آخر الأخبار

كيف يغيّر ذوبان الجليد جغرافيا أوروبا السياسية؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في القارة التي رسمت حدودها بين الجبال والأنهار منذ قرون، بدأ ذوبان الجليد يفتح أسئلة جديدة حول معنى الأرض والسيادة والمكان، وأصبح المشهد الأوروبي يسير نحو مرحلة تعيد فيها الطبيعة كتابة الخرائط بصمت وبعمق لافت.

فقد أظهر تقرير نُشر في صحيفة فايننشال تايمز في فبراير/شباط 2025 أن الأنهار الجليدية في جبال الألب وسلسلة البيرينيه فقدت نحو 40% من حجمها منذ عام 2000، وأدى هذا التراجع السريع إلى تغيّر جلي في معالم الحدود الطبيعية بين دول أوروبا الوسطى، خصوصًا بين سويسرا وفرنسا وإيطاليا والنمسا، حيث بدأت ملامح التضاريس تتبدل مع انحسار الجليد الذي كان يشكل لقرون طويلة فاصلا طبيعيا واضحا بين الدول.

وقد أدّى هذا الذوبان إلى ظهور بحيرات ووديان جديدة، وتحوّل في اتجاه تدفق بعض الأنهار، مما أفقد الخرائط القديمة دقتها، وأجبر السلطات المحلية على إعادة تحديد خطوط الفصل المائي والبري لتفادي أي التباس حدودي أو نزاع قانوني قادم.

ولا يشكل هذا الذوبان السريع تهديدا بيئيا فقط، بل يُعيد طرح التساؤل: متى ولماذا قد يُعاد رسم الحدود إذا تحركت المعالم الطبيعية التي كانت تُعتبر خطوطا فاصلة بين الدول؟

مصدر الصورة جبال البيرينيه بين إسبانيا وفرنسا (شترستوك)

القانون الدولي بين ثبات النصوص وتغير الجغرافيا

في إطار القانون الدولي، تُعتبر الحدود إطارا جوهريا لسيادة الدولة ، فهي ترسم نطاق السلطة وتشكّل معيارا للاعتراف بها. وعبر التاريخ، اعتمدت كثير من الاتفاقيات الدولية على المعالم الطبيعية، كالجبال والأنهار والأنهار الجليدية، باعتبارها خطوطا فصلية ثابتة بين الدول.

ولكن هذا التقليد القانوني بدأ يتصدع أمام الواقع المناخي الجديد الذي يُحوّل المعالم الطبيعية تدريجيا إلى عناصر متحركة.

وعند دراسة مفهوم الحدود في القانون الدولي الأوروبي المعاصر، يتضح أن المبدأ التقليدي في "ثبات الحدود" قد استُخدم لعقود طويلة كأساس للاستقرار الدولي بين الدول المتجاورة.

إعلان

ولكن المفاجآت التي يُحدثها ذوبان الجليد تُثير الحاجة إلى إعادة تقييم هذا المبدأ في سياق الطبيعة المتحوّلة، فلو تراجع نهر جليدي كان يُشكل خطا فاصلا بين دولتين، أو انكشفت أرض لم تكن ظاهرة من قبل، فهل تتغير الحدود تلقائيًا تبعا للواقع الجديد، أم تبقى كما كانت في الوثائق القديمة؟

ومن الناحية القانونية، يلجأ المشرع الدولي عادة إلى مبدأ أوتي بوسيديتيس الذي يرمي إلى تثبيت الحدود كما كانت عند توقيع المعاهدات، بغض النظر عن التغيرات الطبيعية اللاحقة. غير أن هذا المبدأ قد يُشكّل عقبة قانونية في مواقف ذوبان الجليد، إذ يرفض تعديل الحدود حتى عندما يكون الواقع الجغرافي الجديد ملموسًا ومعترفا به علميا.

وفي أوروبا تحديدا، ثمة اتجاه متزايد لدى الأكاديميين والقانونيين نحو اعتماد مفاهيم أكثر مرونة، مثل "الحدود البيئية المتحركة" أو "الحدود المرنة". وتفترض هذه المفاهيم إمكانية تعديل بسيط للحدود في حالات يقر الجميع بأنها ناشئة عن تغيّر طبيعي موثوق، شرط موافقة الدول المعنية وإشراف جهات فنية مستقلة.

وتُظهر دراسات حديثة أن استخدام التقنيات الفضائية، مثل الأقمار الاصطناعية والتصوير الجوي عالي الدقة، قد جعل من الممكن رصد تحركات دقيقة في التضاريس، مثل هبوط الصخور أو تراجع الثلوج الجليدية أو تغيّر مجرى الجداول الصغيرة، بمستوى حساس يكفي أن يُشكل أساسا قانونيا لمطالب تعديل حدود صغيرة أو إعادة تأكيد خطوط قديمة.

ففي السنوات الأخيرة، برز مبدأ التعامل القانوني مع التحولات الجغرافية كضرورة ملحة في الأطر الأوروبية.

ومع ذوبان الأنهار الجليدية التي تُعد مصادر للأحواض المائية العابرة للحدود، مثل حالة نهر الرون الذي ينبع من الألب السويسرية ويصب في فرنسا، تتداخل القضايا البيئية مع القضايا القانونية والحدودية إذ لم تَعُد الحدود مجرد مسألة سياسية أو تاريخية، بل أصبحت موضع اختبار بين ضمان استقرار السيادة والتكيّف مع الطبيعة التي تغيّر ملامحها بصمت.

ولعل أبرز مثال على هذا الاختبار الآن هو جبال الألب، حيث تجتمع الدول وهي ترقب كيف يمكن أن يتحول علم الخرائط إلى ساحة دبلوماسية وقانونية تحكمها الأدلة العلمية والتحكيم الدولي.

مصدر الصورة نهر الرون الجليدي وهو يذوب في بحيرته الجليدية (الفرنسية)

ذوبان الجليد وإعادة رسم الحدود

أشار تقرير لوكالة رويترز -في أكتوبر/تشرين الأول 2025- إلى أن الأنهار الجليدية السويسرية فقدت نحو 3% من كتلتها الجليدية خلال السنة الهيدرولوجية الأخيرة (أو السنة المائية وتبدأ من أول أكتوبر/تشرين الأول إلى 30 سبتمبر/أيلول من العام التالي) وهو واحد من أكبر الانخفاضات السنوية المسجلة على الإطلاق في سويسرا.

وفي مناطق عدة من الألب السويسرية، كوّن تراجع الجليد بحيرات حديثة غيّرت اتجاهات المياه الجبلية، مما أثر في اتفاقيات تقاسم المياه بين الكانتونات والدول المجاورة.

وفي فرنسا، تسبّب انحسار الجليد في جبال مونت بلانك في كشف صخور كانت مدفونة بالكامل، مما أدى إلى مراجعة بعض الإحداثيات الحدودية القديمة بين فرنسا وإيطاليا.

وأظهرت البيانات الطبوغرافية الجديدة أن الخط الفاصل بين الدولتين تحرك في بعض المواقع بمقدار عشرات الأمتار، وهو تحول جغرافي وإن كان محدودا في الظاهر، إلا أن له تبعات سياسية وقانونية كبيرة في سياق سيادة الدول وحدودها الإقليمية.

إعلان

ولا يوفر القانون الدولي آلية جاهزة للتعامل مع هذه الظواهر الطبيعية المستمرة، فمبدأ أوتي بوسيديتيس يوريس -الذي ينص على تثبيت الحدود كما كانت عند توقيع المعاهدات- يفترض استقرار المعالم الجغرافية، بينما الواقع المناخي الحالي يُظهر أن تلك المعالم تتغير بمرور الوقت إذ يخلف هذا التباين فراغا قانونيا يستدعي تطوير أدوات جديدة لإدارة الحدود المتحركة دون المساس بالسيادة.

ولهذا بدأت بعض الدول الأوروبية المتأثرة بالذوبان الجليدي في إنشاء لجان مشتركة تضم خبراء في الجغرافيا والبيئة والقانون الدولي لمراجعة الخرائط اعتمادا على بيانات الأقمار الاصطناعية والمسح ثلاثي الأبعاد، لضمان أن تكون التعديلات الحدودية مستندة إلى أدلة علمية دقيقة ومتفق عليها.

ويساعد هذا النهج التقني على تقليل احتمالات النزاع، لأن إعادة ترسيم الحدود لا تتم بقرارات سياسية بل وفق نتائج موضوعية قابلة للتحقق. كما يجري النقاش حول وضع آليات قانونية ديناميكية تسمح بتعديل الحدود تلقائيًا عند وقوع تغيّرات بيئية كبرى، دون الحاجة إلى مفاوضات جديدة.

مصدر الصورة علماء يأخذون عينات من جليد فايسزيشبيتسه بالنمسا لدراسة تاريخ نهر جيباتشفيرنر الذي يذوب بسرعة (غيتي)

ومن المقترحات التي طُرحت بهذا الصدد صياغة اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف تُحدد الإجراءات المعيارية لتعديل الحدود في حال تغيّر التضاريس، مع الحفاظ على التوازن الإقليمي وتجنب أي توترات دبلوماسية.

ولم يقتصر تأثير هذه التحولات على الخرائط، بل امتد إلى الاقتصاد المحلي والبنية التحتية. ففي المناطق السياحية من الألب الفرنسية والسويسرية، أدى انحسار الجليد إلى تراجع مواسم التزلج الشتوي وانخفاض العائدات السياحية، بينما تأثرت الزراعة الجبلية بانخفاض تدفق المياه الذائبة التي تغذي التربة والأنهار.

كما تغيرت أنماط توزيع المياه العذبة ومجاري الأنهار الجبلية، مما اضطر الحكومات إلى إعادة تقييم شبكات النقل والسدود والطاقة المائية.

وفي النمسا، مثلا، أظهرت الدراسات أن إنتاج الطاقة الكهرومائية تراجع في بعض المحطات الجبلية بسبب تقلص الجريان المائي الموسمي القادم من الجبال الجليدية.

وتشير البيانات المناخية الحديثة إلى أن الأنهار الجليدية الصغيرة هي الأكثر تضررا، إذ فقد العديد منها أكثر من نصف كتلته خلال العقدين الماضيين. وفي المقابل، تكوّنت عشرات البحيرات الجليدية الجديدة في مواقع لم تكن موجودة سابقًا، وهو ما زاد من مخاطر الانهيارات الأرضية والفيضانات المفاجئة.

وقد فرض هذا الواقع على الاتحاد الأوروبي تبنّي برامج مراقبة بيئية أكثر شمولا، من خلال وكالة البيئة الأوروبية، لتتبع التغيرات في الجبال ورصد آثارها الجيوسياسية والاقتصادية. كما طُرحت مشاريع تعاون بيئي بين الدول المتجاورة لإدارة الموارد المائية الناشئة نتيجة الذوبان، خاصة في مناطق الحدود التي تربط الكثير من الدول.

وتستهدف هذه المشاريع تطوير نظام مشترك لتوزيع المياه العذبة، وحماية الأنظمة البيئية الجبلية من الانهيارات والانجرافات.

وقد بدأت بعض المبادرات الأوروبية في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل صور الأقمار الاصطناعية وتوقع التغيرات في حجم الكتل الجليدية، بغرض الاستباق في تعديل السياسات الحدودية وتخطيط البنية التحتية.

ومع استمرار ارتفاع درجات الحرارة، يُتوقع أن تتسارع هذه الظاهرة خلال العقود المقبلة، مما سيجعل إعادة التكيّف مع الطبيعة جزءا من الأمن القاري الأوروبي، ويحول حدود القارة من خطوط ثابتة إلى أنظمة متغيرة تستجيب لتقلبات المناخ.

جبال الألب مختبر طبيعي لتحولات الحدود

تُجسّد جبال الألب على الحدود بين سويسرا وإيطاليا أثر التغير المناخي في الجغرافيا والسياسة، إذ أدى ذوبان الأنهار الجليدية بين الدولتين إلى تغيّر مواضع الحدود، في ظاهرة نادرة الحدوث بأوروبا الحديثة.

إعلان

ووفق تقرير نشرته صحيفة غارديان بعنوان "الأنهار الجليدية الذائبة تجبر سويسرا وإيطاليا على إعادة رسم جزء من الحدود الألبية" فقد أجبرت التغيرات في الكتل الجليدية البلدين على إعادة رسم وتحديد جزء من حدودهما المشتركة، خاصة المناطق المحيطة بقمة ماترهورن.

فقد كانت الأنهار الجليدية والمعالم الطبيعية -مثل الخطوط الجبلية والأنهار الثابتة لفترة طويلة- تعتبر الفواصل الطبيعية بين الدولتين، غير أن التراجع المستمر في حجم هذه الأنهار كشف صخورا وأراضي جديدة لم تكن واضحة من قبل، ولم تعد الخرائط التقليدية دقيقة، واستدعى تدخلا دبلوماسيا وقانونيًا لتحديث الحدود.

ويعتبر تيودول الجليدي أحد أبرز الأنهار الجليدية المتأثرة ويقع بين مقاطعة فاليه السويسرية ووادي أوستا الإيطالي. و على مدى العقود الماضية، كان الجليد يغطي معظم الصخور والمنحدرات، مما جعل خط تقسيم المياه ثابتا ومحددًا للحدود الطبيعية.

ومع تقلص الجليد بشكل متسارع، ظهرت أراض صخرية جديدة، وأصبح من الضروري إعادة تحديدها بدقة، وتشمل التعديلات مناطق حيوية بالنسبة للخرائط الجغرافية والسياحية، مثل تستا غريجيا وبلاتو روزا وريفوجيو كاريل وغوبّا دي رولين، وهي مواقع يرتادها المتزلجون والسائحون منذ عقود.

وبحسب التقرير، تم التوصل إلى اتفاق بين البلدين في مايو/أيار 2023 لتحديث الخرائط الحدودية، إذ وافقت سويسرا رسميا على التعديلات، في حين كانت إيطاليا في مرحلة المصادقة على الاتفاقية، بما يضمن أن أي تغيير يتم بطريقة متفق عليها دبلوماسيا، ويُحافظ على الاستقرار السياسي بين الدولتين.

ويعد هذا التعاون مثالا نادرا على كيفية تعامل الدول مع التغيرات الطبيعية التي تؤثر على سيادتها، بعيدا عن النزاعات التقليدية على الأراضي.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة


الأكثر تداولا اسرائيل دونالد ترامب حماس

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا