الرباط – في كل يوم جمعة، تقصد المغربية نجاة بنعمارة قاعة علاج السرطان بمصحة 16 نوفمبر/تشرين الثاني بالرباط، ترتدي وزرة بيضاء، وتدفع طاولة ممتلئة بمنتجات وكريمات التجميل. تقف بابتسامتها الهادئة إلى جوار مريضة سرطان تتلقى حصة العلاج الكيميائي، لتمنحها جلسة عناية بالوجه وتدليك اليدين، لكنها في العمق تهديها شيئا أثمن بكثير: الأمل.
منذ عام 2021، اختارت نجاة أن تعود إلى المكان الذي خاضت فيه معركتها مع السرطان، ليس لتلقي للعلاج هذه المرة، بل كرفيقة درب للنساء اللواتي يواجهن الخوف ذاته.
بدأت حكاية نجاة مع المرض عام 2013، كانت في الشهر الخامس من حملها وكانت تتهيأ ككل النساء في حالتها لاستقبال مولود جديد قبل أن يفاجئها نزفٌ جعلها تطرق أبواب الأطباء بحثا عن تفسير إلى أن جاء التشخيص صادما: سرطان عنق الرحم.
وجدت نفسها أمام قرار قاس: استئصال الرحم ومعه الجنين، تقول نجاة "كنت أتمنى تأجيل العملية إلى حين ولادة طفلي، لكن الطبيب قال لي بوضوح، إن المرض ينتشر بسرعة ولا يحتمل الانتظار".
هكذا انقلبت حياتها رأسا على عقب، أجرت العملية، ثم دخلت مسارا طويلا من العلاج الكيميائي والإشعاعي، تصف التجربة بأنها "منهكة جسديا ونفسيا وماديا".
كشف لها المرض حقيقة الوجوه المحيطة بها كما تقول، فبعض المقربين الذين يفترض أن يكونوا في مقدمة الداعمين لها تراجعوا، بينما وقف غرباء إلى جانبها ومدوا لها يد الدعم والعون "هذا المرض يعري الواقع، يسقط الأقنعة، ويريك من يحبك حقا ومن كان مجرد ظل في حياتك" بهذه الجملة تلخص ما تعلمته من هذه الرحلة القاسية.
لم تكن جلسات العلاج سهلة "لم يكن الصعب في العلاج هو الألم الجسدي بل فاقه الألم النفسي، في لحظات معينة كان يراودني إحساس قاس بالضعف والإحباط وأتساءل هل سأعود لسابق عهدي؟ هل سأتجاوز هذه الفترة؟" لكنها اكتشفت خلال مواجهتها لحظات الضعف مواضع قوتها "المرض هو معلم قاسٍ يوقظك من أوهامك ويكشف لك حقيقتك".
اليوم، وبعد أن أنهت حصص علاجها منذ سنوات، لم تنس نجاة الدروس التي تركها السرطان في حياتها، اختارت أن تكون سندا لغيرها، ورسالتها لهن أن هذا السرطان وإن بدا فتاكا يمكن ترويضه بالصبر والإيمان والدعم الإنساني.
تقول وعيناها تلمعان "السرطان سرق مني كثير، لكنه منحني في المقابل نظرة جديدة للحياة، لم أعد أجامِل ولا أضيع وقتي مع من لا يستحق، تعلمت أن أعيش بصدق، ومع من يمنحونني الحب الصادق".
الدكتورة لطيفة مصباح مختصة علاج الأورام بالأشعة بمصحة "16 نوفمبر"، بالنسبة لها فإن التعامل مع مريض السرطان لا يقتصر على تشخيص حالته الطبية فقط، بل يبدأ أولا من محاولة فهم وضعه النفسي.
ترى أن المريض حين يكتشف إصابته يمر عادة بمراحل مختلفة، تبدأ بالإنكار وعدم التصديق، ثم مرحلة الغضب والرفض، يتساءل فيها "لماذا أنا؟"، وقد يعبر عن ذلك برفض العلاج أو الخوف المفرط منه أو بالانهيار والانعزال عن محيطه، بينما قلة تأتي للعلاج وقد استوعبت المرض وتقبلته منذ البداية.
وأشارت إلى أن مهمة الفريق الطبي هي مساعدة المريض على بلوغ مرحلة تقبل المرض، لأن العلاج لا يمكن أن ينطلق بفعالية إذا ظل المريض عالقا في حالة الاكتئاب.
وأضافت أن هذا الجانب النفسي ليس سهلا، خاصة وأن المريض يكون في حالة قلق شديد ويرغب في تسريع العلاج، بينما يتطلب الأمر إجراء فحوصات دقيقة لتحديد نوع السرطان ومرحلته ووضع الخطة المناسبة.
تنصح الدكتورة لطيفة العديد من مرضاها باللجوء إلى طبيب نفسي، غير أن ذلك يواجه عراقيل حقيقية، منها العراقيل الثقافية إذ لا يعترف كثير من المرضى بمرضهم النفسي رغم معاناتهم من الأرق وفقدان الشهية والعزلة وغيرها من الأعراض.
ولتجاوز هذه العراقيل، اتجهت المصحة التي تعمل بها الدكتورة لطيفة إلى تنظيم ورشات وأنشطة موازية تساعد المرضى على تقبل حالتهم وتجاوز مخاوفهم وقلقهم، مثل ورشات في الرسم والكورال واليوغا والمشي والمجوهرات والتريكو وغيرها، إضافة إلى فتح المجال للمتعافين من المرض للتواصل مع المرضى وتقديم ما يمكنهم من دعم ضمن ما يسمى "العلاج بالنظير"، فالمريض كما تقول الدكتورة لطيفة لا يحتاج فقط إلى علاج دوائي وفيزيائي، بل إلى رعاية واهتمام يرافقانه في مساره العلاجي.
كانت نجاة بنعمارة في فترة مرضها تستفيد من ورشة الرسم، تتذكر تلك الأيام وتقول إنها بنت أثناءها علاقات إيجابية مع باقي المرضى إذ كانوا في حصة الرسم ينسون المرض وينغمسون في عالم الريشة والألوان.
تقول ضاحكة "في البداية كانت كل اللوحات التي أرسمها تعتمد على ألوان غامقة مثل الأسود والبني والأزرق، فهمت بعد ذلك أن ميلي لهذه الألوان سببه حالتي النفسية، لكني بعد ذلك اتجهت لاختيار ألوان مبهجة في الرسم".
يعرض المستفيدون من ورشة الرسم لوحاتهم في معارض تنظم داخل المصحة، ويذهب ريعها لتمويل الورشات والأنشطة الموازية، أما حصص الكورال فأكسبت نجاة ثقة في النفس "كنت أخجل من الغناء، لكني بعد حصص الكورال، انسجمت في الغناء الجماعي لأن صوتي يكون جزءا من المجموعة ويذوب وسطها ما جعلني أكتسب ثقة أكبر".
أسست الدكتورة لطيفة ومجموعة من الأطباء "الجمعية المغربية للرعاية الداعمة للسرطان" التي تشتغل من أجل ضمان حق المرضى في العلاجات الداعمة، بما في ذلك الدعم النفسي والمتابعة الغذائية السليمة وتوفير الأدوية المسكنة للألم. وقالت "نحن نؤمن أن المرض قدر المريض، لكن لا ينبغي أن يعاني، بل أن يقدم له العلاج المناسب الذي يوفر جودة الحياة باعتباره حقا من حقوقه".
ويسجل المغرب نحو 50 ألف حالة جديدة سنويا من السرطان، ويعد سرطان الثدي الأكثر شيوعا بين النساء بنسبة 36%، ويأتي بعده سرطان عنق الرحم بنسبة 11%. أما لدى الرجال فسرطان الرئة هو الأكثر شيوعا بنسبة 22%، ثم سرطان البروستات بنسبة 12.6%.