دخلت أسواق النفط في مسار هبوطي حاد، فوفقا لاتجاهات الطلب العالمية يظهر السوق فائضا كبيرا وارتفاعا في المعروض النفطي، مما أجبر مؤسسات الطاقة والمؤسسات المالية على مراجعة توقعاتها نحو مستويات سعرية منخفضة بحلول نهاية العام الجاري.
وحسب وكالة الطاقة الدولية ، فإن المعروض العالمي سيتجاوز الطلب بفارق قياسي، ومن المتوقع أن يصل هذا الفائض إلى نحو 4 ملايين برميل يوميا العام المقبل، وهو فائض سنوي غير مسبوق على أساس سنوي، وسجل الفائض المتوقع ارتفاعا بنحو 18% عن تقديرات الشهر الماضي، مدفوعا بتواصل إنعاش أوبك وشركائها للإنتاج، وتحسن توقعات المنتجين من خارج التحالف.
التأثر السلبي لميزان العرض والطلب بعوامل على رأسها الحروب التجارية، أدى إلى تباين توقعات المؤسسات الكبرى للأسعار، إذ توقعت إدارة معلومات الطاقة الأميركية انخفاض سعر خام برنت إلى متوسط 62 دولارا للبرميل في الربع الرابع من العام الجاري، مع هبوط أكبر يصل إلى 52 دولارا مع نهاية العام المقبل.
أما بنك غولدمان ساكس فتوقع أن يبلغ سعر خام برنت 59 دولارا للبرميل في الربع الأخير من 2025، مع تراجع أكبر يصل إلى نحو 56 دولارا نهاية 2026.
ويقول خبير الطاقة عامر الشوبكي "الأسعار دخلت ضمن نطاق هبوطي متقلب، وما لم نرَ تعطلا في الإمدادات فإننا قد نشاهد هبوطا لأسعار الخام أسفل حاجز 60 دولارا للبرميل، خاصة مع تصاعد الحرب التجارية ذات الأثر الواضح، ويبقى كسر المسار الهبوطي معلقا بحدوث توترات جيوسياسية في مناطق الإنتاج".
دفعت حالة عدم اليقين -التي سببتها الرسوم الجمركية والحرب التجارية والتي تهدد صمود الاقتصاد العالمي- منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) للربط بين هذه السياسات الحمائية والتأثير على استهلاك الطاقة، في حين حذّر صندوق النقد الدولي مما وصفه بـ"الصمود الواهن" الذي قد يكون قصير الأجل، بفعل حالة عدم اليقين المتزايدة، واستمرار التطورات السلبية، مع التأكيد على أهمية استعادة الثقة والقدرة على التنبؤ.
أما توقعات الطلب العالمي فقد كانت في أفضل أحوالها كما جاءت في تقديرات "أوبك" عند 1.3 مليون برميل يوميا للعام الجاري و 1.4 مليون برميل يوميا للعام المقبل.
وكانت وكالة الطاقة الدولية أكثر تشاؤما عندما توقعت نموا محدودا للطلب العالمي لا يتجاوز 700 ألف برميل يوميا العام المقبل، مما يعكس طلبا ضعيفا في الاقتصادات الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل.
خلقت الرسوم الجمركية تأثيرا سلبيا وضغطا على الطلب لأنواع الوقود الأساسية المستخدمة في عمليات النقل والشحن، إذ أدى تركز التباطؤ في قطاع النقل بسبب الرفع المستمر للرسوم الجمركية إلى ضعف الطلب على الديزل ووقود السفن.
ونوهت توقعات شركة تحليلات بيانات النفط (كبلر) بدور التعرفات الجمركية في إضعاف نشاط الشحن، فرغم إشارتها إلى نمو الطلب العالمي على المنتجات النفطية بـ 840 ألف برميل يوميا بنهاية 2025، فإنها تشير إلى ثبات نسبي في الطلب عند نحو 880 ألفا نهاية العام المقبل، مع ترجيح انخفاضه في 2027.
وتتوقع كبلر أن ينخفض الطلب الصيني على المنتجات النفطية هذا العام، بفعل التوترات التجارية مع الولايات المتحدة ، إذ انخفض الطلب على البنزين بسبب تزايد الاعتماد على السيارات الكهربائية، بينما يواجه الديزل ضغوطا مماثلة نتيجة الاستخدام المتزايد للغاز الطبيعي المسال والشاحنات الكهربائية.
وبالرغم من استهداف الصين بالرسوم الأميركية، فإن خبير الطاقة عامر الشوبكي يرى أنها ما زالت تستورد كميات كبيرة من النفط، وارتفعت وارداتها بـ 4% في سبتمبر/أيلول الماضي على أساس سنوي إلى 11.5 مليون برميل يوميا، خاصة مع تشغيل المصافي بطاقة أعلى.
ويشير الشوبكي إلى أن تصاعد القيود والتكاليف اللوجستية المرتبطة بالحرب التجارية مثل الرسوم على السفن الأميركية في الصين والصينية في أميركا، كلها عوامل تهدد الطلب وتؤدي إلى زيادة مخزونات الصين، مع أن أي تباطؤ إضافي في الصناعات التحويلية الصينية سيدفع لتراجع الطلب على النفط على المدى القريب.
يضغط الاتجاه الهبوطي للطلب على الخام وأسعاره، بشكل متزايد على صناعة النفط الصخري الأميركي، وترتفع الجدوى الاقتصادية لحفر آبار جديدة كلما تجاوز سعر برميل النفط حاجز 60 دولارا، ووفق بلومبيرغ تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأميركية انخفاضا طفيفا في إجمالي إنتاج النفط الخام الأميركي في 2026، وسيكون هذا الانخفاض المتوقع هو أول انخفاض سنوي في الإنتاج منذ 2021.
يتزامن رفع أوبك وشركائها لحصص الإنتاج مع زيادة قياسية في إنتاج الدول من خارج هذا التحالف النفطي، مما سيؤدي إلى إغراق الأسواق ومزيد من الانخفاض في الأسعار، فإنتاج الخام الأميركي يظهر ارتفاعا إلى مستويات قياسية، وتتوقع إدارة معلومات الطاقة الأميركية وصوله إلى 13.5 مليون برميل يوميا خلال العام الجاري والمقبل، مما يجعل الإنتاج الأميركي عاملا رئيسيا في رفع مستوى العرض.
كما أن توقعات للدول من خارج التحالف تشير إلى قيادة كل من الولايات المتحدة والبرازيل وغويانا إضافة إلى كندا لزيادة الإنتاج بمليون برميل يوميا هذا العام، و700 ألف برميل العام المقبل، مما سيضعف أي محاولات لإعادة السيطرة على الأسعار من قبل تحالف أوبك وشركائها.
لمواجهة تزايد المعروض من الخام النفطي من خارج تحالفه، لجأ تحالف أوبك بلس لرفع مستوى إنتاجه، فبحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية من المتوقع أن يزيد التحالف إنتاجه بـ 600 ألف برميل يوميا خلال العام الجاري والمقبل، وذلك بهدف الإنهاء التدريجي للتخفيضات الطوعية، ولاستعادة حصصه الحقيقية بعد أن تم تجاوزه خلال ارتفاع حصص المنتجين من خارجه إلى نحو 52%.
فالاتجاه العام داخل تحالف أوبك بلس يدفع نحو التحول من إستراتيجية الدفاع عن سعر عادل مرتفع، إلى الدفاع عن الحصة السوقية، حتى لو كان ذلك على حساب السعر.
من المتوقع أن يخلق رفع الإنتاج التدريجي هذا، وضعف الطلب والشحن والتجارة بفعل التعريفات الجمركية بيئة مناسبة لزيادة الفائض، مما يجعل الهبوط السعري نهاية 2025 ومطلع 2026 أمرا حتميا، ما لم يعُد التحالف النفطي إلى سياسة التخفيض وما لم يؤدِّ هبوط الأسعار تحت حاجز 60 دولارا إلى وقف التوسع في الإنتاج في الولايات المتحدة.
الاتجاه العام داخل تحالف أوبك بلس يدفع نحو التحول من إستراتيجية الدفاع عن سعر عادل مرتفع، إلى الدفاع عن الحصة السوقية، حتى لو كان ذلك على حساب السعر.
تحاصر سياسة التشديد النقدي التي ينتهجها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي منذ 3 سنوات بدورها أي فرص لامتصاص زيادة المعروض والطلب، لكن تصريحات رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول الأخيرة، والتي أشارت لاقتراب الانتهاء من سياسة التشديد النقدي، والخفض الأخير المتواضع لمعدل الفائدة بـ 25 نقطة أساس، قد تؤدي إلى تحسن مستقبلي فور خفض معدلات الفائدة وفقا لتوقعات السوق، والخفض القادم سيؤدي -إن حدث- لتحريك الاقتصاد وبالتالي زيادة الطلب.
وحسب تحليل غولدمان ساكس للبيانات الاقتصادية الأميركية، فإن الاقتصاد يسير بوتيرة أبطأ من طاقته مما يزيد احتمالية حدوث ركود قريبا، مثلما حدث سابقا عام 1986 عندما رفع الاحتياطي الفيدرالي معدل الفائدة لمواجهة التضخم ، وأدى ذلك لتباطؤ الاقتصاد العالمي وانخفاض حاد في أسعار النفط إلى مستويات أقل من 10 دولارات للبرميل.