في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في منتصف القرن الثامن عشر، وقبل أن يصبح توماس جيفرسون الرئيس الثالث للولايات المتحدة، اقتنى جيفرسون نسخةً مترجمة من القرآن الكريم، ووضعها في مكتبته الشخصية ضمن قسم الفقه والقانون، لا قسم اللاهوت، في إشارة إلى نظرته التحليلية للإسلام بوصفه نظاما فكريا وتشريعيا جديرا بالدراسة، وقد ظلت هذه النسخة بين مقتنياته حتى بيعت لاحقا إلى مكتبة الكونغرس الأميركي بعد وفاته.
جيفرسون، مؤلف إعلان الاستقلال وأحد أبرز "الآباء المؤسسين" للولايات المتحدة، لم يتعامل مع الإسلام من باب التبشير أو الإعجاب الديني، بل باعتباره تجربة إنسانية تحمل مفاهيم العدالة والتشريع والأخلاق التي تستحق المقارنة مع الفكر الغربي.
ومع ذلك، فإن معرفة جيفرسون بالإسلام لم تكن حدثا معزولا عن السياق الأميركي، بل جاءت في زمنٍ زُرعت فيه بذور الإسلام فعليا في التربة الأميركية، قبل وجود جيفرسون بنحو ثلاثة قرون.
ففي كتابها "عباد الله: المسلمون الأفارقة المستعبَدون في الأميركيتين"، تؤكد المؤرخة السنغالية – الأميركية "سيلفيان ضيوف" أن الإسلام كان ثاني الديانات التوحيدية دخولا إلى العالم الجديد (ويشير العالم الجديد إلى مصطلح ثقافي أوروبي ينطبق على غالبية نصف الكرة الغربي للأرض وتحديدًا الأميركيتين) بعد الكاثوليكية، وأن استمرارية حضوره تعود إلى صمود المسلمين الأفارقة واستقلالهم في مواجهة الظروف القاسية، وإصرارهم على الحفاظ على هويتهم الدينية، رغم محاولات الطمس والتنصير المتزايدة في الغرب.
وتشير ضيوف إلى أن أوائل الأفارقة الذين نُقلوا إلى العالم الجديد في القرن السادس عشر (تحديدا عام 1501 ميلادية) جاؤوا من مناطق ترسخ فيها الإسلام منذ قرون، لا سيما في غرب أفريقيا، حيث انتشر المذهب المالكي السُّني منذ القرن الثامن الميلادي، عبر التجارة بين شمال القارة وجنوب الصحراء.
ففي مناطق مثل مالي والنيجر وغينيا وضفاف نهر السنغال، كانت الشريعة الإسلامية مطبَّقة فعليا، والممالك المسلمة تؤدي دورا مركزيا في ترسيخ الإسلام بوصفه مكوّنا حضاريا وثقافيا.
وتوضح ضيوف أن انتشار الإسلام في أفريقيا الغربية كان في معظمه سلميا وتدريجيا، عبر العلماء والتجار لا عبر الفتوحات.
في المقابل، فشلت "البعثات التبشيرية" الأوروبية في اختراق هذه المجتمعات واعتمدت على دعم السلطات الاستعمارية التي رأت في التبشير وسيلةً لتفكيك البنى الإسلامية المقاومة، وفق ما يشير المؤرخ البريطاني مايكل كراودر، فهذه البعثات لم تستطع فرض نفوذها إلا بوجود الجيوش، ومع ذلك، واجهتها المجتمعات الإسلامية في أفريقيا بأشكال متنوعة من المقاومة الثقافية، منها التعليم القرآني السريّ والحفاظ على القضاء المحلي وغيرها من مظاهر المقاومة الشعبية.
هذه الرؤية تتفق مع طرح النيجيري إيتيم أوكون، أستاذ الفلسفة والدراسات الدينية في جامعة كالدبار، الذي يرى أن البعثات التبشيرية كانت ذراعا ثقافية للمشروع الاستعماري الأوروبي، تهدف إلى إعادة تشكيل المجتمعات الأفريقية على النمط الغربي، بدءا من العقيدة واللغة وصولا إلى القيم الاجتماعية.
وقد قوبلت هذه المحاولات برفض واسع في المناطق الإسلامية مثل السنغال وغامبيا وشمال نيجيريا، حيث ارتبط الإسلام بالهوية الثقافية والسياسية للسكان، وأصبح رفض التنصير فعلا دفاعيا عن الذات الجماعية.
ومع إخفاق الكثير من الجهود الاستعمارية في إخضاع المجتمعات المسلمة في أفريقيا عبر التبشير، أخذ المشروع الأوروبي يأخذ منحى اقتصادي، فجاءت تجارة الرقيق لتحكم المشهد اللاحق في التعامل مع القارة الأفريقية.
وعلى الرغم من أن مناطق غرب أفريقيا شهدت تقلص حجم تجارة الرق في ظل تشجيع الشريعة الإسلامية على تحرير العبيد، فإن تلك المناطق ذاتها أصبحت هدفا رئيسيا لتجارة البشر.
وقد شكّل المسلمون نسبةً بارزة من الأفارقة المستعبَدين الذين أُسروا أو بيعوا في الحروب المحلية أو عبر وسطاء أفارقة وأوروبيين، بل استُعبد المدينون أحيانا، وهم أولئك الذين رهنوا أنفسهم أو ذويهم. وهكذا تحوّلت غرب أفريقيا إلى المصدر الرئيس للرقيق الذين نُقلوا إلى الأميركيتين.
ويؤكد الضابط الفرنسي مولينيه دي سان ريباس عام 1818 أن الأوروبيين كانوا يُفضِّلون أسْر المسلمين الأحياء على قتلهم لأن بيعهم "أكثر نفعا وإنسانية" كما نقلت ضيوف في كتابها.
غير أن هذا الموقف في استعباد الأفارقة المسلمين لم يكن موقفا مشتركا بين جميع القوى الاستعمارية آنذاك، إذ أصدرت إسبانيا في مطلع القرن السادس عشر مراسيم تحظر إدخال الأفارقة المسلمين إلى مستعمراتها في العالم الجديد، خشية أن يحملوا معهم عقيدتهم وثقافتهم وينشروا الإسلام بين السكان الأصليين في القارة الأميركية، خاصة أن ذاكرة الحروب الطويلة مع المسلمين في الأندلس كانت لا تزال حاضرة بقوة، بعد سقوط غرناطة عام 1492.
كانت إسبانيا -آنذاك- أكثر حذرا من غيرها من القوى الاستعمارية الأوروبية، لأنها كانت تدرك من تجربتها الطويلة مع المسلمين في الأندلس الخطر الذي يمكن أن يُمثِّله الإسلام في مستعمراتها الجديدة. فقد صدر في عام 1543 مرسومٌ ملكيٌّ يُعبِّر بوضوح عن هذه المخاوف، وجاء فيه أنه "في أرضٍ جديدة كهذه، حيث تُزرع بذور الإيمان حديثا، من الضروري ألّا نسمح بانتشار مذهب محمد".
وفق هذا، سمح الإسبان فقط باستقدام العبيد الذين خضعوا للتنصير من قبل في أوروبا، الذين أطلقوا عليهم اسم "اللادينو"، أي الأفارقة "المتمدّنون" الذين تعلّموا الإسبانية واعتمدوا شكليا المسيحية. أما القادمون مباشرة من أفريقيا فكان يُنظر إليهم بريبة وخوف، لما يحملونه من جذور دينية وثقافية إسلامية يصعب اقتلاعها.
لكن الحاجة المتزايدة إلى اليد العاملة في المزارع والمناجم سرعان ما دفعت الإسبان إلى تجاوز تلك القوانين تدريجيا، فدخل كثير من الأفارقة المسلمين إلى المستعمرات رغم المنع الرسمي.
في الوقت نفسه، لم تُبدِ القوى الأوروبية الأخرى ذلك التحفّظ الذي أبدته إسبانيا، إذ واصلت البرتغال وفرنسا وبريطانيا نشاطها في تجارة الرقيق دون أي اعتبار للبُعد الديني، واستمرت في جلب العبيد مباشرة من الممالك الإسلامية في غرب أفريقيا.
هذا الطرح يتقاطع وتقديرات مؤرخين معاصرين تشير إلى أن حضور الإسلام في تاريخ الأميركيين من أصول أفريقية أعمق مما تعيه الذاكرة الجمعية المعاصرة. فنحو ثلث الأفارقة الذين نُقلوا إلى العالم الجديد كانوا من المسلمين، وقد شارك بعضهم في البعثات الاستكشافية الأولى، بل وقاتلوا في ما يُعرف بـ "حرب الاستقلال الأميركية".
ومع توالي الأجيال، لم يختفِ الإسلام من وجدان الأميركيين من أصولٍ أفريقية، بل تحوّل شيئا فشيئا إلى طريق مزدوج للنجاة: روحي وسياسي في آنٍ واحد.
فوفقا للباحث الأميركي "ريتشارد برنت تيرنر"، أدّى الإسلام دورا عكسيا في مسار تجربة الأميركيين المنحدرين من أصول أفريقية، إذ قوّض النظام الرمزي القمعي الذي فُرض عليهم، ومنحهم القدرة على إعادة تعريف ذواتهم عبر الرموز الإسلامية.
وفضلا عن هذا البُعد الثقافي، أتاح لهم الإسلام أفقا روحيا عالميا يفصلهم عن بنية المجتمع العنصري الأميركي، ويمنحهم شعورا بالانتماء إلى أمة تتجاوز اللون والحدود.
قراءة تيرنر تنطلق من مفهوم "الدلالة" أو "التعريف" (Signification)، أي الطريقة التي يُعبَّر بها عن الهوية من خلال الأسماء والمعاني والرموز. فبالنسبة للأفارقة الأميركيين، لم تكن قضية الاسم تفصيلا لغويا أو اجتماعيا فقط، بل كانت جزءا من معركة طويلة لاستعادة الذات بعد قرون من العبودية والهيمنة الثقافية.
يستعير تيرنر هذا المفهوم من عالِم الأديان "تشارلز لونغ"، الذي رأى أن "الدلالة" كانت الأداة التي أطلق من خلالها الأوروبيون أسماء وصورا على الشعوب غير الأوروبية أثناء الغزو والاستعمار، أي إن المستعمِر لم يكتفِ بالسيطرة على الأرض والموارد، بل مارس سلطةً رمزية حين سمّى الآخرين وعرّفهم على هواه، وهكذا تحوّلت التسمية إلى وسيلةٍ للهيمنة وتجريد الآخر من إنسانيته.
بناء على ذلك، يُفرِّق تيرنر بين نوعين من الدلالة؛ الأول هو الدلالة القمعية، التي يستخدم فيها المستعمِر أو المجتمع المهيمن اللغة والرموز لإذلال الآخرين.
أما الثاني فهو الدلالة الذاتية، أي قدرة الجماعة المهمشة على تأويل ذاتها بنفسها واختيار معانيها المستقلة. وبهذا المعنى، تصبح التسمية فعل مقاومة بقدر ما هي تعبير عن الإيمان.
جذور هذه المقاومة، كما تُبيّنها سيلفيان ضيوف، تعود إلى المسلمين الأوائل الذين جُلبوا إلى العالم الجديد، فهؤلاء رفضوا الذوبان في الثقافة الغربية واتخذوا موقفا واعيا من التمسك بالذات في وجه المحو القسري، فابتكروا فضاءً إسلاميا خفيا يقاوم ظروف القهر والاستعباد، وبذلك استطاعوا إحياء ممارساتهم الدينية، كالصلاة، والصوم، وقراءة القرآن، وكتابة النصوص الإسلامية سرًّا.
وتُسلط ضيوف الضوء على بعض الوقائع الفردية التي تجسّد استمرار الإسلام، حتى في أحلك ظروف العبودية، ولعل أبرزها قصة عمر بن سعيد، المسلم الذي أُسر في أفريقيا الغربية ونُقل إلى ولاية كارولاينا الشمالية مطلع القرن التاسع عشر.
كان عمر مسلما متعلِّما يحفظ أجزاءً من القرآن ويؤدي شعائر الإسلام، غير أن حياته في العبودية جعلت إظهار الإسلام علنا أمرا محفوفا بالمخاطر، إذ خضع لمحاولات تنصير قسرية، ويُعتقد أنه اعتنق المسيحية في الظاهر عام 1819 تحت ضغط أسياده.
لكن ضيوف ترى أن هذا التحول الذي مرّ به عُمر كان شكليا أكثر منه عقائديا، فحين كتب سيرته الذاتية عام 1831، بدأها بالبسملة، وكانت هذه السيرة مكتوبة بالعربية بخط يده، وهي من أوائل الوثائق الإسلامية المعروفة التي دوَّنها مستعبَد في الولايات المتحدة، وتُعد دليلا على أن الإسلام لم يُمحَ من ذاكرة الأفارقة رغم القهر والاغتراب.
ومع ذلك، لم تقتصر المقاومة الإسلامية لدى الأميركيين من أصل أفريقي آنذاك على البقاء الصامت، بل تجلّت أحيانا في أشكال أكثر جرأة ونشاطا، بعضها اتخذ طابعا عسكريا ومسلحا.
ففي ولاية جورجيا -التي تشتهر حتى يومنا هذا بكثرة الأميركيين من أصول أفريقية- تورد روايات تاريخية وجود مستوطنة محصّنة على جزيرة "بِل آيل" قبالة سافانا، لجأ إليها عددٌ من العبيد المسلمين الفارّين من المزارع، ومن بينهم امرأة تُدعى فاطمة عاشت مع أولئك المسلمين في عزلة وسط الغابات والمستنقعات.
وبحسب ما تذكر سيلفيان ضيوف، بنى هؤلاء دفاعات من جذوع الأشجار والأسيجة، ورتبوا حرّاسا لحماية أنفسهم من الهجمات، إلى أن أرسلت السلطات ميليشياتٍ لإخماد جذوة تلك "المستوطنة" وإحراق أجزاءٍ منها.
لكن الحملة اصطدمت بمقاومة عنيفة من "العبيد" المحصَّنين، في واحدة من أوائل صور العصيان المسلح التي تشير إلى أن الإسلام لم يكن مجرد هوية روحية، بل كان أيضا إطارا للمقاومة والبقاء الجماعي في وجه القهر.
تُشير ضيوف إلى أن هذه المقاومة لم تكن عشوائية أو انفعالية، بل اتسمت بقدرٍ من التنظيم والفعالية، إذ كان بين العبيد المسلمين مَن خاضوا حروبا في أوطانهم الأصلية قبل أن يُؤسروا ويُباعوا، فامتلكوا معرفةً عسكرية وخبرةً ميدانية جعلتهم أكثر قدرةً على القيادة والمناورة.
وإلى جانب هذا البُعد القتالي، كان البُعد المعرفي واللغوي حاضرا بقوة، إذ استُخدمت اللغة العربية وسيلةً للتواصل السري وتبادل الرسائل بين "العبيد المسلمين" في تمرداتٍ عدة، مستفيدين من جهل "أسيادهم" بها، لتتحوّل العربية إلى أداة خفية للمقاومة وحفظ الهوية في آنٍ واحد.
وتؤكد المصادر التاريخية أن المتعلمين من المسلمين الأفارقة كانوا أكثر عددا، وربما ثقافة، من بعض "أسيادهم"، وأن قدرتهم على الكتابة جعلت منهم نخبة فكرية داخل مجتمع القهر.
وقد كشفت مكتبة الكونغرس لاحقا عن عشرات المخطوطات التي كتبها هؤلاء بالعربية، مبرهنةً على أن الإسلام لم يكن مجرد دين مستور، بل بنية معرفية صلبة قاومت المحو الثقافي عبر القرون.
في حين شكّلت الممارسات الإسلامية (الصلاة، الصوم، الوضوء) نظاما أخلاقيا واجتماعيا بديلا، ساعد على بناء هوية مقاومة للاستعباد النفسي.
فضلا عن ذلك، شكّل الفقه الإسلامي نموذجا للحفاظ على الهوية الجمعية القائمة على العدل والمساواة، حيث ابتكر المسلمون الأفارقة منظومتهم القانونية الخاصة المستندة إلى الفقه الإسلامي، فكانت بمنزلة قانون بديل سرّي ينظّم حياتهم اليومية ويمنحهم شعورا بمعايير أخلاقية أسمى من قوانين المستعمِر.
يتجلى هذا في قصة مخطوطة بلالي محمد، ذلك الرجل المستعبَد في مزرعة "سابيلو" بجورجيا، الذي عُثر بعد وفاته عام 1857 على مخطوط بخطّ يده ظنّه البعض مذكراته، لكن تبيّن لاحقا أنه ملخّص فقهي مالكي مأخوذ من رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وهو من أهم كتب الفقه في غرب أفريقيا.
هذا النموذج من الوعي الذاتي يختلف جوهريا مع ما وصفه فرانز فانون في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" عن المستعمَر الذي يسعى لتقليد المستعمِر الأبيض، مرتديا لغته وسلوكه طلبا للاعتراف.
فالمسلمون الأفارقة لم يطلبوا القبول من "السيد"، بل وجدوا في إيمانهم بالله مقياسا للكرامة والتفوّق المعنوي. لقد أنقذهم الإسلام من عقدة النقص التي تصنعها الهيمنة، ومنحهم إحساسا بأنهم أرفع من جلّاديهم علما وأخلاقا وإيمانا.
وهكذا، تحوّلت العقيدة إلى وعي بالسيادة الروحية لا بالتبعية، وإلى البذرة الأولى للمقاومة، إذ لا يمكن لثورةٍ أن تنشأ من ذاتٍ تشعر بالدونية، بل من ذاتٍ تدرك تفوّقها الأخلاقي والإنساني، وهي الذات التي صاغها الإسلام في قلب العبودية الأميركية.
هذه البذور الأولى للإسلام في القارة صارت ملحوظة منذ بدايات القرن العشرين، حين بدأ الأميركيون الأفارقة البحث عن جذورهم الروحية بعد تحررهم من قبضة الكنيسة البيضاء، وقد وجد كثيرون ضالّتهم في الإسلام، فتأسست حركات مثل معبد العلوم المغربي (عام 1913) ثم أمة الإسلام (عام 1930)، وبلغ هذا المسار ذروته في الستينيات مع مالكوم إكس الذي أعاد ربط الإسلام بالتحرر والمساواة.
إلى جانب ذلك، ترك الإرث الإسلامي أثرا في التعبيرات الثقافية السوداء حتى من دون وعي مباشر. فبعض الباحثين يرون أن أنماط الإنشاد في موسيقى البلوز وأغاني المزارع تحمل أصداءً من التلاوة القرآنية والأذان الإسلامي، إذ تتشابه نغمات مدّ المواويل وترجيع النبرات في أغاني مزارع القطن مع أنماط الإنشاد الديني الأفريقي الإسلامي.
وقد أدى تراكم مثل هذه العناصر إلى بزوغ أنواع موسيقية جديدة تماما في أميركا (كالبلوز والجاز) تغذت جزئيا من التراث الروحي الإسلامي دون أن تعي ذلك. وينطبق الأمر نفسه على بعض الآلات، إذ يذهب مؤرخون إلى أن آلة البانجو الأميركية الشهيرة ليست سوى تطوير لآلة وترية أفريقية (تشبه الطنبورة)، كان يستخدمها الأفارقة وغالبا ما ترتبط بالموسيقيين المسلمين في غرب أفريقيا.
غير أن هذا الامتداد التاريخي العريق لم يخلُ من تحوّلات داخلية لاحقة، إذ تغيّر المشهد الديني والاجتماعي مع مرور الزمن. فالمجتمع الإسلامي الذي وُلد من رحم التجربة الأفريقية الأولى سرعان ما استوعب موجات جديدة من المسلمين، لتنشأ داخله ديناميكيات مختلفة وتيارات متباينة في الوعي والانتماء.
فقد ضمّت الجالية المسلمة في الأميركتين لاحقا أفرادا من خلفياتٍ متنوعة: من الأميركيين البيض، والآسيويين، والعرب، والمهاجرين من الشرق الأوسط ، لم يكن لهم ارتباط مباشر بالإسلام الأفريقي.
هؤلاء المسلمون الجُدد، رغم انخراطهم في الحياة الدينية، غالبا ما تجاهلوا تاريخ الإسلام الأفريقي وإسهاماته المبكرة في بناء الوجود الإسلامي في العالم الجديد، معتبرين أن علاقتهم بالإسلام تبدأ من انتمائهم الديني الحديث لا من الجذور الثقافية والعِرقية السابقة.
وتُضيف الباحثة جوهارا فيرغسون، أستاذة الدراسات الدينية والاجتماعية في جامعة لويزيانا الأميركية، طبقةً أخرى من التعقيد إلى العلاقة بين الإسلام والأجيال الجديدة من الأميركيين السود.
فالكثير من المسلمين المنتمين إلى أجيالٍ متعددة من الأميركيين السود يواجهون صراعا بين الانتماء الديني الإسلامي والانتماء العِرقي أو القومي الأسود.
وترى فيرغسون أن هذا الصراع يعقِّد قدرتهم على إبراز الإسلام بوصفه جزءا مركزيا من هويتهم، فهذا التوتر الداخلي بين الهوية الإسلامية الشاملة والهوية السوداء المحدودة قد يدفع بعضهم إلى تهميش المكوّن الإسلامي في ذاكرته أو جعله أقل بروزا في سرده الذاتي، وهو ما يسهم في غياب الإسلام عن الوعي الجمعي الأميركي، رغم عمقه التاريخي في تجربة الأفارقة المنحدرين من العبودية.
وهكذا، تبدو رحلة الإسلام في الوعي الأفريقي – الأميركي رحلةً دائرية؛ بدأت دينا مقاوِما للاستعباد ثم تحوّلت إلى هوية جامعة في زمن التحرّر، قبل أن تواجه اليوم خطر التلاشي في زحمة الهويات الحديثة.
غير أن هذه المفارقة لا تُمثِّل نهاية القصة، بل هي دليل على عمقها؛ إذ يظلّ الإسلام بالنسبة لهم ذاكرةً للحرية ومعيارا أخلاقيا، يذكّرهم بأن جذورهم تمتد إلى ما قبل العبودية، وإلى ما بعدها أيضا.