لندن – تتصاعد موجات المقاطعة الداعمة للقضية الفلسطينية في بريطانيا منذ عام 2024، وانتقلت من مجرد نداءات رمزية إلى أدوات ضغط مؤسسي قوية. هذه الموجات لم تعد مقتصرة على الأُطر الحقوقية الخاصة بحركة المقاطعة " بي دي إس "، بل أثمرت ردود فعل شعبية غير منظمة تجاه علامات تجارية مختلفة، أبرزها جاء في قرار سلسلة منافذ التجزئة البريطانية "كو أوب" بوقف التوريد من دول اعتبرها مجلس الإدارة "ذات انتهاكات حقوقية"، بينها إسرائيل .
هذا التقرير يسلط الضوء على التحولات الحقيقية في المشهد، ويستعرض قرائن وأرقاما وتصريحات رسمية تكشف مساحات التأثير الفعلي لهذه الحملة في القطاعات الاقتصادية والسياسية والقانونية والثقافية.
في 24 يونيو/حزيران 2025، أعلنت مجموعة "كو أوب" أنها ستوقف شراء منتجات ومكوّنات من 17 دولة تم تصنيفها بأنها "ذات انتهاكات حقوقية معترف بها دوليا"، ضمنها إسرائيل.
جاء هذا القرار بعد تصويت في الجمعية العمومية للمجموعة حصل على نحو 73% من الأصوات تأييدا لتغيير سياسة الشراء، لكن الشركة أكّدت أن القرار لم ينبع من هذا التصويت، بل كان قيد الإعداد منذ عام كامل ضمن حملة داخلية بعنوان "الكراهية تفرق والتعاون يبني"، وقد أوضحت الشركة أن سياستها تعتمد على تقييمات حقوقية دولية وليست متصلة مباشرة بأي حملة خارجية مثل "بي دي إس".
المجموعة، التي تُدير نحو 2300 متجر وتضم 6.2 ملايين عضو، وتبلغ إيراداتها 11.3 مليار جنيه إسترليني (ما يقارب 15.3 مليار دولار)، أضافت عبر متحدثها الرسمي مارك كارينجتون للجزيرة نت أن التنفيذ سيكون "مرحليا" بدءا من يونيو/حزيران 2025، وبما يتوافق مع لوائح الشرف المهني (جي إس كوب) الخاصة بالسلاسل الكبرى، مع مراعاة الالتزامات التعاقدية القائمة.
كما أكّدت أنها لم تشترِ في أي وقت منتجات من المستوطنات غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث التزمت مسبقا باتفاقية دولية تحول دون أي تعاون مع هذه المستوطنات حتى قبل العدوان الأخير على غزة.
هذه الخطوة مثلت نموذجا عمليا ونوعيّا: انتقالا من بيانات الرأي إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد، وهو ما يرى محللون أنه يفتح الباب لتغيّرات مستقبلية قد تتسع لتشمل سلاسل تجزئة أخرى.
ولم يقتصر تأثير المقاطعة على قطاع التجزئة فحسب، بل امتد إلى الثقافة والتمويل. ففي صيف 2024، أعلنت "باركليز" تعليق رعايتها لمهرجانات موسيقية كبرى مثل "داونلود" و"لاتيتيود" و"آيل أوف وايت"، بعد انسحاب فنانين واحتجاجات جماهيرية مرتبطة بعلاقات البنك مع شركات دفاعية متهمة بالتعامل مع إسرائيل.
ورغم أن "باركليز" نفت امتلاك استثمارات مباشرة في تلك الشركات، وأوضحت أن خدماتها تندرج ضمن عمل مصرفي متعارف عليه، فإن الضغوط الشعبية والإعلامية دفعتها إلى تعديل مؤقت في سياساتها الرعائية.
هذا التراجع، وفق مراقبين، يعكس هشاشة المؤسسات المالية أمام الرأي العام. وبرغم أنه لم يُترجم إلى خسائر مبيعات مباشرة أو تغيير فعلي في أنشطة الإقراض والخدمات المصرفية الأساسية، فإن مئات النقابيين أعلنوا حينها وقف تعاملاتهم مع البنك وإنهاء عقودهم المصرفية.
على النقيض من التراجع، اختارت بعض الشركات تحويل التضامن إلى رمز للعلامة التجارية. فقد أعلنت سلسلة مستحضرات التجميل "لاش" (Lush) دعمها لقطاع غزة ، وأغلقت متاجرها ليوم كامل استنكارا للوضع هناك، وقالت المتحدثة الرسمية رو فلتشر: "الحافز كان نابعا من الإحباط المطلق.. لا يوجد سبيل لنقدّم أرضا إضافية أو مأوى لأحد، ففضلنا نقل رسالة دعم عبر أماكننا في المدن.. تفاجأنا بمدى مشاركة الرسالة عالميا.. لقد تلقينا رسائل دعم مذهلة عبر القنوات كافة".
وبالرغم من أن المتاجر أعيد فتحها بعد ساعات فقط من التصريح، فقد سجلت اكتظاظا بالمشترين لمنتج "صابون البطيخ" الخيري المخصص لدعم علاج مبتوري الأطراف في غزة. وأكدت الشركة أن الاستجابة التجارية كانت راسخة، وأن التضامن وسّع من تجاوب وسائل التواصل الاجتماعي والجمهور، رغم بعض الردود السلبية التي أتت من أميركا الشمالية.
وشهدت الأسواق البريطانية خلال الأشهر الماضية تصاعدا في حملات المقاطعة الشعبية ضد شركات كبرى مثل "زارا" و"ماكدونالدز" الداعمة لإسرائيل، في الوقت الذي برزت فيه مطاعم فلسطينية مثل "البيت الفلسطيني" التي امتلأت بقوائم انتظار طويلة وازدحام غير مسبوق بالعملاء.
كما ظهرت في المشهد التجاري علامات بديلة مثل "غزة كولا" و"لبيك كولا"، التي انتشرت في المتاجر والأسواق الشعبية، رغم أن أسعارها تفوق أحيانا أسعار المنتجات المستهدفة بالمقاطعة. ومع ذلك، شهدت هذه البدائل إقبالا واسعا وغير مسبوق، بينما لا تزال أعداد المبيعات والإيرادات الفعلية غير معلنة، وتبقى المؤشرات قيد التطور والرصد.
ويرى محللون أن تجربة "كو أوب" تبرهن على أن التحولات الحقيقية تبدأ من قرارات مؤسسية مدروسة وطويلة الأمد، حيث يُختبر مدى فاعلية المقاطعة حين تتبناها مؤسسات كبرى ترتبط مباشرة بأعضائها ومستهلكيها، وليس عبر مقاطعة فردية قد تكون لحظية أو مرتبطة بزمن الأحداث.
وفي ظل غياب أرقام بيع دقيقة للشركات المستهدفة بالمقاطعة مثل "إنديتكس" و"لوريال"، يبقى الأثر المباشر غامضا، لكنه قابل للقياس عبر المطالبات المتزايدة بالشفافية من مؤسسات الإحصاء التجاري أو عبر تقارير الميزانيات الداخلية للشركات.
وفي المقابل، يبرز ازدهار علامات محلية مثل "لاش"، أو التوجه نحو شركات تجميل أعلنت دعمها لفلسطين علنا مثل "هدى بيوتي"، رغم التحديات السوقية.
أما على الصعيد الأمني والقانوني، فتتحرك وتيرة التشريع لملاحقة أشكال العمل الميداني الاستفزازي، مع محاولة الحفاظ على مساحة الاحتجاج السلمي. ويرى مراقبون أن الطعون القضائية الجارية قد تحسم الحدود الفاصلة بين حرية التعبير والتهديد الأمني.
في المقابل، تتعالى الدعوات للانتقال إلى خطوات عملية، تشمل تحليل مبيعات الشركات قبل وبعد الحملات، وإجراء مقابلات مع مسؤولي الشركات والمجموعات الناشطة، إلى جانب توثيق دوري للبيانات الرقمية والمالية.
وتؤكد تجربة المقاطعة في بريطانيا أن الضغوط المدنية يمكن أن تتحول إلى قرارات تجارية مؤسسية، لكن معظم النتائج لا تزال قيد الرصد. وبحسب محللين، يبقى السؤال مفتوحا: هل ستنتقل الحملة من مساحة رمزية إلى فعل اقتصادي ملموس، أم ستظل محصورة في الخطاب العام؟
ما يتضح حتى اللحظة هو أن التوثيق الرقمي والمالي المستمر يعزز مسار الحملة، وقد امتدت مطالبات المقاطعة إلى ما هو أبعد من المنتجات الاستهلاكية والبنوك، لتشمل مقاطعات أكاديمية وتكنولوجية، وسحب صناديق استثمار من حسابات مرتبطة بإسرائيل. ورغم أن نجاح هذه الخطوات كان محدودا حتى الآن، فإن الحراك مستمر ويتوسع.