آخر الأخبار

وثائقي “تحت الأرض”.. سرد بصري يجمع بين العتمة والنور لاستحضار المآسي اليابانية

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

أمستردام- بعد ثلث ساعة من مشاهد بصرية مفككة للكهوف والأنفاق والمياه لا تفصح عن معناها المباشر، كنتُ على وشك مغادرة القاعة والخروج لألحق بفيلم آخر في قاعة مجاورة بالمسرح الدولي الذي يستضيف مهرجان إدفا للأفلام الوثائقية وسط العاصمة الهولندية.

لكن ما أن بدأ الراوي ينتقل للحديث عن تحول تلك الملاجئ تحت الأرض إلى مسارح لمآس إنسانية مروعة، حتى اعتدلت في جلستي وقررت الاستمرار مأخوذا بقوة سرد الراوي الذي حكى كيف لقي كثيرون حتفهم جماعيا داخل كهوف أوكيناوا التي شهدت أحد أقسى فصول الحرب العالمية الثانية في الأشهر الأخيرة من الحرب، حينما احتمى آلاف المدنيين اليابانيين في كهوف أوكيناوا الطبيعية (التي تُعرف محليا في اليابان باسم غاما) هربا من الجنود الأميركيين.

شهود المأساة

عبر إحياء روايات الناجين والمآسي المنسية، يسهم الفيلم في نقاش الحرب في الوجدان الياباني، فلا يكاد يبدأ باستكشاف البلدة الغارقة، حتى يوثق قصص انتحارات جماعية قسرية حدثت في تلك الكهوف خلال المراحل الأخيرة من حرب المحيط الهادي عام 1945.

ويمثل الفيلم محاولة جادة لإنقاذ ما غرق من التجارب الإنسانية عبر الفن السينمائي، مؤكدا أن الكاميرا ذاكرة بديلة تحفظ الماضي من الضياع.

وعلى سبيل المثال، شهد أحد الكهوف -المعروفة باسم "تشيبيتشيري غاما"- موت ما يزيد على 80 شخصا من المدنيين دفعة واحدة في حادثة انتحار جماعي مأساوية، وعندما بحثت عن تلك الظاهرة فهمت أن هذا المصير لم يكن حتميا، فعديد من تلك الانتحارات الجماعية جاءت نتيجة الضغط النفسي الذي مارسته السلطات والمجتمع على المدنيين لإقناعهم بأن الاستسلام للعدو أسوأ من الموت.

‎لا تتبع سردية الفيلم حبكة تقليدية بقدر ما تنساب مع تدفق حر للأحداث والصور، وتوثق ‎المخرجة اليابانية كاوري أودا في الفيلم موضوع الحرب عبر الغوص -حرفيا!- في عالم الكهوف تحت سطح اليابان، بما في ذلك قصص انتحارات جماعية قسرية حدثت في تلك الكهوف خلال المراحل الأخيرة من حرب المحيط الهادي عام 1945.

إعلان

‎يتبدى عنوان الفيلم كدعوة هادئة للنزول تحت السطح، نحو عالم تحت الأرض يسكنه ما تبقى من أثر البشرية، وكأنها ‎رحلة وجودية في طبقات الوعي الجمعي الياباني.

‎تنطلق قصة "تحت الأرض" (Underground) من شرارة بصرية خاطفة عندما تصادف امرأة صورا قديمة أو لقطات فيلمية في إحدى دور العرض، فتقودها تلك المشاهد إلى السعي وراء حقيقتها.

تكتشف بطلة الفيلم -التي لا تتحدث طوال الفيلم- أن تلك اللقطات تعود إلى بلدة اختفت حرفيا تحت مياه بحيرة تشكلت خلف سد شاهق، فتشد رحالها بدافع من الفضول إلى ذلك المكان الغارق ولعله الحنين إلى ماض لم تعرفه.

هكذا تبدأ رحلة البحث، رحلة تقودها عبر الزمن وآثار الماضي، الشخصية الرئيسية هنا بلا اسم محدد، وتظهر كظل بشري أو شبح يتجول بحرية عبر المشاهد وأحيانا عبر يد تمتد من جانب الصورة وتكتفي ببصمتها وحضورها الحالم، تغدو هذه المرأة دليلنا في دهاليز تحت الأرض.

وسرعان ما يتجاوز الفيلم مهمة العثور على البلدة الغارقة حرفيا، لينخرط في استكشاف أوسع للأماكن الخفية والمكبوتة في الذاكرة الجمعية، متنقلا بين مواقع تحت الأرض متعددة.

جماليات الظلمات

تنتقل الكاميرا من أنفاق إسمنتية مهجورة تحت مدينة حديثة، إلى كهوف طبيعية في أوكيناوا شهدت مآسي حرب دامية، وصولا إلى أطلال القرية الغارقة نفسها في قاع البحيرة، ولا يفصح لنا الفيلم مباشرة عن أسماء هذه الأماكن أو تفاصيلها، فالانتقالات مقصودة أن تكون ضبابية وكأنها حلم على ما يبدو.

‎تتداخل الأزمنة كذلك، إذ تُسقَط مشاهد أرشيفية ولقطات قديمة فوق المشاهد الحاضرة، من دون تسلسل سببي واضح أيضا، ولكن تربطها مجموعة من الرموز أو الأحاسيس رغم غياب الحوار والشرح المباشر، ويبدو الفيلم من هذه الزاوية "ما بعد حداثي" بامتياز، وذلك من جهة تقويض البنية السردية والأسلوب التسجيلي المألوف لدى المشاهد.

ورغم تلك الجماليات، فإن الفيلم بدا لي مربكا بالنظر لأسلوبه التجريبي الجريء، فالسرد المفكك والانتقالات المفاجئة بين المشاهد تربك من يفضلون الخط السردي الواضح، مما يجعل متابعة الفيلم أشبه برحلة تتطلب الصبر وهو ما كدت أفقده عدة مرات خلال المشاهدة.

وقبل أن ينجذب المشاهد لخوض هذه الرحلة التأملية، جامعا فتات الحكاية عبر الإيحاءات البصرية والسمعية، ‎يظهر المرشد ماتسوناغا ميتسوو ليكون راويا لمعاناة الحرب، حيث يقود الزوار داخل الكهوف ويحكي لهم بالتفصيل ما وقع فيها من مآس، ثم يدعوهم في نهاية الجولة إلى تجربة ظلام الكهف الدامس كما عاشه من اختبأ فيه قبل عقود.

قبل أن ينجذب المشاهد لخوض هذه الرحلة التأملية، جامعا فتات الحكاية عبر الإيحاءات البصرية والسمعية، ‎يظهر المرشد ماتسوناغا ميتسوو ليكون راويا لمعاناة الحرب، حيث يقود الزوار داخل الكهوف ويحكي لهم بالتفصيل ما وقع فيها من مآس، ثم يدعوهم في نهاية الجولة إلى تجربة ظلام الكهف الدامس كما عاشه من اختبأ فيه قبل عقود.

يطفئ المرشد مصباحه اليدوي لبضع دقائق في عمق الكهف حتى يختبر الزائرون إحساس العتمة والخوف الذي كابده أسلافهم، وتظهر المخرجة هذا المشهد وكأن الظلام يساعد على استحضار الذكريات وتأمل فداحة ما جرى.

وكثير من المشاهد تغرق في عتمة حالكة داخل كهوف وأنفاق لا يبدد ظلمتها سوى بصيص ضوء صادر عن مصباح يدوي أو فتحة بعيدة.

ويقول نقاد إن هذا التباين بين العتمة والنور يحول الكاميرا إلى ما يشبه النحات الذي يستخدم الضوء ليكشف ملامح الفضاء الخفي ‎عبر تكوينات بصرية مدهشة، حيث نرى ظلالا تتراقص على جدران الصخور، وكيانات بشرية تظهر كخيالات باهتة ضمن مشاهد طبيعية مطموسة المعالم.

هذا التباين بين العتمة والنور يحول الكاميرا إلى ما يشبه النحات الذي يستخدم الضوء ليكشف ملامح الفضاء الخفي ‎عبر تكوينات بصرية مدهشة، حيث نرى ظلالا تتراقص على جدران الصخور، وكيانات بشرية تظهر كخيالات باهتة ضمن مشاهد طبيعية مطموسة المعالم.

وتتساقط طبقات من الصُوَر فوق بعضها بعضا، بحيث يتماهى الاصطناعي، مثل ضوء المصباح وهياكل الإسمنت، مع الطبيعي من أشكال الصخور وانعكاسات الماء.

إعلان

والصمت أيضا عنصر أساسي في لغة الفيلم السينمائية، فمع قلة الحوار البشري ترتفع أصوات البيئة الطبيعية مثل تقطّر الماء في السكون، وحفيف الرياح عبر الممرات الضيقة، وصدى الخطوات في الفراغ تحت الأرض.

كما تتخلل الفيلم لحظات من السكون التام تقريبا، تمنح المشاهد مساحة للتفكير والتفاعل الشخصي مع ما يراه، ويختم الفيلم بمشاهد تأملية للمياه والسدود.

وعندما يستخدم الصوت الموسيقي، تأتي على هيئة نسيج سمعي تجريدي يكمل الصورة من دون أن يطغى عليها.

وصُمم الشريط الصوتي -على ما يبدو- بعناية ليخلق "سيمفونية" من الأصوات الطبيعية والإلكترونية، فتارة يعلو هدير غامض يبعث التوتر، وتارة أخرى يخفت كل شيء إلى همس بالكاد يُسمع.

مصدر الصورة كثير من المشاهد بالفيلم تغرق في الظلام داخل كهوف وأنفاق لا يبدد ظلمتها سوى بصيص ضوء بعيد (لقطة من الفيلم)

‎عندما يبتلع التقدم الذاكرة

‎شهد القرن الـ20 طفرة عمرانية هائلة في بناء السدود حول العالم، حملت معها وعدا بالكهرباء والري ومنع الفيضانات، لكنها حملت أيضا وجها آخر للتقدم: قرى وبلدات بأكملها اختفت تحت مياه بحيرات صناعية، وتشرد سكانها، وطُمست ذكرياتهم.

ولا يخفى على المشاهد أن الرحلة "تحت الأرض" تحمل أبعادا رمزية عديدة، كالحفر في طبقات العقل الباطن والذاكرة المكبوتة للمجتمع الياباني، وتأمل صدمات التاريخ وأشباحه الراقدة في الأنفاق والكهوف، وأعني أحداثا مأساوية دُفنت حرفيا تحت الأرض ولم تعد تطفو على سطح الوعي اليومي، لكنها رغم ذلك حية في وجدان من عايشوها.

ويطرح الفيلم تساؤلات ثقافية عن الثمن الذي تدفعه المجتمعات في سبيل التنمية الحديثة، فالسد يتحول رمزا للتضحية بقيمة التراث والهوية المحلية تحت عجلة التقدم، وهذه الثيمة تجد صداها في أفلام أخرى أيضا في المهرجان الوثائقي الأكبر عالميا، مما يدفع المشاهد للتأمل إذا ما كان التطور يستحق فقدان ذاكرة المكان واقتلاع الجذور.

طرح الفيلم تساؤلات ثقافية عن الثمن الذي تدفعه المجتمعات في سبيل التنمية الحديثة، فالسد يتحول رمزا للتضحية بقيمة التراث والهوية المحلية تحت عجلة التقدم، وهذه الثيمة تجد صداها في أفلام أخرى أيضا في المهرجان الوثائقي الأكبر عالميا، مما يدفع المشاهد للتأمل إذا ما كان التطور يستحق فقدان ذاكرة المكان واقتلاع الجذور.

والجميل أن تلك الأسئلة لن تجد لها إجابة وعظية أو مباشرة، بل يترك "تحت الأرض" وأمثاله من الوثائقيات الباب مفتوحا أمام تأويل المشاهد وتفكيره، فرحلة البطلة الشخصية تصبح استعارة لرحلة أمة بأكملها في تذكر ماضيها والتصالح معه.

يحمل الفيلم أيضا بعدا وجوديا إنسانيا يتجاوز السياق الياباني الخاص، فالمحلي هو الكوني كما عبر لي أحد أساتذة الوثائقيات في المهرجان؛ و"تحت الأرض" هو تأمل شاعري في علاقة الإنسان بالمكان والزمان وفي هشاشة الوجود البشري مقابل صلادة الطبيعة واستمراريتها.

يحمل الفيلم أيضا بعدا وجوديا إنسانيا يتجاوز السياق الياباني الخاص، فالمحلي هو الكوني كما عبر لي أحد أساتذة الوثائقيات في المهرجان؛ و"تحت الأرض" هو تأمل شاعري في علاقة الإنسان بالمكان والزمان وفي هشاشة الوجود البشري مقابل صلادة الطبيعة واستمراريتها.

البلدة تغرق وتفنى، لكن الجبال حولها تبقى راسية، والبشر يرحلون، لكن الكهوف والصخور تحمل نقوش ذكرياتهم على جدرانها، ووراء كل سد وخلف كل بناية شاهقة قد تكون هناك قرية غارقة وذكريات مطمورة تستحق الاستحضار والتأمل.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار