في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تعيش العلاقات المصرية الإسرائيلية واحدة من أكثر لحظاتها توتراً منذ توقيع معاهدة السلام عام 1979، بعد أن وجّهت تل أبيب اتهامات مباشرة للقاهرة بحشد عسكري غير مسبوق في سيناء.
وبينما نشرت وسائل إعلام عبرية وأميركية تقارير عن ضغوط إسرائيلية على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتدخل والضغط على مصر، جاء رد القاهرة واضحاً عبر الهيئة العامة للاستعلامات: القوات موجودة لحماية الحدود ومكافحة الإرهاب والتهريب، وكل تحركاتها تتم وفق التفاهمات والاتفاقيات الدولية.
غير أن ما يبدو في الظاهر خلافاً عسكرياً حول اتفاقية السلام يخفي في جوهره صراعاً سياسياً أعمق، يتعلق بمساعي إسرائيل لدفع الفلسطينيين قسراً نحو سيناء، وإبعاد القاهرة عن دورها المحوري في ملف الوساطة.
القاهرة تضع النقاط على الحروف
في بيان رسمي، أكدت الهيئة العامة للاستعلامات أن وجود القوات المصرية في سيناء مشروع وشرعي، وأنه يتم بتنسيق كامل مع الأطراف المعنية في معاهدة السلام، مشددة على أن الهدف الرئيس هو تأمين الحدود الشرقية لمصر من الإرهاب والتهريب.
كما شددت القاهرة على التزامها الصارم بالاتفاقات الدولية، وفي الوقت ذاته رفضها القاطع لأي سيناريو يهدف إلى توسيع العمليات العسكرية في غزة أو تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.
هذا الموقف لم يأتِ من فراغ، بل جاء رداً على تسريبات صحفية نشرتها " أكسيوس"، تحدثت عن أن حكومة بنيامين نتنياهو طلبت من إدارة ترامب الضغط على القاهرة لتخفيف حشودها العسكرية في سيناء، مرفقة بلائحة إسرائيلية تزعم أن تلك التحركات خرقٌ لاتفاقية السلام.
اتهامات مختلقة لإشعال أزمة
أوضح مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، الدكتور عماد جاد، في حديثه إلى التاسعة على سكاي نيوز عربية، أن تل أبيب اختارت افتعال أزمة مع القاهرة بعد أن فشلت في استهداف أعضاء الوفد الحمساوي المفاوض في قطر، مؤكداً أن إسرائيل لا تستطيع مواجهة مصر مباشرة، فاختارت خلق أجواء توتر حول الوجود المصري في سيناء.
جاد لفت إلى أن القوات المصرية التي تحتج عليها إسرائيل اليوم دخلت إلى شمال سيناء منذ عام 2017، بتفاهم ثنائي بين القاهرة وتل أبيب، بهدف القضاء على الجماعات الإرهابية التي كانت تهدد الأمن القومي المصري والإسرائيلي معاً.
وأضاف أن إسرائيل لم تعترض على هذه الترتيبات طوال السنوات الماضية، بل كانت هناك شراكة في تبادل المعلومات الأمنية.
في تفسيره للخطوة الإسرائيلية، يرى جاد أن تل أبيب تسعى لتحقيق هدفين متوازيين:
من "السلام البارد" إلى أزمة صريحة
العلاقات المصرية الإسرائيلية عرفت منذ عام 1979 تقلبات حادة تراوحت بين السلام البارد والتعاون المرحلي، لكنها اليوم تعود لتقف على حافة أزمة مفتوحة.
جاد أشار إلى أن السفير الإسرائيلي الجديد لم يقدم أوراق اعتماده للرئيس المصري حتى الآن، وأن التمثيل الدبلوماسي متوقف عند مستوى القائم بالأعمال في كلا البلدين، وهو مؤشر على برود متعمد في التواصل.
الأكثر خطورة، بحسب جاد، أن إسرائيل نفسها هي من انتهك معاهدة السلام، حين اجتاحت محور فيلادلفيا ودمرت معبر رفح من الجانب الغزّاوي، ما يمثل خرقاً مباشراً للملحق العسكري للاتفاقية.
فوبيا التهجير.. كابوس القاهرة
واحدة من أبرز المخاوف المصرية التي أشار إليها جاد هي سيناريو التدفق الجماعي للفلسطينيين نحو الحدود المصرية، سواء عبر البر أو حتى بالسباحة لمسافة لا تتجاوز 150 متراً.
مثل هذا السيناريو سيجعل الأزمة تنتقل مباشرة إلى الأراضي المصرية، بما يحمله من تداعيات إنسانية وأمنية خطيرة.
جاد أوضح أن القاهرة لن تطلق النار على اللاجئين الفلسطينيين، لكنها في الوقت ذاته قد تلجأ إلى خيارات أخرى مثل تجميد معاهدة السلام والعودة إلى حالة "اللا حرب واللا سلم"، بما يعني فتح الباب أمام مواجهة طويلة الأمد تشبه النزاع الحدودي المزمن بين الهند وباكستان حول كشمير.
لماذا الحرب غير مطروحة؟
رغم سخونة الخطاب السياسي والإعلامي، استبعد جاد خيار الحرب المباشرة بين القاهرة وتل أبيب. فبحسب منطقه التحليلي، الحرب يجب أن ترتبط بهدف محدد يمكن تحقيقه، ومصر لا تملك هدفاً استراتيجياً لتبرير شن الحرب، تماماً كما أن إسرائيل جربت احتلال سيناء سابقاً ودفعت ثمناً باهظاً، وبالتالي المنطق السياسي والعسكري لا يشجع على التصعيد الشامل.
لكن هذا لا ينفي احتمالات التدهور. إذ قد تنزلق المنطقة إلى مستويات أخرى من المواجهة، مثل الاشتباكات الحدودية المتقطعة أو التوترات الأمنية المستمرة، خاصة إذا تسللت عناصر من حماس مع موجات النزوح المحتملة نحو سيناء، ما قد يفتح جبهة جديدة للعمليات العسكرية.
البعد الأميركي.. ضغط لا ينكسر
التسريبات الصحفية تحدثت عن أن نتنياهو رفع ملف الحشود المصرية في سيناء إلى وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو خلال لقائه الأخير في القدس، مطالباً واشنطن بالتدخل.
بالنسبة لجاد، هذا المسار يعكس محاولة إسرائيلية لاستدعاء الغطاء الأميركي للضغط على القاهرة، لكن القاهرة، وفق تعبيره، "لن تخضع لأي ضغوط، حتى لو مارستها الولايات المتحدة".
العلاقات المصرية الأميركية نفسها تمر بمرحلة فتور سياسي، فالرئيس المصري تجنب زيارة واشنطن، ولا يتوقع أن يشارك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة حتى لا يضطر للقاء نتنياهو أو ترامب.
ورغم هذا التوتر، فإن التنسيق العسكري بين القاهرة وواشنطن لا يزال متقدماً، ويتجسد في مناورات مثل النجم الساطع التي جمعت الجيشين قبل أسابيع فقط.
حكومة متطرفة تشعل المنطقة
جاد لم يخفِ انتقاده الشديد لحكومة نتنياهو، واصفاً إياها بـ"المتطرفة" التي تتسبب بتوترات مع معظم الدول، من بريطانيا و إسبانيا إلى تركيا و مصر. وأكد أن إسرائيل تعتمد سياسة افتعال الأزمات كأداة لصرف الانتباه عن جرائمها في غزة من تدمير وتهجير وقتل، محذراً من أن استمرار هذا النهج سيشعل المنطقة بأكملها.
السيناريوهات المحتملة.. بين التجميد والتصعيد
وفق تحليل جاد، السيناريو الأكثر ترجيحاً في حال استمرار الضغط الإسرائيلي يتمثل في تجميد معاهدة السلام وعودة العلاقات إلى ما قبل 1979، مع احتمال انفجار اشتباكات حدودية من حين إلى آخر.
هذا السيناريو لا يخدم أي طرف، لكنه يبقى وارداً إذا أصرت حكومة نتنياهو على المضي في خططها دون حسابات عقلانية.
الدور العربي والدولي.. مفتاح المخرج
جاد أشار إلى أن الأمل ينعقد على دور سعودي إماراتي فرنسي في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لإعادة ضبط المسار ووقف التصعيد.
كما ألمح إلى أن الرئيس ترامب، الباحث عن " جائزة نوبل للسلام"، قد يجد في هذا الملف فرصة إذا أعاد حساباته ووازن بين دعمه المطلق لإسرائيل ومصالح واشنطن الإستراتيجية.
في المقابل، شدد جاد على أن القضية الفلسطينية ليست دينية، بل قضية قانونية وحقوقية وإنسانية، مستندة إلى قرارات دولية منذ عام 1947. وبالتالي فإن أي حل لا بد أن ينطلق من هذا الأساس، بعيداً عن محاولات اختزالها في بعد ديني أو أمني فقط.
معادلة مفتوحة على كل السيناريوهات
الأزمة الحالية بين القاهرة وتل أبيب ليست مجرد خلاف عابر حول بنود معاهدة السلام، بل انعكاس مباشر للتغيرات الإقليمية بعد حرب غزة. مصر أثبتت شرعية وجود قواتها في سيناء ورفضت الرضوخ للضغوط، فيما تحاول إسرائيل تقليص الدور المصري عبر اتهامات إعلامية ودبلوماسية.
لكن السيناريوهات مفتوحة: من استمرار التوتر تحت السيطرة، إلى تدفق لاجئين فلسطينيين قد يفجر المعادلة كلها.
بين هذه وتلك، يبقى الدور الأميركي محوريًا؛ إما أن يميل نحو التهدئة عبر مقاربة أكثر توازنًا، أو يواصل الانحياز الذي يهدد بتحويل شرق المتوسط إلى بؤرة اشتعال مفتوحة.
في النهاية، معادلة القاهرة واضحة: الدفاع عن الأمن القومي المصري أولًا، والحفاظ على التوازنات الإقليمية ثانيًا، مع إدراك أن كل تصعيد إسرائيلي غير محسوب قد يعيد المنطقة إلى مربع ما قبل 1979، أي إلى حالة اللاسلم واللاحرب، بكل ما تحمله من مخاطر استراتيجية.