في ظلام الحرب العالمية الثانية، حلّقت مجموعة من الطيارات الروسيات في السماء، لا يحملن سوى القنابل والعزيمة، ليُصبحن كابوساً للألمان، عُرفن باسم "ساحرات الليل".
وتزخر الحرب العالمية الثانية بقصص بطولية استثنائية لم تنل جميعها حقها. والآن، وفي حلقة جديدة من بودكاست "أبطال التاريخ السري" على راديو بي بي سي 4، بصوت هيلينا بونهام كارتر، تُسلط الضوء على هؤلاء البطلات المنسيات.
ولا شك أن أياً منهن أكثر تميزاً من سرب من الطيارات الروسيات اللواتي حلقن تحت جنح الليل ونفذن مهام قصف سرية.
وأطلق الألمان على هؤلاء النساء اسم "ساحرات الليل".
وكنّ نخبة من الطيارين والملاحين وطاقم الأرض والميكانيكيين، وقد قادهن شغفهن بالطيران وإحساسهن القوي بالواجب إلى كسر الحواجز بين الجنسين.
وكان من بين أعضاء السرب الطيارتان الطموحتان والصديقتان المقربتان بولينا غيلمان وغالية دوكوتوفيتش، تعلّمتا الطيران في صغرهما، وعندما صدر الأمر في أكتوبر/ تشرين الأول 1941 للطيارة السوفيتية الشهيرة مارينا راسكوفا بتجنيد النساء في وحدات الطيران النسائية، بما في ذلك "ساحرات الليل"، انتهزتا الفرصة على الفور.
وتقول المؤرخة ليوبا فينوغرادوفا، مؤلفة كتاب "ملائكة منتقمون: قناصات سوفياتيات على الجبهة الشرقية" (1941-1945)، عن المرأتين: "كانتا مُغرمتين بالإثارة. كانتا ترغبان في الطيران، وكانتا شغوفتين به. وثانيًا، كانتا وطنيتين للغاية. لذا، تطوّعتا".
وكانت قائدتهم راسكوفا مصدر إلهام. تقول فينوغرادوفا: "كانت من مشاهير عصرها. كان اسمها وصورتها ووجهها معروفين في جميع أنحاء البلاد. كانت قدوة حسنة. امرأة أثبتت أن النساء قادرات تماماً على هذا النوع من الطيران".
وبالقرب من نهر الفولغا قرب إنجلز في روسيا، أنهت "ساحرات الليل" تدريباً يستغرق عادة ثلاث سنوات في ثلاثة أشهر فقط.
ووجدت السيدتان نفسيهما مُختارتين كملاحات، لا طيارات، وهو أمرٌ خيّب أمل دوكوتوفيتش في البداية، إلّا أنها بعد أن حلّقت في الجو، أصبحت أكثر تفاؤلاً حيال هذه النتيجة، فكتبت: "الآن أرى كم هو مثير أن تكون ملاحاً! عندما تحلق قليلاً، تتجول في حلم، وتتمنى فقط العودة إلى السماء".
وبسبب نقص الطائرات في القوات السوفيتية، مُنحت النساء طائرات خشبية من طراز Po-2، غير صالحة للقتال، إذ كانت تُستخدم عادةً لرش المبيدات الحشرية. علاوة على ذلك، لم يُزوَّدن بأسلحة أو أجهزة راديو أو مظلات. ونتيجةً لذلك، أُعطيت الأولوية لحمل القنابل.
وفيما يتعلق بطائراتهن، استغللن محدوديتهن لصالحهن، فكان ضجيج طائرات Po-2 ضئيلاً، ولا يُمكن تتبع موقعها لاسلكياً، وكانت صغيرة جداً بحيث لا تظهر على أجهزة تحديد المواقع بالأشعة تحت الحمراء. وهكذا، تمكنت النساء من التحليق فوق الأراضي الألمانية، وإطفاء محركاتهن والانزلاق، وإلقاء قنابلهن بسهولة أكبر دون أن يُكتشف أمرهن.
ووفقاً لفينوغرادوفا، كانت وتيرة عملياتهن لا هوادة فيها: "كل أربع دقائق، كانت طائرة تُقلع، وتقصف الهدف ثم تعود أدراجها، لتحل محلها الطائرات الأخرى".
ونشر الألمان قصصاً عن تلك الهجمات في المناطق التي كانوا يحتلونها، وصوّروا السيدات كقوة خارقة للطبيعة، وأطلقوا عليهن اسم "ساحرات الليل"، لأن طائراتهن الخشبية شُبّهت بالمكانس، بينما جعلتهن يشعرن وكأنهن يظهرن ويختفين دون أثر.
وقد اكتسبت "ساحرات الليل" التميز بفضل انتصاراتهن، وفي عام 1943 أصبحن رسمياً فوج حرس الطيران الليلي السادس والأربعين لقاذفات القنابل. ومع ذلك، في شهر يوليو/ تموز من ذات العام، فاجأ الألمان الطيارات الروسيات بتكتيك جديد، إذ أبقوا مدافعهم المضادة للطائرات صامتة، وشنوا بدلاً من ذلك هجوماً جوياً ليلياً ضد القاذفات.
وقُتلت دوكوتوفيتش في 31 يوليو/ تموز، مع سبع من زميلاتها "الساحرات" فيما وصفته فينوغرادوفا بأنه "أسوأ ليلة على الأرجح في تاريخ الفوج بأكمله". ومع ذلك، واصلت النساء القتال حتى أعلن الحلفاء النصر في مايو 1945.
وتقول فينوغرادوفا عن التزام جيلمان والساحرات الأخريات بالقضية: "لقد كانوا في المطار مستعدين للقيام بمهمة عندما تم الإعلان عن النصر".
في أكتوبر/ تشرين الأول 1945، تم حل الفوج رسمياً، وتميز بكونه الوحدة الوحيدة في الجيش الأحمر التي لا تزال تتألف بالكامل من النساء حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وانضمت جيلمان لاحقاً إلى المعهد العسكري للغات الأجنبية، وأطلقت على ابنتها اسم غالية تيمّناً بصديقتها الراحلة.
وتوفيت جيلمان عام 2005، وفي أواخر حياتها، تأملت في سر نجاح "الساحرات"، مُعزيةً ذلك إلى أدائهن لواجباتهن طواعيةً.
وفي حديثها مع المؤرخة رينا بينينجتون، قالت جيلمان: "لقد كانت إرادتهن الحرة، وما يُفعل بدافع القلب يكون دائماً أفضل مما يُفعل بدافع الالتزام".