آخر الأخبار

كيف قلب جيل زد الإيطالي الطاولة على الاستشراق الجديد؟

شارك

لم يحدث في تاريخ الشعر العربي أن حققت مجموعة شعرية، أو مختارات لشعراء عرب تُترجم إلى الإيطالية، النجاح الذي حققته مختارات "صراخهم من صوتي ـ قصائد من غزة" والتي صدرت في أبريل/نيسان من العام الجاري عن دار نشر "فازي".

وقد ألقى نصوص الأنطولوجيا -التي كانت بطلة لعدد كبير من مهرجانات صيف إيطاليا 2025- أهم الممثلين المسرحيين، وقدّمها في الملتقيات واقتبس من نصوصها على مواقع التواصل أبرز الشعراء الإيطاليين.

ولا تزال تتربع -منذ تاريخ صدورها إلى تاريخ كتابة هذه الأسطر- على المركز الأول في قائمة "كتب الشعر الشرق الأوسطي" الأكثر مبيعا على موقع أمازون، متجاوزة كلاسيكيات ذات حضور لا يبهت لأسماء عابرة للجغرافيا العربية على غرار "النبي" لجبران خليل جبران.

والسبب لا يعود بالضرورة لكوننا أمام إصدارٍ لواحدة من أهم دور النشر الإيطالية، ذلك أن العمل يسبق في قائمة أمازون "الثلاثية الفلسطينية" مع اسم مدوٍ على الغلاف هو محمود درويش لدار "فيلترينيلي" وهذه الأخيرة دار نشر أكبر من "فازي" من حيث كمّ الاصدارات، وشبكات التوزيع، والحضور الدولي.

كما لا يتعلق الأمر بـ"ظرفية" الأشعار وارتباطها بحدث تاريخي على غرار الإبادة التي عرفها القطاع طيلة عامين، ذلك أن مختارات أخرى نُشرت بالإيطالية لكتاب وشعراء من غزة خلال الفترة نفسها لم تحصل على ذات القبول.

ويذكر هنا أن دور النشر الإيطالية طالما حاولت الاستثمار في اللحظات الجيوسياسية الفارقة في المنطقة على غرار الربيع العربي، إلا أن أشعار الربيع العربي الصادرة قبل سنوات مثلا عن دار كبرى كـ"موندادوري" لم تحقق أي نجاح يذكر لا الصعيد الجماهيري ولا على الصعيد النقدي بالرغم من محاولات الحشد الأكاديمي الذي رافق تلك الأشعار، مما يجعلنا هنا أمام ظاهرة حقيقية لإصدار شكل طفرة في الشعر العربي المترجم إلى الإيطالية. ولأنه لا يرتبط بالأكاديميا، فهو بالتالي لا ينهل من معين الاستشراق الجديد في إيطاليا ودوائر ترويجه السخية بالدعم المالي.. فما سر هذا الإصدار؟

مصدر الصورة الإيطالي كلاديو دامياني فخور لأن نصوصه وشعراء غزة تصدر عن ذات الدار "فازي" (مواقع التواصل)

معجزة غزة الشعرية بقلب إيطاليا

يخبرني الشاعر الإيطالي كلاديو دامياني (عام 1957) قبل أشهر في معرض حديثه عن الإبادة في غزة "صديقي الممثل جوزيبي تشيديرنا يقوم حاليا بجولة يقرأ فيها نصوص "صراخهم من صوتي". ويضيف بحزن "هذه الإبادة تجرحني كأنها سكين ينغرس في صدري يوما بعد يوم" ليستطرد بعدها "أشعار غزة هذه بالمناسبة صدرت عن "فازي" وهو أيضا ناشري". يقول دامياني -وهو أحد أبرز شعراء إيطاليا المعاصرين- وكأنه يشعر بالفخر لأن نصوصه ونصوص شعراء غزة تصدر عن ذات الدار.

إعلان

ولم يكن دامياني وحده هو من حدثني عن الكتاب بذات التقدير، فها هو الشاعر أليساندرو كانافالي (عام 1979) يتحدث بحماس عن تحضيراته لتقديم أمسية في "ملبينيانو" رفقة نخبة من شعراء الجنوب الإيطالي تتمحور حول ما أصبح يعرف باسم "كتاب فازي" في الأوساط الشعرية المناصرة لفلسطين.

وها هو الشاعر لوكا كراستولا (عام 1974) يؤكد ضرورة تحرير خطابات مثقفي الغرب من النظرة الاستشراقية ويستشهد لي بحيدر الغزالي، هكذا بكل انسيابية. فتوقفتُ قليلا أمام هذا الاسم العربي القح ولاحظ لوكا ارتباكي "حيدر الغزالي.. شاعر غزة المترجم في كتاب فازي". وهنا قررت أخيرا أن أقتني "صراخهم من صوتي" لأفهم معجزة هذا الكتاب الذي تمكن من التغلغل بكل هذا الصدق في الوجدان الإيطالي.

مصدر الصورة عشرات الكتب في إيطاليا التي صدرت خلال العامين الماضيين تتبرع كليا أو جزئيا بأرباحها لغزة

أنطولوجيا تكسر حصار اللغة

تناولت بفضول الكتاب الذي أتى بشريط أصفر على الغلاف "تُمنح 5 يورهات عن كل نسخة مقتناة لدعم نشاطات منظمة إيميرجينسي الصحية في قطاع غزة". ولكني مجددا لم أشتبه أن هذا هو سبب النجاح الكبير للعمل، فقد صدرت عشرات الكتب في إيطاليا خلال العامين الماضيين تتبرع بشكل كلي أو جزئي بأرباحها لغزة.

ويقع الكتاب في 140 صفحة من القطع المتوسط، تحتل فيها مقدمة إيلان بابيه، ومداخلتي سوزان أبو الهوا وكريس هيدجز مساحة هامة. وكذا كلمة مترجم النصوص الشعرية للمختارات وهو الموسيقي الفلسطيني نبيل سلامة. ولكن ما كنت أبحث عنه هو مقدمة المشرفين على العمل الذين لم أسمع بهم من قبل، ولفتني في الصفحة الأولى الترويستين اللتين اختاروهما للأنطولوجيا: بيت شعري لمحمود درويش لا يُستشهد به عادة في السياقات الإيطالية "سيمتد هذا الحِصار إلى أن نعلّم أعداءنا نماذج من شعرنا الجاهلي". ولم تتوقف الخيارات غير المألوفة في الكتاب هنا، فالترويسة الثانية أتت للقس الفلسطيني منذر إسحاق راعي الكنسية اللوثرية في بيت لحم، مقتطفة من عظته لعيد الميلاد 2023.

ومباشرة بدأت في التقليب على الإنترنت على بيوغرافيا هذه الأسماء الجديدة ذات الخيارات الفريدة في تقديم الأدب العربي في إيطاليا. واعتقدت لوهلة أن هناك تشابه أسماء بين ما يفترض أنهم مستعربون جدد وبعض ممثلي السينما أو نجوم الكرة حيث كانت صور كل واحد منهم صالحة بالفعل للنشر على مجلة "جي كيو" (GQ)… والواقع أنني لم أكن سوى أمام جيل زد من الباحثين الإيطاليين في الشأن العربي: أنطونيو بوكينفوزو (عام 2002)، ماريو سولداييني (عام 2000)، ليوناردو توستي (عام 2002).

وقد اختار هؤلاء نصوص 6 شعراء من غزة هم: هند جودة، نعمة حسن، يوسف القدرة، هبة أبو ندى، حيدر الغزالي، رفعت العرعير. ووزعوها ببراعة وبعدد أبيات مختار لكل شاعر على أساس الوقع المراد تركه على القارئ، إذ لم تلتزم الأنطولوجيا بالترتيب الأبجدي "الدبلوماسي" للشعراء والذي تلتزم به عادة أغلب المختارات.

ومع تنويه إلى أن كل النصوص نشرت على الشبكة بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وديسمبر/كانون الأول 2024. وباستثناء هبة أبو ندى (التي استشهدت في أكتوبر/تشرين الأول 2023) ورفعت العرعير (الذي استشهد في ديسمبر/كانون الأول 2023) "فإن كاتبات وكتاب هذا العمل لا يزالون يكافحون من أجل البقاء، وهم تحت الحصار في غزة".

إعلان

وبالرغم من محورية النصوص القادمة مباشرة من غزة فإن معدي الأنطولوجيا لم يغفلوا شعراء الداخل والشتات الفلسطيني. وهكذا كانت نصوص دارين طاطور (عام 1982) أساسية لمنح القارئ خلفية عن معاناة الفلسطيني ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى وهو يعيش داخل حدود عام 48، ومثلها مروان مخول (عام 1979) بالإضافة إلى الشاعر الغزي المقيم بالولايات المتحدة يحيى عاشور (عام 1998) وقصيدة قوية عن نفاق الغرب: هذا العالم الأبيض الذي لم يعد يؤمن بالمسيح يناشدك بغزة بكلماته "أعطهم خدك الآخر".

وبعد أن افتُتح العمل بقصيدة مؤثرة لهند جودة، عادت أصوات غزة لتصدح من السماء مع الشهيدة هبة أبو ندى وقصائدها الأخيرة: معتم ليل المدينة إلا من وهج الصواريخ، صامت إلا من صوت القصف، مخيف إلا من طمأنينة الدعاء، أسود إلا من نور الشهداء، حيث تميزت أشعار الشهيدة بلمسة روحانية فارقة نقلها المترجم الفلسطيني نبيل سلامة إلى الإيطالية بكل عذوبتها وشعريتها دون مواربة.

وإن ختمت المجموعة بالنص الأيقوني للشهيد رفعت العرعير "فليصبح موتي حكاية" فقد شكلت نصوص حيدر الغزالي (عام 2004) قلب العمل بـ15 نصا منح أحدها عنوان المجموعة: ينتفض الشباب الحر في الجامعات، فلن ينجح أبدا من يرسب في اختبار الانسانية، اليوم يظهر العالم عدالة ما، إنسانية ما، صراخه من صوتي، ودمه من دمي، يغلي ككف طفلة مبتورة على الأرض، نحن عالم جيد، محكوم بشياطين البياض، لمَ لا نصير عالما واحدا، لمَ لا نكبر سوية، صوتي صوتكم ودمي إن كان يزيدكم غضبا صار الآن لكم.

جيل جديد يكسر قيود الترجمة

وبينما أنا غارقة في أفكاري حول هذه النصوص، تصلني رسالة على واتساب "هل ترغبين في تقديم كتاب فازي رفقة فابيو سيباستياني؟" تدعوني الشاعرة الإيطالية إيلاريا جوفينازو (عام 1979) إلى مهرجان فلسطين بروما في سبتمبر/أيلول. أخبرها أنني لابد أن أعود له بشكل ما. يرسل لي الشاعر برتولميو بيلانوفا (عام 1965) لاحقا صورا وفيديوهات من الحدث الذي انشغلت عنه بالدخول المدرسي، أشكره بصدق "كنت أعلم أنها ستبهجك" كما يرد بمحبة.

وأُصغي للقصائد، أتأمل الصور. ومن بعيد، على المنصة، كان يجلس بهدوء العارفين أحد المشرفين على العمل. وأبعد، أبعد من كل المسافات، كان يقف حيدر الغزالي بكل ألقه وعزّه، هناك في غزة، لكنه بيننا بنصوصه التي تنبض بالحياة وتتوهّج كالجمر. وتحيط بها روحانية صادقة، يخترقها عنفوان المقاومة، ويهمس في طياتها شجن العشّاق.

ولم يكن مجرد عمل فني، بل ولادة نادرة: الإصدار الفلسطيني الأكثر تأثيرًا وحيوية منذ عقود، وُلد بين غزة وإيطاليا، على يد جيل لا يعرف المساومة ولا الخوف ويقاوم بذكاء وحوش النيوليبرالية.

وقد لا يدرك ثورية هذا العمل من لم يطلع على ما سبقه من نتاج ترجمي فرض فيه المستشرقون الجدد من جيل إكس وجيل الألفية، رقابة (ناعمة) عمدت لتحجيم الهوية الفلسطينية وإرغامها على الانحشار ضمن حدود أيديولوجية ضيقة، وظهر ذلك جليا من خلال تحييد كل الإشارات الروحانية والدينية بمكونيها المسيحي والاسلامي في النتاج الأدبي الفلسطيني، وحيث لم يسمح على مدى عقود بتمريرها إلا بشكل كاريكاتيري وتسخيفي، أو ضمن ترجمات مخفّفة منزوعة الزخم. ليأتي ثلاثة من شباب "جيل زد" ويحرروا القارئ الإيطالي من قيود الاستشراق الجديد وإكراهات "شياطين البياض" التي فُرضت على الشعر الفلسطيني مترجما.

مصدر الصورة "في وجه جالوت" للخبير الاقتصادي غابرييلي غوزي والفيلسوف جيمينيلو بريتيروسي (الجزيرة)

جيل زد وثورة الوعي الفلسطيني

وتضعنا الرؤيا الواضحة لمعدي الأنطولوجيا إلى ما يطلق الباحث الإيطالي فرانتشيسكو تييري عليه "النقد النيو محدث للحداثة" في معرض تعقيبه على كتاب "في وجه جالوت ـ بيان من أجل الديموقراطية السيادية" (عام 2020) للخبير الاقتصادي غابرييلي غوزي والفيلسوف جيمينيلو بريتيروسي، وذلك من أجل "تجاوز النيوليبرالية حيث فشلت.. انطلاقا من وعدها الذي لم تتمكن من الإيفاء به في تحرير الأفراد". فبعد ذلك "الوعد التحرري" هل أصبحنا فعلا أكثر حرية بعد 30 سنة؟ يتساءل الإيطاليون ممن عاشوا أوهام الأيديولوجيا وتقلباتها.

إعلان

وهنا يظهر تحول هام في الفكر الغربي المعاصر يرصده الكاتبان في عملهما ويسميانه "خطر التطرف النيوليبرالي الذي يغذيه شعور متجدد بمناهضة الدين من أجل تشتيت الانتباه عن الإخفاق الذي لا يمكن لأحد أن ينكره لهذه الأيديولوجية وإيعاز فشلها التحرري إلى الأخطار المتوهمة الناجمة بحسبها عن عدم اكتمال عملية العلمنة المطلقة للمجتمعات".

وفي المقابل يرى غوزي وبريتيروسي أن الفكر الديني من شأنه أن يلعب دورا هاما في إعادة تشكيل "رؤية أكثر اتساعا للحاضر وللإنسان المعاصر" وذلك من أجل إعادة تشكيل ذلك المعنى المفقود في نقد النيوليبرالية والتي لا يُنظر إليها فقط على أنها براديغم (نموذج فكري) سياسي واقتصادي، بالرغم مما "تعجّ به من صور، ورموز، وأساطير، ورؤى قويّة" تغذي "حلم التحرر الشامل" الذي لم يتحقق قط.

وهكذا شهدنا في هذه الأنطولوجيا تبلور أفكار جيل جديد من الباحثين الغربيين ممن نفضت غزة عنهم أوهام الأيديولوجيا، لنشهد معهم على بداية سقوط آلة الاستشراق الجديد في إيطاليا خلال العامين الماضيين. وهي ماكينة حاولت أن تُعيد إنتاج أكاذيب المستعمر ذاتها، لأرض بلا شعب ولا هوية ولا دين.

وها هي غزة تشهد على ولادة جيل إيطالي جديد من المثقفين، يتدفق في عروقه دم الأحرار. وقد سمعوا صرخة "جيل زد" الفلسطيني فتبنّوها بأمانة، وجعلوها صدىً لأصواتهم: صوت مقاومة لا يلين، وحق لا يموت، وهوية لا تستكين. فهل سيكون جيل زد هو جيل الاستقلال، وجيل تفكيك الاستعمار.. لا في فلسطين وحدها، بل في كل بقعة من هذا العالم؟

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار