آخر الأخبار

كريستيان سنوك هورغرونيه.. المستشرق الذي دخل مكة متخفيا تحت اسم عبد الغفار

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في القرن الـ19، وُلد طفل هولندي وسط قصة عائلية تحمل وصمة الهروب والعار، طفل كان اسمه كريستيان سنوك هورغرونيه ، وسرعان ما أصبح الاسم الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الاستشراق الهولندي.

ولد كريستيان سنوك هورغرونيه في هولندا عام 1857 في مدينة أوسترهوت جنوب هولندا، وبدأ رحلته الأكاديمية في جامعة لايدن عام 1874 طالبا في علم اللاهوت. حصل على الدكتوراه عام 1880 عن أطروحته "احتفالات مكة"، وسرعان ما أصبح أستاذا في معهد تدريب موظفي الخدمة الاستعمارية الهولندية عام 1881، حيث بدأ اهتمامه بالثقافات الإسلامية والعالم العربي.

كان هورغرونيه يتقن العربية بطلاقة، وهو ما أهله لاحقا للقيام بمهمة غير مسبوقة في التاريخ الغربي تتمثل في السفر إلى مكة، المدينة المقدسة، بوصفه مستشرقا متخفيا، لدراسة حياة المسلمين عن قرب.

منذ شبابه، لم يكن الرجل شغوفا فقط باللاهوت واللغة العربية، بل كان مفتونا بعالم الإسلام لدرجة قادته لاحقا إلى قلب مكة، متخفيا تحت اسم عبد الغفار اللايدني "نسبة لمدينة لايدن الهولندية". هناك، عاش بين الحجاج، التقط صورا سرية للكعبة، وأخفى هويته بمكر وجرأة، في مغامرة أقرب إلى قصص الجواسيس منها إلى حياة باحث أكاديمي.

خطة الخارجية الهولندية

بعد ثوران بركان كراكاتوا في إندونيسيا عام 1883، خشيت السلطات الهولندية من ثورة إسلامية في جزر الهند الشرقية الهولندية. فكر القنصل الهولندي في جدة، يوهان كرويت، في فكرة جريئة، وهي إرسال جاسوس هولندي يتسلل إلى مكة ليتجسس على الحجاج الإندونيسيين هناك.

في أثناء ذلك، كان هناك شاب هولندي يدعى كريستيان سنوك هورغرونيه منشغلا بأطروحته عن الإسلام في جامعة لايدن. لم يكن يعلم أن شغفه الأكاديمي سيقوده إلى أكثر مغامرات حياته جرأة وخطورة. فبينما كان يكتب، جاءه العرض غير المتوقع من الخارجية الهولندية، أن يسافر إلى الجزيرة العربية، لا بصفته باحثا فقط، بل جاسوسا متخفيا في أقدس مدينة على وجه الأرض، وهكذا وجد نفسه وسط الحجاج، يشاركهم الشاي والتراتيل والرحلة المقدسة، وهو في الحقيقة يدون كل شيء لحكومته.

مصدر الصورة "أطلس لصور من مكة" تجميع كريستيان سنوك هورغرونيه (مكتبة قطر الوطنية)

الخطة حيكت بعناية في دهاليز وزارة الخارجية الهولندية، وسرعان ما وجد هورغرونيه نفسه في جدة، بوابة الحرمين. هناك، مارس طقوس الدبلوماسية الصغيرة، فناجين شاي، تبادل هدايا، كلمات عربية منمقة، وانحناءات تحفظ ماء الوجه. لكن خلف هذه المجاملات كان يترصد الحجاج القادمين من بلاده، محاولا أن يكتشف إذا كانت تزرع بينهم بذور الثورة.

إعلان

ولد كريستيان في أسرة كنسية مطبوعة بالفضيحة، والده قسيس هرب مع ابنة قس آخر، تاركا زوجته الحامل. كبر الفتى بين ظلال الخطيئة ووصمة العار، لكنه حمل شغفا بالمعرفة. درس اللاهوت أولا، ثم انجذب إلى العربية والإسلام، حتى غاص فيهما كأنه يبحث عن هوية بديلة.

"حياته الخاصة كانت صورة أخرى من الاضطراب. تزوج أكثر من مرة، أنجب أبناء تركهم خلفه في الشرق، ثم عاد إلى لايدن أستاذا للغة العربية، باحثا عن حياة أكثر هدوءا. لكن النهاية لم تخل من المفارقة: ففي يونيو/حزيران 1936، دفن وفق الطقوس الإسلامية، بعيدا عن عائلته، ليظل موته انعكاسا لمسيرة عاشها بين هويتين، بين الشرق والغرب، بين البحث والخيانة، بين الأكاديمية والتجسس".

هكذا قدمه الكاتب والصحفي الهولندي فيليب دروغي في كتابه "الحاج، حياة ورحلات كريستيان سنوك هورغرونيه" لا بوصفه باحثا عاديا، بل رحالة غامضا، عاش على الحافة، وترك وراءه سيرة تشبه الحكاية أكثر من كونها مجرد تاريخ.

"عبد الغفار" جاسوس في مكة

يوم 28 أغسطس/آب 1884، وصل الشاب الهولندي سنوك (27 عاما) إلى جدة، ليقوم بمهمة مزدوجة، البحث الأكاديمي والتجسس لصالح الحكومة الهولندية. كانت مهمته مراقبة الحجاج الإندونيسيين القادمين من آتشيه وجاوا، ودرس علاقاتهم بعلماء مكة خشية أن يقودوا انتفاضات ضد الاستعمار.

لتجاوز القيود الدينية الصارمة، تبنى هورغرونيه اسما عربيا "عبد الغفار"، وكانت الخطوة الثانية هي خضوعه للختان على الطريقة الإسلامية وذهب أبعد من ذلك بأن اقتنى عبدا مرافقا كعادة أثرياء الحجاج في ذلك الزمان حتى لا يشك أحد في صدقه. أيضا درس الطقوس والعادات الإسلامية بدقة فائقة، حتى كسب ثقة الحاكم عثمان باشا والقضاة والعلماء المحليين. في 21 يناير/كانون الثاني 1885، حصل على إذن دخول مكة، حيث قضى 7 أشهر يشارك السكان صلواتهم وطقوسهم، ويلتقي العلماء والمفتين والسكان العاديين.

مصدر الصورة صورة فوتوغرافية مطبوعة للكعبة الشريفة، يعود تاريخها إلى 1881 (مكتبة قطر الوطنية)

حمل معه كاميرا وزنها 40 كجم، صور بها الكعبة والمسجد الحرام وأجزاء من المدينة، وسجل أول تسجيل صوتي معروف لتلاوة القرآن "سورة الضحى" وأرسل هذه الوثائق النادرة إلى مكتبة جامعة لايدن، لتصبح مرجعا فريدا للمجتمع المكي والعمارة والممارسات الدينية.

يروي معاصروه سرعة اندماجه في مجتمع مكة بأنه كان يجلس على البسط الشرقية، ويردد التحايا بالعربية، ويشارك جيرانه الطعام والقصص. كان يتقن لعبة الأقنعة حتى كاد يصدق أنه واحد منهم، لكن خلف هذا المجد العلمي، ظلت الحقيقة أن الرجل الذي حمل اسم "عبد الغفار" لم يكن حاجا تائبا، بل عينا مستشرقة تراقب وتدون، وأن مكة التي دخلها يوما لم تدخل قلبه كما دخلت دفاتر مخابراته.

في ليلة حارة في صيف 1885 ميلادية 1302 هجرية، وسط الزحام الخانق للحجاج في مكة، يسير رجل نحيل الملامح، يطأ أرض الحرم بخطوات مترددة. لا أحد يعلم أن خلف عباءته البسيطة يختبئ جاسوس هولندي جاء من مدينة لايدن البعيدة واسمه الحقيقي كريستيان سنوك هورغرونيه، لكن الحجاج يعرفونه باسم آخر هو "عبد الغفار اللايدني".

إعلان

يحمل الرجل كاميرا صغيرة مخبأة في زر معطفه، يرفعها خلسة ويلتقط صورا للكعبة، صورا ستجعل منه لاحقا أحد أكثر المستشرقين إثارة للجدل في أوروبا. لم يكن مجرد باحث، بل كان مغامرا، متخفيا، يتقن فنون التمويه والاندماج. نجح هورغرونيه في التقاط عديد من الصور لمكة ونجح أيضا في تسجيل أول تلاوة للقرآن الكريم -سورة الضحى- من داخل مكة عبر إسطوانات الشمع ويوجد التسجيل الآن في جامعة لايدن الهولندية.

بين الخيانة والضرورة

تسببت طريقة دخوله مكة في جدل واسع. وصفه البعض بأنه خائن ومتظاهر بالإسلام، بينما دافع آخرون عنه، معتبرين أن ذلك كان السبيل الوحيد لدخول المدينة. كما لفت الانتباه أنه، رغم اندماجه في المجتمع المكي، اعتبر العرب في رسائله ضيقي الأفق، مما يعكس ازدواجية موقفه بين البحث العلمي والاستخبارات السياسية. يقول الباحث الباكستاني الراحل قدرة الله شهاب: "لقد عاش (هورغرونيه) في مكة باسم إسلامي مزيف، ودخل الحرم رغم أن دخوله محرم على غير المسلمين، وألف كتابه ’مكة‘ عن حياة المكيين. هذه الأعمال خلقت صورة نمطية مشوهة للمسلمين بأنهم شهوانيون وفوضويون".

وفي المقابل، يدافع عنه المؤرخ الهولندي إل آي غراف بقوله: "لم يكن أمام سنوك هورغرونيه أي وسيلة لدخول مكة سوى أن يصبح مسلما في نظر السكان".

دار الإسلام مقابل دار الحرب

درس هورغرونيه العلاقة بين المسلمين والاستعمار، مركزا على مسألة دار الإسلام ودار الحرب، ورأى أن الأراضي مثل الهند البريطانية وجزر الهند الشرقية الهولندية تقع نظريا ضمن دار الإسلام، لكنها تدار من قبل غير المسلمين.

وكانت آراؤه تختلف عن وليام هانتر، الذي اعتبر أن تمرد المسلمين في الهند غير شرعي دينيا. بينما رأى هورغرونيه أن الفتاوى والقوانين الإسلامية لا يمكن تبسيطها سياسيا بهذا الشكل، وأن المسلمين يمكن أن يتصرفوا وفق ما تفرضه الظروف السياسية والقدرة على المقاومة.

يقول هورغرونيه: "كل الأراضي الواقعة خارج حدود دار الإسلام هي دار حرب بالكامل، ومقدرة لأن تتحول بالقوة إلى دار الإسلام بمجرد توفر الظروف. والوثنيون الحقيقيون يجب أن يعتنقوا الإسلام، أما من يعتنق ديانات معترف بها في الشريعة فيقيد باعترافه بسلطة الدولة الإسلامية".

مصدر الصورة الملك سعود في زيارة لجامعة لايدن وبرفقته المستشرق هورغرونيه (على يمين الملك) (مكتبة جامعة لايدن)

الجهاد والحرب العالمية الأولى

في 1915، نشر مقاله "الحرب المقدسة المصنوعة في ألمانيا"، مشيرا إلى أن إعلان الجهاد عام 1914 كان نتيجة تأثير المستشرقين الألمان والقوى الأوربية، وليس قرارا داخليا للمسلمين.

رأى الجهاد كظاهرة عصور وسطى انتهت عمليا مع الثورة الدستورية التركية عام 1908، وأن "عبادة الخلافة" والجهاد تعود للظهور فقط تحت ضغط القوى الأوروبية. وكتب: "ما دام أن معلمي الإسلام لا يعتبرون قوانين العصور الوسطى منسوخة، ويصر الناس على استعادة أحوال القرون الماضية، يظل من المستحيل استبعاد الجهاد عند تقييم علاقة الإسلام بالأديان الأخرى".

دور في السياسة الاستعمارية في آتشيه

بعد مكة، أصبح هورغرونيه مستشارا للحكومة الهولندية في جزر الهند الشرقية، ولعب دورا محوريا في حرب آتشيه 1914-1973 واستخدم معرفته بالثقافة الإسلامية لاستمالة النخب المحلية، وتقليل المقاومة المسلحة، مع التركيز على التجسس المنظم والسيطرة على النخب، بدل القمع العنيف المباشر.

بعدها عاد إلى هولندا ليشغل كرسي التدريس في جامعة لايدن، ودرّس العربية ولغة الآتشيه والتربية الإسلامية، وواصل نشر أبحاثه التي جعلته المرجعية الأولى عالميا في الدراسات الإسلامية والعربية.

ظل مستشارا إصلاحيا، داعيا إلى زيادة الحكم الذاتي للسكان المحليين عبر التعليم الغربي، وتحطيم مفهوم "النقص الأخلاقي والفكري للسكان الأصليين"، داعيا لإدماجهم في مؤسسات ديمقراطية تمثيلية، لكن مقترحاته واجهت مقاومة العناصر المحافظة، التي أسست مدارس بديلة لموظفي الخدمة الاستعمارية.

النهاية.. جنازة بلا وداع

في يونيو/حزيران 1936، أسدل الستار على حياة كرستيان سنوك هورغرونيه، إذ مات في لايدن، تاركا إرثا معقدا يجمع بين البحث العلمي، والتجسس، والسياسة الاستعمارية، والإصلاح الفكري، وصورة لا تنسى في تاريخ الدراسات الإسلامية والغربية على حد سواء، لكن جنازته حملت مفارقة مذهلة، إذ دفن وفق الشعائر الإسلامية، في قبر بسيط خلال 24 ساعة فقط، بلا حضور زوجته ولا ابنته. حضر صديق واحد فقط، كما أوصى. كأنه أراد أن يظل حتى آخر لحظة "المسلم المتخفي" الذي عاش بين عالمين، ولم ينتم تماما لأي منهما.

إعلان

هكذا يظهر هورغرونيه في كتاب "الحاج" لفيليب دروغي، بأنه لم يكن مجرد أكاديمي، بل رجلا قصته تشبه رواية تجسس، عالقا بين الإيمان والخداع، بين الشرق والغرب، بين العلم والسياسة. رجل دخل مكة باسم "عبد الغفار"، وخرج منها باسم سيظل يثير الجدل لقرون.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار