يُتَّخذ القرار الاقتصادي في الولايات المتحدة عبر عملية معقّدة لا تنفرد بها مؤسسة واحدة، ولا تُبنى على اعتبارات اقتصادية فنية بحتة، بل تتأثر بتفاعل مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والمؤسسية.
ويختلف وزن كل عامل من هذه العوامل تبعًا للسياق الزمني والاقتصادي، وطبيعة القضايا المطروحة، وتوازنات القوة داخل النظام السياسي الأميركي، وهو ما يجعل مسار القرار الاقتصادي متغيّرًا من مرحلة إلى أخرى.
ويهدف هذا المقال إلى تقديم فهم منهجي لكيفية اتخاذ القرار الاقتصادي في الولايات المتحدة، من خلال تحليل العوامل التي تضغط على عملية اتخاذ القرار وتؤثر في توقيته ومضمونه، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، قبل الانتقال إلى استعراض المؤسسات الأكثر تأثيرًا في صياغة السياسات الاقتصادية.
أولًا: الرأي العام
يُعدّ الرأي العام أحد العوامل المؤثرة في القرار الاقتصادي، إلا أن تأثيره ليس ثابتًا، بل يرتبط بالسياق السياسي والزمني، ويبرز هذا التأثير بوضوح عند اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، أو عندما تمسّ القرارات القضايا المعيشية المباشرة، مثل الأسعار، والبطالة، ومستويات التضخم.
وفي مثل هذه الحالات، قد يتراجع صانع القرار عن سياسات معينة إذا تبيّن أن كلفتها السياسية مرتفعة. في المقابل، يضعف تأثير الرأي العام في القرارات ذات الطابع الفني أو بعيدة الأثر، أو تلك التي تُقدَّم ضمن إطار يقلّل من إدراك كلفتها الحقيقية.
ثانيًا: الصبغة السياسية للقرار الاقتصادي
غالبًا ما يُتخذ القرار الاقتصادي محمّلا باعتبارات سياسية تتعلق بالحفاظ على الدعم الانتخابي، أو إدارة التوازنات الحزبية، أو مواجهة ضغوط سياسية داخلية وخارجية. وفي مثل هذه الحالات، تُقدَّم الأولويات السياسية على الاعتبارات الاقتصادية، حتى وإن ترتّبت على القرار آثار اقتصادية سلبية.
ثالثًا: توقيت القرار وأبعاده
يلعب توقيت اتخاذ القرار دورًا حاسمًا في تحديد طبيعة الضغوط المؤثرة عليه، فالقرارات المتخذة قبل الانتخابات تختلف من حيث الحساسية والاعتبارات عن تلك التي تُتخذ في فترات الاستقرار السياسي. كما تتباين طبيعة القرار تبعًا لكونه داخليا أو خارجيا، وفوري الكلفة أو مؤجّل الأثر.
رابعًا: الوضع الاقتصادي العام
يمثّل الوضع الاقتصادي العام قيدا واقعيا على صانع القرار، إذ يحدّد هامش الخيارات المتاحة أمامه، ففي فترات النمو، تتسع مساحة المناورة، بينما تضيق في أوقات الركود أو الأزمات، دون أن يعني ذلك أن الواقع الاقتصادي يفرض القرار بشكل مباشر.
خامسًا: الموازنة بين الكلفة السياسية والاقتصادية
تُعدّ المفاضلة بين الكلفة السياسية والكلفة الاقتصادية عاملا حاسما في صناعة القرار، إذ يُفضَّل في كثير من الأحيان القرار الأقل كلفة سياسيا، حتى وإن كان أكثر كلفة من الناحية الاقتصادية.
سادسًا: قابلية تحمّل الكلفة
تؤثر مسألة الجهة التي تتحمّل كلفة القرار، سواء كان المواطن، أو فئات اجتماعية محددة، أو الأجيال المقبلة، في فرص تمرير القرار سياسيًا. وكلما أمكن تأجيل الكلفة أو توزيعها، زادت فرص اعتماده.
سابعًا: العامل الخارجي
قد تفرض التطورات الخارجية، مثل الأزمات العالمية أو الاضطرابات الاقتصادية الدولية، ضغوطًا إضافية تؤثر في القرار الاقتصادي، أو تُستخدم لتبريره داخليا ضمن سياق سياسي وإعلامي أوسع.
وفي ضوء هذه العوامل مجتمعة، يمكن القول إن القرار الاقتصادي في الولايات المتحدة هو نتاج صراع قوى بين ضغوط متعددة، ولا يُقاس بكونه صحيحًا أو خاطئًا من منظور اقتصادي بحت، بقدر ما يُقاس بقدرة الطرف الأكثر تأثيرًا على فرض رؤيته في لحظة اتخاذ القرار، حيث تكون الغَلَبة دائمًا لمن يمتلك أدوات الضغط والفرض.
1- الرئيس الأميركي
يُعدّ الرئيس الأميركي الفاعل الأبرز في صناعة القرار الاقتصادي بحكم قيادته للسلطة التنفيذية، ويؤدي هذا الدور من خلال تقديم مقترح مشروع الميزانية الفدرالية السنوية، بما يعكس أولويات الإدارة الاقتصادية، إضافة إلى تأثيره المباشر في التشريعات عبر توقيع القوانين أو استخدام حق النقض .
كما يمتلك الرئيس صلاحية إصدار أوامر تنفيذية لاتخاذ قرارات اقتصادية عاجلة عند الضرورة، ويتعزّز نفوذه عبر تعيين كبار المسؤولين الاقتصاديين، مثل وزير الخزانة ووزير التجارة ورئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين، إلى جانب ترشيح أعضاء مجلس محافظي الاحتياطي الفدرالي، بما يسمح له بالتأثير في التوجهات الاقتصادية العامة مع الحفاظ على استقلالية نسبية للسياسة النقدية.
يمثّل الكونغرس أحد الفاعلين الرئيسيين في صناعة القرار الاقتصادي في الولايات المتحدة، بحكم صلاحياته الدستورية في مجالات الضرائب والميزانية والإنفاق العام، فهو يملك السلطة الحصرية لفرض الضرائب، وإقرار الميزانية الفدرالية، والتحكم في تخصيص الموارد العامة.
ويفكّر الكونغرس اقتصاديا من منظور سياسي تمثيلي، حيث ترتبط قراراته بحسابات انتخابية ومصالح الدوائر التي يمثّلها أعضاؤه، إلى جانب الانتماءات الحزبية والاعتبارات الاقتصادية العامة.
ويظهر هذا النمط في موازنته المستمرة بين متطلبات النمو والاستقرار المالي من جهة، وضغوط الإنفاق العام والسياسات الضريبية من جهة أخرى، فضلا عن دوره في تنظيم التجارة، وإصدار القوانين المالية، وتحديد سقف الدَّين العام، وممارسة الرقابة على السلطة التنفيذية، ما يجعله عنصرًا حاسمًا في توجيه المسار الاقتصادي الأميركي.
3- الاحتياطي الفدرالي الأميركي
يُعدّ بنك الاحتياطي الفدرالي عنصرا محوريا في صناعة القرار الاقتصادي الأميركي بصفته البنك المركزي المستقل المسؤول عن إدارة السياسة النقدية ، وهي سياسة لا تتطلب موافقة الرئيس أو الكونغرس.
ويهدف الفدرالي إلى تحقيق استقرار الأسعار، ودعم التوظيف عند أعلى مستوى ممكن، والحفاظ على أسعار فائدة معتدلة على المدى الطويل.
ويعتمد الفدرالي في قراراته على تحليل مؤشرات اقتصادية رئيسية، مثل التضخم و البطالة و النمو ، من منظور فني لا يرتبط مباشرة بالاعتبارات الانتخابية.
وتُتخذ هذه القرارات عبر لجنة متخصصة تستخدم أدوات مثل تحريك أسعار الفائدة وإدارة السيولة. وبفضل هذا الإطار المؤسسي المستقل، يمتلك الاحتياطي الفدرالي تأثيرًا واسعًا على الاقتصاد الأميركي، وعلى الاستقرار المالي والأسواق العالمية، بعيدًا عن الضغوط السياسية قصيرة الأجل.
4- القضاء الأميركي والمحكمة العليا
يمارس القضاء الأميركي، وعلى رأسه المحكمة العليا، دورًا مؤثرًا في صناعة القرار الاقتصادي من خلال سلطة الرقابة القضائية، التي تمكّنه من إلغاء القوانين أو البرامج الاقتصادية المخالفة للدستور، بما يشكّل قيدا مؤسسيا على السلطتين التشريعية والتنفيذية.
ويمتد هذا الدور إلى إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار، وحماية الملكية الخاصة والعقود من التدخل الحكومي غير المبرَّر، فضلا عن الحد من توسّع صلاحيات الوكالات الفدرالية والرئيس في إصدار لوائح اقتصادية ومالية وبيئية دون تفويض تشريعي صريح، الأمر الذي ينعكس مباشرة على مسار السياسات الاقتصادية في الولايات المتحدة.
5- الدائرة الضيقة للرئيس
تضم الدائرة الضيقة للرئيس مجموعة من الوزراء والمستشارين الاقتصاديين، إلى جانب شخصيات مقرّبة قد لا تشغل مناصب رسمية داخل مؤسسات الدولة.
ورغم أن أفراد هذه الدائرة لا يملكون سلطة قانونية مباشرة في صياغة أو تنفيذ القرارات الاقتصادية، فإنهم يؤدّون دورًا مؤثرًا من خلال تقديم المشورة، وصياغة التصورات، والتأثير في توجهات الرئيس وكبار مسؤولي السلطة التنفيذية.
ويمثّل هذا التأثير غير الرسمي أحد مكونات عملية صناعة القرار الاقتصادي، إذ يسهم في توجيه أولويات الرئيس وخياراته، مع بقاء القرار النهائي خاضعًا للأطر المؤسسية الرسمية.
6- الداعمون للرئيس
يُعدّ مموّلو الحملات الرئاسية والداعمون الاقتصاديون من الفاعلين غير المباشرين في صناعة القرار الاقتصادي الأميركي، ويتركّز دورهم أساسًا في مرحلة المنافسة الانتخابية من خلال توفير التمويل السياسي.
ورغم عدم امتلاكهم سلطة قانونية أو مؤسسية في صياغة السياسات الاقتصادية، فإن دعمهم المالي يؤثر في البيئة السياسية المحيطة بالرئيس، وقد ينعكس بصورة غير مباشرة على التوجهات الاقتصادية العامة بعد تولّيه المنصب.
7- جماعات الضغط
تُعرَّف جماعات الضغط بأنها كيانات منظَّمة تسعى إلى التأثير في السياسات العامة والقرارات الحكومية دون السعي إلى تولّي السلطة السياسية مباشرة. وتشمل شركات وقطاعات اقتصادية ونقابات مهنية ومنظمات مدنية ذات طابع اجتماعي أو أيديولوجي.
ويتركّز نشاط هذه الجماعات في التأثير على التشريعات واللوائح التنفيذية وتوجهات الإنفاق العام بما يخدم المصالح التي تمثلها، مستخدمة أدوات متنوعة مثل التواصل المباشر مع صانعي القرار، وتقديم دراسات ومذكرات فنية، إضافة إلى المساهمات السياسية المسموح بها قانونًا.
8- القاعدة الانتخابية
تُعدّ القاعدة الانتخابية للرئيس والحزب الحاكم عاملا مؤثرا في صناعة القرار الاقتصادي الأميركي، إذ يسعى صانعو القرار إلى الحفاظ على دعم الناخبين واستقطاب شرائح جديدة لضمان الاستمرار السياسي، في ظل حساسية السلوك الانتخابي تجاه الأوضاع الاقتصادية، ما يجعل الأداء الاقتصادي عنصرًا حاسمًا في توجيه الخيارات السياسية وتوقيت القرارات.
9- الأحزاب السياسية
تلعب الأحزاب السياسية دورًا مؤثرًا في صناعة القرار الاقتصادي الأميركي من خلال الأطر الأيديولوجية والبرامج الاقتصادية التي توجّه مواقف أعضائها في السلطتين التنفيذية والتشريعية.
وتنعكس الانقسامات الحزبية على طبيعة السياسات الاقتصادية المطروحة، ومسارات التفاوض داخل الكونغرس، بما يؤثر في سرعة اتخاذ القرار ومضمونه.
في أميركا، لا يكفي أن يكون القرار الاقتصادي صحيحًا من الناحية الاقتصادية، بل يجب أن يكون ممكنا سياسيا، مناسبا للمرحلة، وقابلا للتقديم للرأي العام
10- توقيت وصول صانع السياسة إلى البيت الأبيض
يؤثر توقيت وصول الرئيس إلى البيت الأبيض في طبيعة القرار الاقتصادي، إذ تميل السياسات في بداية الولاية إلى السرعة والحسم بما يعكس البرنامج الانتخابي.
ومع انتقال الولاية إلى مرحلتها الوسطى، يصبح القرار أكثر براغماتية، متأثرًا بالظروف الاقتصادية ومتطلبات الاستقرار. أما في المراحل الأخيرة، فقد تطغى اعتبارات تتعلق بالإرث السياسي أو ترتيب المرحلة اللاحقة على الحسابات الاقتصادية طويلة الأجل.
11- وسائل الإعلام
تُعدّ وسائل الإعلام عنصرًا مؤثرًا في صناعة القرار الاقتصادي الأميركي، إذ تسهم في توجيه اهتمام الرأي العام نحو قضايا اقتصادية محددة وتفسير آثارها، وتؤدي دورًا وسيطًا بين المواطنين وصانعي القرار عبر نقل انعكاسات السياسات الاقتصادية على الحياة اليومية، ورصد اتجاهات الرأي العام ومستوى القبول الشعبي.
وسائل الإعلام عنصر ضاغط في صناعة القرار الاقتصادي الأميركي، إذ تشكّل إدراك الرأي العام للكلفة والجدوى، وتؤثر في توقيت القرار وقابليته السياسية (أسوشيتد برس)12- المراكز البحثية والشركات الاستشارية
تُعدّ المراكز البحثية والجامعات والشركات الاستشارية مصدرا معرفيا أساسيا في صناعة القرار الاقتصادي بالولايات المتحدة، إذ توفّر البيانات والتحليلات التي يعتمد عليها الفاعلون السياسيون في تفسير الواقع الاقتصادي وتبرير اختياراتهم، وتسهم من خلال تقاريرها ودراساتها في توجيه النقاش العام دون امتلاك سلطة مباشرة في اتخاذ القرار.
ختامًا.. في أميركا، لا يكفي أن يكون القرار الاقتصادي صحيحا من الناحية الاقتصادية، بل يجب أن يكون ممكنا سياسيا، مناسبا للمرحلة، وقابلا لعرضه على الرأي العام. فالقرار لا يُتخذ داخل دوائر الخبراء وحدها، بل يتشكّل عند تقاطع السياسة مع الاقتصاد، وتأثير الانتخابات، ودور الإعلام.
وما يبدو قرارا اقتصاديا في ظاهره هو في كثير من الأحيان نتيجة صراع مصالح وضغوط وتوقيتات، يتغيّر بتغيّر موازين القوة أكثر مما يتغيّر بتبدّل الأرقام.
وبين مؤسسات واضحة الصلاحيات وتأثيرات غير معلنة، لا يمكن فهم القرار الاقتصادي بمعزل عن سياقه السياسي.
وعليه، تكتسب متابعة كيفية تشكّل القرار أهمية خاصة، لأنها تتيح فهم اتجاه القرارات المقبلة، وتمنع اختزالها في ظاهرها، إذ إن الأهم غالبًا يكمن في التفاعلات التي قادت إلى صدورها، فخلف كل قرار اقتصادي قصة تستحق الفهم.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة