غزة – مع تصاعد التهديدات الإسرائيلية باجتياح مدينة غزة ، تتزايد مخاوف السكان من موجات نزوح جديدة تفاقم المأساة الإنسانية، فالمناطق الجنوبية والوسطى لم تعد قادرة على استيعاب مزيد من النازحين في ظل غياب الأمن والخدمات الأساسية، ما يضع مئات الآلاف أمام مصير مجهول.
رئيس بلدية دير البلح نزار عياش أوضح في 27 أغسطس/آب أن وسط القطاع "مكتظ بالكامل ولا توجد أي مساحة لنصب خيام جديدة"، مضيفًا أن المنطقة "لم تعد آمنة ولا صالحة للحياة بأي شكل من الأشكال". وأشار إلى أن البنية التحتية متهالكة، في حين أن محطة التحلية تحتاج إلى كميات كبيرة من الوقود لتوفير مياه محدودة.
هذه التصريحات فاقمت المخاوف لدى المواطنين الذين يعيشون أصلًا تحت حصار خانق وعدوان متواصل يفتك بأبسط مقومات الحياة من ماء وغذاء ودواء.
واضطر سكان الأحياء الشرقية كالشجاعية والزيتون والصبرة والتفاح، إضافة إلى سكان الشمال في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا ، إلى النزوح نحو المناطق الغربية الساحلية. النتيجة كانت اكتظاظًا هائلًا ونقصًا حادًا في المساكن، ما أجبر آلاف العائلات على افتراش الأرصفة والمدارس والمرافق العامة في ظروف إنسانية قاسية.
وكشفت إفادات من غزة أن كثيرًا من العائلات تواجه تحديات وجودية صعبة، إذ تتطلب عملية الإخلاء مبالغ باهظة. فثمن الخيمة يتراوح بين 4500 و5000 شيكل (1180–1310 دولارات)، في حين تصل تكلفة المواصلات إلى 2000–3000 شيكل (525–790 دولارا) للعائلة، عدا عن تكاليف المراحيض والمستلزمات الأخرى.
أم محمد، التي نزحت أولًا من شمال غزة إلى الغرب ثم اضطرت لمغادرته نحو الوسط خوفًا من اجتياح المدينة، قالت إنها دفعت نحو 1000 شيكل (265 دولارا) للنقل. وبسبب عدم قدرتها على شراء خيمة أو استئجار منزل، لجأت إلى إحدى المدارس في مخيم دير البلح حيث تتشارك غرفة صفية مع عدة عائلات. وأضافت: "نعيش بين جدران مدرسة لا تصلح للسكن. لا خصوصية ولا راحة، والأطفال ينامون على الأرض. نحن هنا فقط لأننا لا نمتلك خيارًا آخر".
لكن خلف هذه القصص الفردية، تكشف الأرقام عن أزمة اقتصادية واجتماعية أشمل تعصف بقطاع غزة، حيث تحولت مأساة النزوح إلى عبء مالي مرهق يستنزف ما تبقى من قدرة العائلات على الصمود.
وتشهد أسعار إيجارات البيوت والشقق ارتفاعًا غير مسبوق، إذ وصلت إلى 2500–3000 شيكل (نحو 660–790 دولارا) شهريًا، ما أثقل كاهل العائلات الباحثة عن مأوى. بعض الملاك برر الارتفاع بندرة المعروض وارتفاع تكاليف المعيشة، لكن كثيرين اعتبروا ما يجري استغلالًا صارخًا لحاجة الناس إلى مأوى آمن.
عمر الغول، الذي نزح مع أسرته من غزة، اضطر إلى استئجار شقة صغيرة في النصيرات مقابل 850 شيكل (نحو 225 دولارا) شهريًا نقدًا، رغم أنها "لا تدخلها الشمس ولا يصلها هواء متجدد". وأوضح أن مثل هذه الشقة في الظروف الطبيعية "لا تساوي أكثر من 200 شيكل (نحو 53 دولارا)"، لكنه اضطر للقبول بها لأن البدائل معدومة.
أما صاحب الشقة، أبو أحمد، فبرر ذلك: "الطلب على السكن أصبح هائلًا بعد موجات النزوح، والشقق قليلة جدًا. حتى البيوت غير الصالحة يطلبها الناس. نحن أيضًا نعاني من غلاء المعيشة".
ووصف المحامي الدولي صلاح عبد العاطي ما يجري بأنه "عمل غير إنساني وغير أخلاقي"، مؤكدًا أنه استغلال لحاجة الناس وانتهاك صارخ لمبادئ العدالة. ودعا عبر الجزيرة نت إلى تشكيل لجان رقابية مجتمعية لمتابعة هذه التجاوزات وضبط الأسعار ومنع الاستغلال، إضافة إلى تفعيل دور البلديات والمؤسسات المحلية في مراقبة السوق وحماية المواطنين.
من جانبه، رأى رئيس قسم علم النفس في جامعة الأقصى عبد الله الخطيب، أن النزوح القسري المتكرر "يشكّل تجربة نفسية واجتماعية قاسية"، خصوصًا أنه يتم وسط فقر شديد ونقص في الموارد.
وأوضح أن رفع الأسعار من بعض السائقين والملاك يعكس "أزمة أخلاقية تزيد من الشعور بالظلم وفقدان الثقة بين الناس، ما يؤدي إلى تفشي الحقد والكراهية وارتفاع مستويات التوتر النفسي".
ولفت الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر إلى أن عامين من الحرب استنزفا طاقة المواطنين وجيوبهم بشكل كامل، إذ اضطروا إلى دفع مبالغ باهظة بسبب النزوح وارتفاع المعيشة.
وأوضح أن نسبة الفقر تجاوزت 90%، في حين تضاعفت البطالة إلى 83%، وهو ما يجعل المواطنين عاجزين عن تحمّل أي تكاليف إضافية سواء في الإيجارات أو المواصلات أو حتى الحصول على الخدمات الأساسية.
بهذا المشهد، يبدو أن الغزيين عالقون بين مطرقة التهديدات العسكرية وسندان الأعباء المعيشية، حيث تحوّل النزوح من مأساة إنسانية إلى معركة يومية للبقاء وسط غياب الأفق وانعدام البدائل.