة الإسرائيليين وتصوير إسرائيل بصورة المعتدي".

لكن مراقبين يستبعدون تهمة معاداة بي بي سي لإسرائيل، بل إن هناك من يرى العكس ويتهم بي بي سي بشيء من التغاضي عن حملة التجويع والإبادة التي تعرض لها الفلسطينيون.

فقد نقل تقرير رويترز عن الصحفي السابق في بي بي سي جون سوبيل قوله إن من يتحدثون عن شكاوى تتعلق بتحيز يساري في إنتاج بي بي سي يغضون الطرف عن تحيز يميني طالما اتهمت به المؤسسة بشأن تغطيتها للأحداث المتعلقة بإسرائيل.

وقال رئيس مجلس إدارة بي بي سي سمير شاه نفسه: "لا أعتقد أن هناك تحيزا منهجيا ضد إسرائيل في هيئة الإذاعة البريطانية، بل هناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك تقريبا".

مصدر الصورة ناشطون يتظاهرون أمام مقر بي بي سي احتجاجا على التحيز لإسرائيل (شترستوك)

من يقف وراء الأزمة؟

حسب محللين، فإن شكوكا كثيرة تحوم حول حقيقة الحملة الحالية ومصداقيتها، فبريسكوت الذي سربت مذكرته إلى التلغراف كان قد تم إنهاء عقده من دون تجديد مع مؤسسة بي بي سي في يونيو/حزيران الماضي.

وذلك إضافة إلى أنه حسب ما نقله تقرير نيويورك تايمز عن مديرين تنفيذيين في بي بي سي فإن تعيين بريسكوت أصلا جاء نتيجة ضغوط مارسها عضو مجلس الإدارة المحافظ روبي جيب.

وكان جيب قد عُيّن في مجلس الإدارة عام 2021 من قبل رئيس الوزراء السابق المحافظ بوريس جونسون، والذي عرف بانتقاداته لهيئة الإذاعة البريطانية.

ويصف جيب نفسه بأنه "محافظ تاتشري أصيل"، في إشارة إلى مارغريت تاتشر ، رئيسة الوزراء التي هيمنت على السياسة البريطانية خلال ثمانينيات القرن الماضي.

وكان قد كتب قبل انضمامه إلى مجلس الإدارة مقالا في صحيفة التلغراف نفسها انتقد فيه مسار بي بي سي، وجاء فيه: "لقد أُسرت هيئة الإذاعة البريطانية ثقافيا من قِبل مجموعة من موظفيها المثقفين من ذوي الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية المتشابهة، فهيمنوا عليها وطبعوها بطابع يساري".

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن أحد موظفي بي بي سي قوله: "ما دام روبي جيب موجودا في المؤسسة لا يُمكننا أن نثق حقا بأننا مؤسسة غير متحيزة".

مصدر الصورة روبي جيب عضو مجلس إدارة بي بي سي (غيتي)

ما الذي يستطيع ترامب فعله؟

أرسل محامو ترامب رسالة إلى هيئة الإذاعة البريطانية، يطالبونها فيها بسحب الفيلم الوثائقي فورا، وتقديم اعتذار لترامب وتعويضه، مهددين بأنه في حال عدم الامتثال فقد يرفعون دعوى قضائية "لمطالبة بتعويضات لا تقل عن مليار دولار".

أعلنت بي بي سي الجمعة الماضية اعتذارها لترامب، ووعدت بعدم عرض البرنامج مرة أخرى، لكنها رفضت مطالب التعويض، مجادلة بأن المقطع لم يُصمم للتضليل، بل فقط لتقصير خطاب طويل، وأن البرنامج تضمن أيضا العديد من الآراء المؤيدة لترامب.

ويرى مراقبون أنه من المتوقع أن يرفع ترامب دعوى قضائية على بي بي سي في ولاية فلوريدا الأميركية، حيث يقيم قانونيا.

ونقل تقرير لبي بي سي عن الخبير القانوني جوشوا روزنبرغ أن "احترام حرية التعبير في المحاكم الأميركية أكبر منه في المملكة المتحدة، ومن يشغل منصب ترامب يتعين عليه عادة إثبات أن الشخص الذي يتهمه تصرف بخبث تجاهه، كما سيتعين على ترامب إثبات تكبده خسائر فادحة بسبب البرنامج".

وبدوره، قال الرئيس التنفيذي لشركة نيوزماكس ميديا الإعلامية الأميركية وحليف ترامب، كريس رودي، إنه على دراية تامة بقوانين التشهير في فلوريدا، وهو "واثق جدا" من فوز بي بي سي إذا وصلت قضيتها إلى المحكمة.

ترامب شرع في انتقاد بي بي سي وهددها وطالب بالاعتذار إليه وتعويضه بمليارات الدولارات (شترستوك)

هل تؤثر الأزمة على مستقبل بي بي سي؟

تُموَّل بي بي سي من رسوم الترخيص التي تدفعها جميع الأسر التي تشاهد التلفزيون في بريطانيا، ويصدر كل 10 سنوات ميثاق ملكي يحدد تفاصيل هذا التمويل، ومن المقرر أن ينتهي الميثاق الحالي عام 2027.

إعلان

وتواجه الحكومة صعوبة في حث البريطانيين على الاستمرار في تمويل الشبكة، خصوصا في ظل انتشار منصات ووسائط البث المتعددة الأخرى، إضافة إلى أن الحملات المستمرة ضد الهيئة قد تضعف موقف الحكومة.

لكن تقرير رويترز يؤكد أن استطلاعات الرأي البريطانية تُظهر أن بي بي سي هي مزود الأخبار الأكثر ثقة والأكثر استخداما في بريطانيا، إذ إن أخبارها تصل إلى 67% من جميع البريطانيين عبر التلفزيون والراديو والإنترنت.

ورغم أن بي بي سي واجهت أزمات سابقة متعددة، فإنه لم يسبق للهيئة أن استقال اثنان من كبار مسؤوليها في وقت واحد كما هو حادث الآن، وهذا يعني أن المؤسسة أمام أزمة حقيقية قد لا تقضي عليها، لكنها قد تتسبب في ظهور أضعف لها، وهو ما يمثل تحقيقا لهدف قديم لدى اليمين الذي يتزايد نفوذه حاليا في المجتمع البريطاني.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا