في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في خضم هذه المرحلة الانتقالية بين الحرب والمحاسبة بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار في قطاع غزة ، يبرز الملف القانوني الفلسطيني أمام المحكمة الجنائية الدولية كأحد أهم مفاتيح العدالة المؤجلة. واليوم، يعيش القطاع المحاصر لحظة سياسية وقانونية دقيقة حيث يطفو من جديد السؤال الأكبر: ماذا بعد؟
وفي هذا السياق، أجرت الجزيرة نت حوارا مع المحامي عبد المجيد مراري، الخبير في القانون الدولي ومدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة "إف دي" الدولية، للحديث عن مستقبل التحقيقات والعقبات التي تقف أمام تحويل الجرائم الموثقة في العدوان الإسرائيلي على غزة إلى لوائح اتهام حقيقية.
وأكد مراري أن لا هدنة للفريق القانوني أمام المحاكم الدولية رغم اتفاق وقف إطلاق النار، مشيرا إلى الضغوط التي تواجهها الجنائية الدولية وحدود صلاحياتها التي تستوجب حماية دولية لها، مما يشكل معركة قضائية دولية أخرى شديدة الأهمية.
وكقانوني مترافع أمام "الجنائية" وباقي المحاكم الدولية، رحّب مراري باتفاق وقف إطلاق النار ووصفه بـ"خطوة السلام" التي يستحقها الشعب الفلسطيني بعد كل التضحيات التي قدمها بدمائه وبكل ما يملك.
كما أعرب المحامي عن أمله أن تلتزم إسرائيل بهذا الاتفاق والهدنة من أجل السلام، مؤكدا في الوقت ذاته أن "لا هدنة قانونية بالنسبة للفريق القانوني والحقوقي رغم وقف إطلاق النار ما دامت لم تتحقق العدالة".
وصرح مراري أن "إصدار الشكاوى والدعاوى القضائية والملاحقات ستستمر إلى أن نحقق العدالة للطفل والأم الفلسطينية وأهالي غزة الذين جُوّعوا، وسترتبط الهدنة الحقيقية بوضع الجناة وراء القضبان".
وأشار إلى ما وُصف بـ"الهبة القضائية" على المستوى الأوروبي والدولي، "مثل تحركات المدعي العام الفرنسي والإسباني والبريطاني، فضلا عن القضاء الهولندي الذي حسم مسألة العلاقات الاقتصادية وتصدير السلاح مع إسرائيل".
وأضاف المحامي "نسير بالاتجاه الصحيح وفي انسجام كامل مع كل إجراءات الجنائية الدولية، كما أن قضاة المحكمة ومكتب المدعي العام بكل معاونيه ونوابه مقتنعون تماما بأن هناك جرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية تستحق المعاقبة، وهي أمور لم تكن موجودة قبل عام 2023″.
ورغم قتامة الصورة التي قد تظهر من بعيد، لا يرى مراري أن باب العدالة مغلق تماما، فقد أكد أن الفريق القانوني الذي بدأ عمله منذ عام 2008 مقبل على خطوات مهمة جدا أمام المحكمة الجنائية وسيتم تنظيم أكبر تجمع دولي للمحامين من مختلف الدول أمام مقر المحكمة في لاهاي نهاية أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
ومن المتوقع توجيه شكايات أخرى موضوعات داخل الجنائية الدولية في القريب العاجل تتعلق بتخصصات مهنية، كالأطباء والصحفيين وغيرها، وفق المتحدث.
وبين مسار القضاء وموازين السياسة، يكاد المحامي يجزم أن إسرائيل خسرت المعركة القضائية بكل مراحلها، ليس فقط من خلال رفض ما يزيد على 50 طعنا تقدمت به حتى الآن. ولكن أيضا أوروبيا، حيث بدأت مكاتب الادعاء العام تتحرك من تلقاء نفسها بعد أن اتُهمت عدة مرات بأنها مسيسة ومتواطئة من قبل البعض.
وفي هذا السياق، أشار مراري إلى تسجيل "انتصار القضائي" بعد "السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023" من خلال التحرك الذي قامت به الفرق القانونية يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وتقديمها شكوى للجنائية الدولية بشأن الإبادة الجماعية بغزة، معتبرا أن "إسرائيل ربحت معركة قتل الأطفال وتجويعهم وتطهيرهم وتهجيرهم" ووصف ذلك بـ"السقوط الأخلاقي".
وقام المدعي العام في باريس بفتح تحقيق في جرائم إبادة محتملة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية الفترة الأخيرة، بناء على شكاوى قدمتها جدة فرنسية لحفيدين استشهدا من غزة، وعدد من المحامين.
بالإضافة إلى ذلك، تواجه رئيسة وزراء إيطاليا جورجا ميلوني مع وزيري الخارجية أنطونيو تاياني والدفاع غويدو كروسيتو شكوى أمام الجنائية الدولية تتهمهم بالتواطؤ في الإبادة الجماعية بقطاع غزة.
وتعليقا على ذلك، أوضح مراري أن اتفاقية تجريم الإبادة الجماعية تنص في المادة الثالثة على أن مرتكب الإبادة الجماعية يُعاقب، ومن يحرض عليها في الفقرة الرابعة، وتعاقب الفقرة الخامسة من يشارك فيها أيضا.
وتواجه الجنائية الدولية تحديات كثيرة تختبر سمعتها ومصداقيتها، في ظل الاتهامات التي وجهت للمدعي العام كريم خان بسلوك جنسي غير لائق، مما دفعه إلى الاستقالة مؤقتا من مهامه إلى حين الانتهاء من التحقيق.
وتعليقا على ذلك، قال مراري "نعتمد كمحامين ورجال قانون على قرينة البراءة وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وبالنسبة لنا، نرى أن كريم خان بريء على خلفية ما راج قبل الاتهام، حيث قيل له في أحد الاجتماعات أنه سيُلفّق له دعاوى وأنه سيتم تشويه سمعته وتصفيته".
وتجدر الإشارة إلى أن كريم خان بقي مصرا على مواجهة الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بالمذكرات، فقبل خروجه بأيام قليلة إلى عطلته وصل الفريق القانوني خبر عن وجود مذكرات اعتقال جديدة وجاهزة باسم وزير المالية الإسرائيلية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إيتمار بن غفير .
وفي تفاصيل المقابلة، ذكر مراري أن خلافا وقع بين الغرفة التمهيدية في المحكمة ومكتب المدعي العام حول مسألة سرية هذه المذكرات، خاصة وأن كريم خان تمسك بضرورة إصدار مذكرات الاعتقال.
ويعتقد المحامي أنه ليس من حق أي رئيس دولة، بما في ذلك الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فرض عقوبات على المدعي العام لأن "القضاء يعاقِب ولا يُعاقَب، والقاضي نعاقبه عندما يخالف مهامه أو يخرج عن حياده ونزاهته ومهنيته، وهناك إجراءات لمعاقبة القضاة منصوص عليها في نظام روما والقوانين الإجرائية للمحكمة الدولية".
الجنائية الدولية ترفض طلبا جديدا لتجميد مذكرات التوقيف الصادرة بحق نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت.. ما القصة؟ pic.twitter.com/QB59zLO3LO
— قناة الجزيرة (@AJArabic) October 18, 2025
وبين التهديدات العلنية بفرض العقوبات على القضاة، والابتزاز السياسي من قبل دول كبرى تخشى أن تمتد يد العدالة إلى حلفائها، تجد المحكمة الجنائية نفسها أمام ضغوط غير مسبوقة.
وبالتالي، يرى الخبير بالقانون الدولي أن الضغوط التي تواجهها المحكمة لا تعطي الطمأنينة على مستقبلها لأنها تأسست بهدف إنجاز العدالة وتحقيقها، "ولم تؤسَّس من أجل معاداة السامية أو استهداف دولة معينة، لأنها غير مسيّسة وتقوم بواجبها، رغم ظهور نوع من ازدواجية المعايير" حسب قوله.
ويرى مراري أن الاحتلال الإسرائيلي يعاقب القضاء والمحكمة وحتى الضحايا الذي يتوجهون للقضاء الدولي من خلال تصفيتهم والانتقام من عائلاتهم، "وبالتالي، يتوجب إرادة دولية لحماية هذا القضاء".
وأكد أن الجنائية الدولية لا تستطيع حماية نفسها لأنها لا تملك القوة الأمنية أو العسكرية، وعلى كل من صادق على هذا النظام أن يحمي هذه العدالة، متسائلا "لماذا لم تتدخل باريس لحماية القاضي الفرنسي الذي تعرض لتهديد بالقتل بسبب مصادقته على مذكرات التوقيف؟".
وأضاف "لا ننسى البلطجة العلنية التي مورِست على الجنائية الدولية منذ مدة، وأكدها مكتب المدعي العام في بلاغ رسمي أشار فيه إلى تعرضه للتهديد ومكتبه، أثناء زيارة رسمية لعضوين من الكونغرس الأميركي ".
واعتبر أن إحساس المسؤولية لدى المدعي العام هو الذي دفعه إلى أخذ عطلة مفتوحة لكي لا يؤثر على سير التحقيقات، ويعطي المجال أمام لجنة الأخلاقيات داخل المحكمة لتعمل براحة أكبر.
أما عن مسألة ازدواجية المعايير التي يتم انتقادها بشكل دائم، فقد أشار مراري إلى الدعم الذي استفاد منه المسار القضائي لأوكرانيا من قبل الدول الأوروبية، في وقت تم التخلي عن المسار القضائي للقضية الفلسطينية بشكل واضح.
ففي حالة أوكرانيا، تحركت المحكمة في وقت وجيز "لأنه توفر لديها التمويل الذي غاب في الملف الفلسطيني، فالمحكمة لا يمكنها أن تتحرك بأطقمها وتسافر إلى مختلف دول العالم من أجل التحقيقات، إلا إذا توفرت ميزانية خاصة بذلك".
وفيما يتعلق بحماية الضحايا والشهود، أشار مراري إلى وجود بروتوكول خاص يتم اتباعه للتواصل مع الضحايا لتوفير السلامة وسرية التخابر مع المحكمة داخل قسم التحقيقات، فضلا عن إجراءات تقتضي حماية حقوقهم.
وقال الخبير بالقانون الدولي "يظهر للعالم أن الجنائية الدولية لا تحرك ساكنا رغم الجرائم والإبادة، لكن القضاء لا يتحدث، بل يشتغل رغم كل الضغوط والتهديدات، والتحقيقات جارية تستوجب مبدأ السرية".
وفي إطار مشاركته كمتحدث بالمؤتمر الدولي لحماية الصحفيين في مناطق النزاعات الذي استضافته الدوحة يومي 8 و9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، قال مراري إن ملف الصحفيين لا يزال متأخرا جدا في مسار العدالة الدولية، مؤكدا عدم وجود أي دعوة خاصة باسم الصحفيين داخل الجنائية الدولية.
وأوضح أنه من المتوقع الاستماع لشهادات عدد من الصحفيين وجمع التوثيقات للتوجه بها إلى المحكمة لتقديمها في شكاوى إسمية، بما في ذلك شكوى خاصة باسم الصحفي في قناة الجزيرة أنس الشريف الذي استشهد بغزة في أغسطس/آب الماضي، وأخرى عن عائلة مدير مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح .