خلال السنوات الأخيرة، شهد المغرب تحولات نوعية مدفوعة بسياسات حكومية تركز على الربحية والتصدير، مما مكنه من الوصول إلى قيمة صافية للصادرات الفلاحية (الزراعية) بلغت 80 مليار درهم (8 مليارات دولار) سنة 2024، مع تغطية واسعة لاحتياجات السوق الأوروبي، خاصة من الطماطم والحوامض والتوت، وتلبية جزء من الطلب الأفريقي، في جنوب الصحراء.
في المقابل، يظل المغرب مستوردا رئيسيا للقمح لتغطية أكثر من 60% من حاجياته السنوية، بما يزيد على 30 مليار درهم (3 مليارات دولار) في السنة.
ويمثل هذا التباين بين القوة التصديرية وضعف الاكتفاء الذاتي مفارقة كبيرة لعدد من المتتبعين، إذ يعكس من جهة هشاشة الإنتاج الوطني لمواد أساسية تحت تأثير الجفاف المستمر ونقص الموارد المائي، ومن جهة أخرى استغلال نمو إنتاج مواد أخرى لتحقيق فائدة في توليد العملة الصعبة.
ووفق هذه المعطيات، يصبح القطاع الفلاحي المغربي، حسب الخبراء، محورا إستراتيجيا يتطلب إدارة دقيقة للموارد والسياسات الزراعية، بحيث يمكن التوفيق بين تعزيز الصادرات، ودعم الربحية، والحفاظ على حد أدنى من الاكتفاء الذاتي، مع مراعاة الاستدامة البيئية والاجتماعية.
يشهد المغرب قوة واضحة في تصدير الفواكه والخضروات مستفيدا من القرى الكبرى والتقنيات الحديثة للري. وقد بلغت صادرات الطماطم 1.2 مليون طن، والحوامض 1.5 مليون طن، والتوت أكثر من 300 ألف طن سنة 2024.
وتمثل الأسواق الأوروبية الوجهة الأساسية، حيث يغطي المغرب مثلا 33% من حاجيات إسبانيا من هذه المنتجات، في وقت تتوسع فيه الصادرات الأفريقية وفق اتفاقيات مرنة تحدد الكميات حسب الإنتاج المحلي وظروف السوق.
ويبرز الخبير الاقتصادي ياسين أعليا أن السياسات الفلاحية في المغرب تعتمد على خيارات مدروسة ومبنية أساسا على مبدأ الربحية، الأمر الذي جعل مسألة الاكتفاء الغذائي الذاتي غير مدرجة في حسابات الحكومات المتعاقبة، موضحا أن هذا التوجه أصبح أكثر وضوحا مع إطلاق مخطط المغرب الأخضر عام 2008، الذي دفع المغرب نحو التوسع في الزراعات التسويقية الموجهة للتصدير.
ويضيف في تصريح للجزيرة نت: "يمكن القول إن المفهوم السائد للإنتاج الزراعي في المغرب هو إنتاج بالوكالة، حيث يستجيب لمتطلبات الأسواق الخارجية أكثر من احتياجات المواطن المغربي، ويتضح هذا الأمر جليا في التراجع الكبير لمساحات الأراضي المخصصة لزراعة القمح والحبوب، التي تعتبر الغذاء الرئيسي للمغاربة".
بدوره، يشرح الخبير الفلاحي رياض أوحتيتا أن المغرب عانى من 8 سنوات من الجفاف، مما يلقي بظلاله على القطاع الفلاحي، خاصة في المناطق البورية التي تنتشر فيها زراعة القمح.
ويؤكد -في تعليق للجزيرة نت- أن توجيه الفرشة المائية نحو الزراعات الكبرى مثل القمح أو الشعير ليس خيارا مناسبا، لأن ذلك سيؤثر على توفر المياه اللازمة لزراعة الخضروات والفواكه، التي تسهم بشكل كبير في جلب العملة الصعبة للبلاد.
يعود تحول المغرب نحو الزراعات التسويقية إلى عاملين رئيسيين، كما يشرح أعليا:
من جهته، يقول أوحتيتا إن الزراعة التجارية للخضروات والفواكه تحقق أرباحا سريعة خلال 4 أشهر، سواء من خلال التصدير أو السوق المحلي، وهذا ما دفع المزارعين إلى تفضيلها على زراعة القمح التي تحتاج إلى وقت أطول لتحقيق العائد.
في حين يقول الناشط في مجال حماية المستهلك، بوعزة الخراطي، إن المعادلة صعبة، وتتطلب اعتماد تقنيات متعددة لضبط توازن السوق، مع تحقيق أقصى استفادة من التصدير، دون المساس بالسيادة الغذائية والحفاظ على السلم الاجتماعي.
ويضيف -في تصريح للجزيرة نت- أن المغرب يظل بلدا فلاحيا رغم التحديات المناخية والصعوبات، مشيرا إلى أنه يصدر الخضروات والفواكه إلى السوق الأوروبية وفق اتفاقيات وعقود موقعة بين الفلاح المغربي والعميل الأوروبي، على أن يلتزم الفلاح بتوفير جميع المتطلبات.
بلغ الإنتاج المحلي للقمح 2.47 مليون طن سنة 2024، بانخفاض 40.6% مقارنة بالعام السابق، بسبب الجفاف وتقليص المساحات المخصصة للحبوب، مما دفع الحكومة إلى الزيادة في الكمية المستوردة.
ويبرز أوحتيتا أن نحو 30% من الأراضي الزراعية في المغرب مهددة بالتصحر، حسب المعهد الوطني للبحث الزراعي، وهي المناطق المعروفة بإنتاج الحبوب، التي تأثرت بشدة بالتغيرات المناخية وتأخر تساقط الأمطار، ونتيجة لذلك، أصبح نحو 80% من المحصول الزراعي متركزا في منطقتي الغرب والشمال، إذ لا يزال هطول الأمطار أكثر انتظاما.
ويضيف أن وزارة الفلاحة تنفذ حاليا برنامجا وطنيا لتقليل تكاليف الإنتاج بتشجيع الزراعة المباشرة الأقل تكلفة، أي الزراعة بدون حرث مسبق، والهدف هو زراعة مليون هكتار بهذه الطريقة.
ويشير إلى أنه تم تحقيق 400 ألف هكتار خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وهو إنجاز يجب تشجيعه، وذلك من خلال دعم الوقود.
بينما يشرح أعليا أن الارتباط بالأسواق العالمية جعل القمح المستورد أكثر جاذبية من إنتاجه محليا، نظرا لانخفاض سعره مقارنة بالخضروات والفواكه الموجهة للتصدير، مضيفا أنه بالرغم من تراجع الإنتاج العالمي للقمح بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية ، فإن الإنتاج من دول مثل الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين والهند عوّض هذا النقص.
يتطلب تحقيق التوازن بين التصدير والاكتفاء الذاتي إدارة دقيقة للموارد المائية والسياسات الزراعية.
ويؤكد أوحتيتا أن الحاجة إلى سياسة زراعية حاسمة أصبحت واضحة، إذ يجب وضع إطار قانوني يمنع الإفراط في زراعة المحاصيل المستنزفة للمياه، فرغم صعوبة منع زراعة محاصيل مثل الأفوكادو أو البطيخ، فإن وقف الدعم المخصص لها يمكن أن يوجه المزارعين نحو بدائل أكثر استدامة.
من جهته، يبرز الخراطي أن المغرب يصدر الفواكه والخضروات لعدد من الأسواق في إطار حرية السوق، لكن الحكومة يمكنها إصدار قرار المنع كلما دعت الظروف لذلك، خاصة عند كل خصاص يهدد السوق المحلي.
ويبقى القطاع الفلاحي المغربي نموذجا لاختبار قدرة المملكة على تحقيق التوازن بين التصدير، وتحقيق الربحية، والاكتفاء الذاتي، فالنجاح في تصدير الفواكه والخضر يعزز العملة الصعبة ويضع المغرب ضمن الأسواق العالمية، بينما تحديات الاستيراد والجفاف تفرض على الدولة والمزارعين التفكير في حلول مبتكرة لضمان الأمن الغذائي .