ربما سيُقرُّ كثيرون من جيل التسعينيات بأن جنازة زياد الرحباني في تموز الماضي منحتهم فرصةً نادرة لرؤية السيدة فيروز، مكلومة ومحزونة. صحيح أنهم لم يروا جارة القمر كما حلموا برؤيتها يومًا، لكن ذلك لم يمنعهم أن يحتفوا بوجودها وخروجها من عزلتها. فقد سرّهم بأنْ يكونوا شُهودًا على حلمٍ تتحقق رغم مأساوية الظرف الذي رأوا فيه فنانة قلّ الزمان أو يجود بمثلها. في تلك اللحظة، كانت طلّة فيروز لحظةً استثنائية لملايين الشّبان حول العالم، أولئك الذين شاركوها وجعَها في ذاك اليوم الحزين، كما اعتادت هي أن تشاركهم مشاعرهم من حيث تَدري أو لا تَدري.
المؤكد أن العيون التي كانت تتفحصها، لا لتراقب طولها فحسب، أو ترجّلها من السيارة، والوشاح الأسود الذي يغطي رأسها، ثم دموعها التي كانت تنهمر برقي وهدوء قبل أن يعترضها منديل كانت تمسك به، ولكن أيضًا للتأكد من أنها فعلا هي الماثلة أمامهم، وللتحقق من أن الصوت الذي كان يخترق الراديو أو الهاتف، ويغني "حبيتك بالصيف" فيملأ الصدر شجنًا وحنينًا في ليلة عز فيها النوم، هو لسيدة من لحم ودم.
مع ذلك، وفي حديث لـ"يورونيوز"، فإن الكثير من جيل "ألفا" (من المولودين بعد 2010) أو الجيل الأصغر من " زد " (1997-2010) أعربوا عن دهشتهم وعدم استيعابهم لهذا الاحتفاء الغريب بفيروز، التي تتم الجمعة عامها الواحد والتسعين، والتي أصبحت موسيقاها بالنسبة إليهم من الماضي. فهي من زمن أقرب إلى آبائهم منهم، ما يجعلهم يتساءلون عن السبب الذي جعل حب موسيقى هذه السيدة اللبنانية أمرًا إلزاميًا، يُعدّ النقاش فيه من "المحرّمات".
تقول نور (16 سنة) مثلاً: "أنا وجميع صديقاتي نسمع موسيقى باستمرار، لكنني لم أكن لأتعرف على فيروز لولا أن والديّ يسمعان أغانيها، حتى أنني لا أسمع أغانٍ باللغة العربية أبدًا، وأميل إلى الموسيقى الغربية والأغاني الناطقة بالإنجليزية". وتوضح أنها عادةً ما تتأثر قائمة الموسيقى التي تسمعها بما هو رائج على منصات مثل "تيك توك"، وتضيف: "حتى إذا حدث وسمعت أغانٍ باللغة العربية، فهي لفنانين جدد وتكون أغانيهم تريند".
ومع أن كلماتها قد تخالف الرأي السائد للنقّاد بأن موسيقى فيروز "عابرة للأجيال"، فإن الأبحاث تشير إلى أن ما ذكرته الشابة قد يعبّر عن تصوّر جيل كامل للأيقونة، وليست فيروز إلا مثال، وذلك لأن أذواق جيل "ألفا" تختلف عن جيل الألفية (1981–1996) أو جيل "إكس" (1965–1980) وهي تتأثر بعدة عوامل.
يعد هذا الجيل الصغير في السن أول جيل ينشأ في العصر الرقمي بشكل كامل، ومع أنه يتّسم بانفتاحه على الموسيقى ومزج أنواعها، فإن عادات الاستماع لديه متنوعة وتتأثر بمصادر مختلفة مثل ألعاب الفيديو، ومنصات تيك توك، ويوتيوب.
إلى جانب ذلك، تُعدّ وسائل التواصل الاجتماعي الأداةَ الرئيسية لديه لاكتشاف الموسيقى، إذ تلعب منصات إنستغرام ويوتيوب شورتس دورًا محوريًا في تعريفه بالأغاني الرائجة، وترتبط الموسيقى بتفاعلاته الاجتماعية، حيث يشارك الأصدقاء قوائم التشغيل ويناقشون الأغاني المفضلة عبر الإنترنت.
في المقابل، يقول حسين (32 سنة) إن صوت فيروز كان مألوفًا عنده منذ الطفولة، لكنه أصبح رفيقه في الغربة بعد أن سافر من لبنان واستقر في الخارج بهدف الدراسة والعمل، ويشرح: "لم أكن أسمع الكثير من الأغاني، لكن عندما سافرت كنت في سن 19 عامًا، وكنت أقيم في سكن جامعي فيه غرفةٌ لطلاب فلسطينيين في الطابق الأول. كانوا يشغّلون باستمرار أغاني السيدة، في البداية لم أكن أتأثر، ولكن مع اشتداد شعوري بالغربة وازدياد اشتياقي لأهلي أصبح صوتها العذب وأغانيها باللكنة اللبنانية الشعبية، التي تجمع كل اللبنانيين على اختلاف مشاربهم، تخفف إحساسي المرير بالبعد عن الوطن".
ويضيف: "أصبحت أشعر أن أغانيها مثل 'نسّم علينا الهوا' هي أكثر أغنية تعبّر عمّا أشعر به". ثم يوضح المتحدّث أن حتى الأعمال المغناّة باللغة الفصحى مثل "يا عاقد الحاجبين باتت مدعاة للتأمل الشخصي عندي".
بحسب بيانات منصة "سبوتيفاي"، فإن أنواع الأغاني التي يستمع إليها جيل "زد" تتأثر بشكل أساسي بالحالة العاطفية التي يمرّون بها. ورغم أن هذا الجيل قد يبدو "متعلقًا" بالشاشات ويقدّر المحتوى البصري، فإن الصوت لا يزال يلعب دورًا كبيرًا في حياته، على خلاف جيل "ألفا".
قد يختلف كثيرون مع آراء جيل "ألفا"، أو يتفقون معها، بل وسنجد من يتهمونه أحيانًا بأنه جيل "ضائع" يفتقر إلى "الحسّ الموسيقي" و"حبّ الجمال". مع ذلك، فإن الانحياز الشخصي، خصوصًا عندما تتعلق برموز وقامات فنية عريقة مثل فيروز، تجعل الانتقاد، و"الخروج عن المألوف" أمرًا حسّاسًا. لكن علينا ألا نغفل الحقيقة التالية: وهي أننا أمام واقع جديد تتشكل فيه الأفكار بتأثير البيئة المحيطة، التي أصبحت الرقمنة سمتها الأبرز. ومع ظهور أجيال أكثر انغماسا في العالم الافتراضي، فإن المخاوف من إهمال أو نسيان أو عدم تقدير شخصيات فنية في مستوى جارة القمر، تصبح مشروعة بل ومقلقة أيضا.
المصدر:
يورو نيوز
مصدر الصورة