في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
دفعت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على السفن المدنية -التي تهدف إلى كسر الحصار المفروض على قطاع غزة – إلى طرح تساؤلات متجددة بشأن جدوى القواعد الدولية المنظمة للنزاعات وحرية الملاحة، ومدى تطبيق هذه القوانين على إسرائيل، لا سيما مع الحصار التام الذي تفرضه على المدنيين الفلسطينيين منذ عامين.
وحسب المبدأ القانوني الدولي، فإنه يتوجب على جميع الأطراف احترام حرية الملاحة وعدم تعرض المدنيين للخطر، خاصة حين يتعلق الأمر بقوافل تحمل مساعدات إغاثية للضحايا المدنيين، حسب ما قاله خبيران في القانون الدولي للجزيرة نت.
غير أن الواقع يكشف عن هوة كبيرة بين النصوص القانونية والممارسات الفعلية، إذ تتكرر الحوادث التي يتعرض فيها نشطاء وصحفيون وأطباء للاعتقال أو الاعتداء لمجرد محاولتهم إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة المحاصرة.
وفجر اليوم الأربعاء، كانت أحدث هذه الهجمات مع إعلان اللجنة الدولية لكسر الحصار عن غزة أن " أسطول الحرية " تعرض لهجوم في المياه الدولية على بُعد أكثر من 120 ميلا بحريا من القطاع، وقامت البحرية الإسرائيلية باحتجاز سفنه ونشطائه، وهو ما أعاد إلى الواجهة إشكالية الحصانة والمساءلة في النظام القانوني الدولي.
الهجوم الأخير على "أسطول الحرية" لا يمكن فهمه بمعزل عن سلسلة طويلة من الانتهاكات التي طالت المدنيين والمبادرات الإنسانية المتجهة إلى غزة. فعلى الرغم من وضوح قواعد القانون الدولي -وتحديدا اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949 التي تلزم أطراف النزاع بعدم منع مرور الإغاثة الإنسانية للمدنيين، واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 التي تحمي حرية الملاحة في المياه الدولية- فإن إسرائيل تواصل سياساتها التي تتجاهل هذه الالتزامات.
لذلك، يرى أستاذ القانون الدولي في جامعة محمد الخامس بالرباط تاج الدين الحسيني أن ما جرى يمثل "فصلا جديدا من الاعتداء الممنهج على أسس الشرعية الدولية " موضحا أن اعتراض السفن المدنية التي ترفع أعلام دول معترف بها وتنقل مساعدات يعد انتهاكا واضحا لاتفاقيات جنيف، ويدخل ضمن تصنيف الجرائم ضد الإنسانية .
وفي تصريحات للجزيرة نت، يشدد الحسيني على أن "الفعل الإسرائيلي لا يندرج ضمن أي من الاستثناءات القانونية المسموح بها، مثل مكافحة الإرهاب أو القرصنة، بل هو استهداف متعمد لجهود الإغاثة ومبادرات المجتمع المدني الدولية".
ويؤكد أستاذ القانون الدولي بجامعة محمد الخامس أن هذه الانتهاكات تحرم الضحايا في غزة من أبسط حقوق الحماية والعيش، وتكرّس ممارسات الإبادة الجماعية في ظل غياب أي مساءلة فعلية، مضيفا أن "القانون الدولي يفرض مسؤولية مباشرة على الدولة المعتدية، ويمنح الدول المتضررة حق الاحتجاج والمطالبة بالمساءلة والتعويض".
وبينما تؤكد الحقائق على الأرض أن السفن المستهدفة كانت تنقل أطباء وصحفيين ومدنيين يسعون لمساعدة سكان غزة، تواصل إسرائيل تبرير الأفعال العدوانية بذريعة الأمن، رغم أن هذه الأعمال تُعد وفق رأي الحسيني "جرائم حرب مكتملة الأركان واستهدافا لحرية الملاحة، يجب أن تكون موضع تحقيق دولي عاجل".
وتتبدى أزمة أعمق حين يُنظر إلى آليات الحماية السياسية والقانونية التي تستفيد منها إسرائيل في مواجهة المساءلة الدولية. ويذهب أستاذ القانون الدولي بالجامعة العربية الأميركية رائد أبو بدوية إلى تحليل أسباب استمرار هذا النمط من الانتهاكات من دون عقاب، مشيرا إلى أن المجتمع الدولي فتح الباب لما يمكن تسميته "الحصانة السياسية" بدعم غربي، خاصة في مجلس الأمن حيث تجهض الولايات المتحدة مشاريع الإدانة والردع.
ويقول أبو بدوية -في تصريحاته للجزيرة نت- إن "المشهد القانوني ليس أزمة نصوص، فالقانون واضح في تحريم استهداف المدنيين والمبادرات الإنسانية، لكن غياب الإرادة الدولية جعل العدالة أداة انتقائية، تُطبق حين تخدم مصالح الكبار فقط".
ويرى المتحدث نفسه أن إسرائيل تعتبر كل محاولة لفك الحصار تهديدا لسيطرتها الرمزية والعسكرية على القطاع، فترد عليها بسياسة القوة المفرطة والردع، وتستهدف ليس فقط المساعدات الإنسانية، بل أيضا السردية الإنسانية نفسها، إذ تسعى إلى منع أي ذاكرة جماعية تدينها أخلاقيا وسياسيا.
ويضيف أستاذ القانون الدولي بالجامعة العربية الأميركية أن استدامة الحصانة الإسرائيلية حولت القانون الدولي إلى "نصوص بلا نفاذ" وأفرغت أدوات الردع من مضمونها، وهو ما انعكس في التعامل مع "أسطول الحرية" وغيره من المبادرات المدنية التي انتهت باعتقالات تعسفية وترحيل قسري للنشطاء الدوليين، مؤكدا أن غياب المساءلة الفعلية يمنح إسرائيل شعورا بالاستثناء، ويؤسس لمنطق القوة بدل الحق، فيتكرر استهداف المدنيين والسفن الإنسانية دون خشية من العقاب.
وحسب الخبيرين، فإن الأزمة الراهنة تتجلى في تصاعد الجدل حول جدوى منظومة الحماية القانونية أمام استمرار الاعتداءات الإسرائيلية، إذ يعيد الهجوم على "أسطول الحرية" السؤال نفسه حول قدرة المؤسسات الدولية على حماية المدنيين وردع القوات المعتدية، في حين تبقى الجهود الإنسانية رهينة المساومات السياسية والصراع على النفوذ داخل مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأمام هذا التحدي الإسرائيلي، يجد المجتمع الدولي نفسه أمام اختبار جدّي لمدى التزامه بتطبيق قانون البحار واتفاقيات جنيف. ومن ثم يشير الدكتور الحسيني إلى أن الدول التي ترفع سفنها أعلاما وطنية وتتعرض للاعتداء تملك حق تقديم احتجاجات رسمية، والمطالبة بتعويضات أو اللجوء إلى المحكمة الدولية المختصة، إلى جانب رفع قضايا عاجلة لمجلس الأمن الدولي بهدف فرض عقوبات أو قرارات ردع ضد إسرائيل.
لكن الدكتور أبو بدوية يرى أن هذه الخيارات تبقى معلقة بين النصوص والواقع، إذ يواجه الفلسطينيون ونشطاء التضامن مع غزة منظومة قانونية تتسم بازدواجية المعايير؛ فبينما تشتد الحماية في حالات أخرى يتحول القانون الدولي في الحالة الفلسطينية إلى بيانات ومناشدات عاجزة عن وقف الانتهاكات.
ويضيف أن إرادة المجتمع الدولي في تطبيق القانون ما زالت غائبة، مما يجعل الفلسطينيين في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية بمفردهم، ويحول العدالة الدولية إلى خيار نظري لا يترجم فعليا، رغم وضوح الانتهاكات وجسامة الجرائم.
يُذكر أن الهجوم على "أسطول الحرية" اليوم الأربعاء ليس الأول من نوعه، فقد اعترضت البحرية الإسرائيلية قبل نحو أسبوعين " أسطول الصمود العالمي " المتجه إلى غزة، وكان يضم نحو ألف ناشط و50 سفينة، حيث قامت قوات الاحتلال باعتقال المتضامنين بشكل تعسفي قبل أن تفرج عن معظمهم لاحقا.
وأفادت شهادات النشطاء الذين احتجزتهم إسرائيل بسوء المعاملة والانتهاكات الحقوقية داخل أماكن الاحتجاز والتحقيق الإسرائيلية، وتؤكد هذه الوقائع أن إسرائيل ماضية في سياسة استهداف السفن الإنسانية كجزء من مسار طويل من تحدي القانون الدولي، وسط استمرار الغضب الدولي وتكرار المطالبات بإنهاء الحصار وحماية المدنيين في قطاع غزة.