في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بين هدير القصف وأصوات التصريحات، تدور مفاوضات غزة على حافة الاحتمال. الاتفاق الذي يروج له الرئيس الأميركي دونالد ترامب كـ"صفقة سلام عظيمة لإسرائيل والعالم العربي والإسلامي" يبدو في ظاهره إنجازا سياسيا، لكنه في جوهره مغامرة محفوفة بالشروط والشكوك.
فبينما يتحدث ترامب بثقة عن قرب التوصل إلى حل نهائي خلال أيام، يرى مراقبون أن ما يحدث ليس سوى مرحلة أولى من صفقة مؤقتة، هدفها تهدئة الميدان وإرضاء الأطراف، لا بناء سلام دائم.
في حديثه إلى "التاسعة" على سكاي نيوز عربية، قدّم الباحث في مركز الأهرام للدراسات بشير عبد الفتاح قراءة متعمقة لطبيعة هذه الخطة، مشيرا إلى أن جميع الأطراف ترامب، نتنياهو، و حماس يدخلون المفاوضات دون نية حقيقية لاستكمالها حتى النهاية. فكل طرف يبحث عن مكسب مرحلي: حماس عن تثبيت الوجود، نتنياهو عن تهدئة الداخل الإسرائيلي، وترامب عن مجدٍ شخصي يترجم إلى جائزة نوبل للسلام.
ترامب.. سلام على مقاس نوبل
منذ اللحظة الأولى لإعلانه " خطة غزة"، بدا واضحًا أن ترامب يرى في الملف الفلسطيني فرصة شخصية. فالرئيس الأميركي، كما يصفه عبد الفتاح،"يتسم بنرجسية شديدة" ويعاني من هوس الحصول على جائزة نوبل للسلام، في محاولة لتكرار ما حققه سلفه باراك أوباما عام 2009.
غير أن عبد الفتاح يرى أن هذا السعي لا يستند إلى خطوات موضوعية أو اتفاقات مستدامة، بل إلى مبادرات إعلامية قصيرة المدى، تعتمد على العناوين أكثر من النتائج.
ترامب يتحدث عن 7 حروب أوقفها، يقول الباحث، "ولا حرب منها أوقفها فعليا"، بل إن بعض هذه "الانتصارات" كان مجرد وقف مؤقت لإطلاق النار عبر مكالمات هاتفية.
خطته الحالية لغزة تسير في الاتجاه نفسه: تبادل للأسرى واستعراض للجهود الدبلوماسية، بينما تغيب عن المشهد تفاصيل التنفيذ والجدول الزمني والضمانات.
فالرئيس الأميركي لم يحدد حتى الآن آلية واضحة لانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، ولم يطرح تصورًا عمليًا لنزع سلاح حماس أو لترتيبات الأمن في اليوم التالي للحرب.
كل ما فعله، بحسب عبد الفتاح، هو تسويق الخطة باعتبارها "اتفاق سلام" يثبت زعامته العالمية، حتى لو كانت غير مكتملة.
ويضيف عبد الفتاح أن لغة ترامب السياسية وقانونية خطابه كشفت عن ارتباك عميق في الفهم الدبلوماسي. فحين هدّد حماس بـ"الإبادة" إن لم تمتثل لبنود الاتفاق، اعتبر عبد الفتاح ذلك "خطيئة استراتيجية وقانونية"، لأنها تخالف الاتفاقات الدولية التي تحظر استخدام هذا المصطلح، وتتناقض مع دور الولايات المتحدة كدولة تحمي النظام الدولي القائم على القواعد منذ الحرب العالمية الثانية.
بذلك، بدا ترامب وكأنه يتبنى منطق نتنياهو نفسه: سلام بالقوة، لا سلام بالمفاوضة. فبينما تحدث عن "الإنصاف مع الطرفين"، مارس ضغطا أحاديا على حركة حماس، دون أن يوجه تحذيرا مماثلا إلى إسرائيل في حال تنصلت من الاتفاق.
يقول عبد الفتاح: "كان الأجدر به أن يهدد بالعقوبات القانونية للطرفين بدل التهديد بالإبادة لطرف واحد"، وهو ما يكشف انحيازًا ضمنيًا لنتنياهو ومحاولة لتغليف القوة الإسرائيلية بغطاء دبلوماسي أميركي.
نتنياهو.. التفاوض تحت النار
في المقابل، يظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بحسب تحليل عبد الفتاح مجبَرا ومضطرًا للمضي في الخطة، لا عن قناعة بها، بل لأن التطورات الميدانية والضغوط الأميركية قيدت حركته.
المفارقة، كما يقول الباحث، أن نتنياهو "فوجئ بموافقة حماس على كثير من بنود الخطة"، وهو ما أخرجه من حالة المبادرة وجعله يحاول التشويش على الموقف الحمساوي بشتى الطرق.
فمنذ انطلاق المفاوضات، حرص نتنياهو على الظهور بمظهر الرجل الذي يفاوض تحت النار، محاصرًا بالتهديدات والعمليات العسكرية. تلك الصورة تمنحه هامشًا سياسيًا أوسع أمام الرأي العام الإسرائيلي، إذ يبدو كمن يخوض مفاوضات "مضطرًا"، لا "متنازلا".
لكن في العمق، يدرك عبد الفتاح أن النية الحقيقية لنتنياهو ليست إنجاز الاتفاق، بل الوصول إلى المرحلة الأولى منه فقط — تبادل الأسرى — ثم تعطيله لاحقًا.
يشير الباحث إلى أن هذا النمط متكرر في تاريخ نتنياهو: "اتفاقات متعددة المراحل لا يكتمل منها سوى الشطر الأول".
استشهد عبد الفتاح باتفاقات سابقة، منها اتفاق نوفمبر مع لبنان واتفاق يناير مع حركة حماس، وكلاهما نفذ المرحلة الأولى ( تبادل الأسرى) ثم تنصلت إسرائيل من المراحل اللاحقة المتعلقة بوقف العدوان أو الانسحاب.
لهذا، يرى أن السيناريو سيتكرر في غزة، لأن جميع الأطراف بحاجة إلى المكسب الآني:
• حماس لتقول إنها حريصة على الدم الفلسطيني،
• نتنياهو ليستعيد الأسرى ويهدّئ الداخل،
• وترامب ليحصل على اللقطة السياسية التي تسبق إعلان نوبل في العاشر من أكتوبر.
لكن عند المرحلة الثانية فيما يتعلق بنزع سلاح حماس، الانسحاب الإسرائيلي، و إعادة إعمار غزة ستبدأ العقبات الجوهرية التي قد تنسف الاتفاق برمّته.
حماس.. بين السلاح والبقاء
على الطرف الآخر من المعادلة، تقف حركة حماس أمام معادلة وجودية. فالتخلي عن السلاح لا يعني فقط خسارة أداة المقاومة، بل خروجها من المعادلة السياسية والإدارية والعسكرية لقطاع غزة.
عبد الفتاح يرى أن نتنياهو يتعامل مع الملف بمنطق النصر والهزيمة: يريد أن ينتزع من حماس أوراقها التفاوضية المركزية — خصوصًا ورقة الأسرى الـ48— ليقدّم نفسه كمن "فرض الاستسلام على الحركة من خلال القوة المفرطة".
لكن حماس، كما يؤكد الباحث، ترفض منحه هذا الانتصار الرمزي. الحركة تدرك أن سحب سلاحها يعني فقدان تأثيرها في اليوم التالي لغزة، ولهذا تحاول نقل النقاش إلى مستوى وطني فلسطيني أوسع، عبر إشراك فصائل أخرى في أي حوار حول نزع السلاح أو إدارة القطاع.
بهذه الخطوة، تريد أن تفكك المطلب الأميركي-الإسرائيلي وتعيد صياغته كـ"قضية فلسطينية داخلية"، لا كشرط خارجي مفروض بالقوة.
ومع أن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أكد أن حماس وافقت من حيث المبدأ على " اليوم التالي للحرب"، فإن الموافقة المبدئية لا تعني التنازل.
فعبد الفتاح يرى أن الحركة قد تقبل النقاش حول المرحلة الأولى - تبادل الأسرى - لكنها ستتوقف عند الثانية.
المرحلة التي وصفها الباحث بـ"الشيطان الكامن في التفاصيل"، لأن بنودها تمس جوهر وجود الحركة ومصيرها في النظام السياسي الفلسطيني.
مصر.. الوسيط الحذر في ساحة الألغام
تجري المفاوضات في القاهرة وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة، حيث اتخذت السلطات المصرية تدابير مشددة حول تحركات الوفود، وشملت — للمرة الأولى — أنظمة تشويش على الاتصالات في محيط الاجتماعات.
ويرى عبد الفتاح أن هذه الصرامة ليست مجرد بروتوكول، بل إشارة إلى إدراك القاهرة لحساسية الموقف، خاصة مع معرفتها المسبقة بأن نتنياهو لا يرغب في إكمال الاتفاق، وأنه قد يدفع وفده نحو إفشال المفاوضات عمداً.
الوفد الإسرائيلي برئاسة رون ديرمر — المعروف بقربه من نتنياهو وبـ"مهارته في إفساد المفاوضات"، كما وصفه الباحث — يمثل، في نظر القاهرة، عامل قلق حقيقي.
فالتجارب السابقة أظهرت أن ديرمر لعب أدوارًا محورية في تعطيل جولات تفاوضية عدة خلال العامين الماضيين.
مع ذلك، تراهن مصر على خبرتها التفاوضية وثقة الأطراف بها لتذليل العقبات، خاصة في القضايا الفنية المتعلقة بتبادل الأسرى، وترتيب القوائم، والضمانات الأمنية لعملية التسليم.
لكن القاهرة تدرك أن دورها، مهما كان فاعلا، يظل محصورا في إدارة المرحلة الأولى فقط. أما القضايا السياسية الكبرى — نزع السلاح، الانسحاب، إدارة غزة — فهي خارج قدرة الوساطة المصرية وحدها، لأنها مرتبطة بتوازنات أوسع تشمل واشنطن وتل أبيب والفصائل الفلسطينية.
إسرائيل بين التهديد والتنصل
في الوقت نفسه، يستمر نتنياهو في استخدام لغة التهديد والضغط. فقد شدد على أن "السلطة الفلسطينية وحماس لن تشاركا في إدارة القطاع"، وأن إسرائيل ستكون "المسؤولة عن عملية نزع السلاح"، مهددًا بالعودة للقتال بدعم كامل من واشنطن إذا لم تُفرج حماس عن الرهائن خلال المهلة المحددة.
هذه اللغة، كما يرى عبد الفتاح، تعكس رغبة في إبقاء الميدان تحت السيطرة العسكرية حتى بعد توقيع الاتفاق، ما يعني أن إسرائيل لا تنوي الانسحاب فعليًا، بل إعادة تموضعها داخل غزة من خلال مواقع استراتيجية محددة.
هذا الموقف يتقاطع مع تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، الذي أكد أن الجيش سيبقى في "مواقع مسيطرة عليها" بعد انتهاء الحرب.
وبالتالي، فإن الحديث عن "نزع سلاح حماس" لا يبدو سوى غطاء لمواصلة الوجود العسكري الإسرائيلي داخل القطاع، في تناقض واضح مع فكرة "اليوم التالي" التي يسوّقها ترامب كمرحلة سلام شامل.
معادلة النصر والهزيمة.. منطق يمنع التسوية
يلخص عبد الفتاح الأزمة كلها في منطق النصر والهزيمة الذي يحكم سلوك الطرفين.
نتنياهو يريد أن يُثبت أنه كسر شوكة المقاومة، وحماس ترفض أن تُجرد من سلاحها فتبدو مهزومة.
في ظل هذا التوازن النفسي والسياسي، يصبح التنازل شبه مستحيل. فكل خطوة تُفسر على أنها اعتراف بالضعف، لا استثمار في السلام.
ويرى الباحث أن هذا المنطق هو ما يعطل كل محاولات التسوية منذ سنوات، لأنه يحوّل المفاوضات من مساحة للحل إلى ساحة لتثبيت الرمزية السياسية.
فنتنياهو يفاوض من أجل الرأي العام الإسرائيلي، وترامب من أجل صورته أمام العالم، وحماس من أجل شرعيتها الداخلية. النتيجة: سلام بلا أطراف مستعدة للتنازل، واتفاقات تبدأ ولا تُستكمل.
التناقض الأميركي الإسرائيلي
تبدو واشنطن وتل أبيب، رغم الخطاب المتقارب، في تناقض تكتيكي. فترامب يريد إنجازا سريعا بأي ثمن، بينما نتنياهو لا يريد التورط في اتفاق قد يُلزمه بانسحاب أو بتغيير موازين القوة.
لكن الطرفين يلتقيان عند فكرة "القوة كوسيلة لتحقيق السلام"، وهي الفكرة التي وصفها عبد الفتاح بأنها امتداد لرؤية نتنياهو القديمة "السلام من خلال القوة"، والتي تتعارض جذريًا مع القانون الدولي ومفهوم التفاوض المتكافئ.
هذا التناقض في الأهداف والمقاربات يجعل الخطة الأميركية-الإسرائيلية هشة من الداخل، لأن كل طرف يقرأها بطريقة مختلفة:
• ترامب يراها تتويجًا دبلوماسيًا،
• نتنياهو يراها وسيلة لإدارة الصراع لا حله،
• وحماس تراها فخًا سياسيًا يهدف لتجريدها من قوتها.
اتفاق في الظاهر.. أزمة في الجوهر
يتضح من خلال تحليل بشير عبد الفتاح، أن ما يُسمى " اتفاق غزة" ليس سوى مرحلة مؤقتة من تهدئة محسوبة، لا مشروع سلام متكامل.
فالمفاوضات التي تنطلق في شرم الشيخ، وإن كانت تحمل طابعًا "تقنيًا" لتبادل الأسرى، إلا أنها تُخفي وراءها صراعًا ثلاثيًا على المعنى والمكسب والرمز.
ترامب يريد أن يُخلّد اسمه كصانع سلام عالمي، نتنياهو يسعى لاستثمار اللحظة داخليًا دون التورط في التزامات نهائية، وحماس تحاول النجاة من فخّ نزع السلاح دون أن تُتّهم برفض السلام.
لكن كما يقول عبد الفتاح، "الشيطان يكمن في تفاصيل المرحلة الثانية"، حيث تختبر الخطط على الأرض لا في البيانات.
وحين يحين وقت التفاصيل — الانسحاب، الإعمار، السلاح — سيكتشف الجميع أن الطريق نحو "اليوم التالي لغزة" أطول بكثير مما وعد به ترامب، وربما لن يُستكمل أصلًا.