في لحظة مأساوية من تاريخ السودان، حيث الحرب والنزوح وتصدع الحياة اليومية، ودّع السودان اليوم صوته الكبير الدكتور عبدالقادر سالم (79 عاماً)، بعد مسيرة فنية امتدت لأكثر من أربعة عقود، شكل خلالها علامة فارقة في الغناء السوداني، محفورة في الوجدان الوطني، ومتصلة بجذور الأرض والهوية.
يأتي رحيله بينما تعيش كردفان، التي طالما غنّى لها ومنها، واحدةً من أقسى فصولها الإنسانية.
وُلد سالم عام 1946 في مدينة الدلنج بولاية جنوب كردفان، وقضى فيها جزءاً كبيراً من حياته. بدأ حياته المهنية معلماً، قبل أن يستسلم لشغفه بالموسيقى، فالتحق بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح عام 1970، حيث نال البكالوريوس، واستكمل دراساته العليا، فحصل على الماجستير عام 2002 عن الغناء والموسيقى لدى قبيلة الهبانية، ثم الدكتوراه عام 2005 عن الأنماط الغنائية في إقليم كردفان ودور المؤثرات البيئية في تشكيلها.
لم يكن عبدالقادر سالم مجرد مطرب، بل كان حاملاً لخصوصية ثقافية فريدة، حوّل إيقاعات كُردفان ومفرداتها إلى لوحة فنية غنائية متفرّدة، جعلت حضور الإقليم ملموساً في المشهد الموسيقي الوطني. ظل وفياً لأرضه، لا بوصفها مجرد جغرافيا، بل كذاكرة حية وقيم وأسلوب حياة، منحها صوته وعلمه الموسيقي عمقاً وانتشاراً لا مثيل له.
وقال الموسيقار الدكتور كمال يوسف لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت" إن سالم كان قامة فنية سامقة، ترك بصمة خالدة في الموسيقى السودانية، ومثّل طيفاً واسعاً من الثقافة السودانية. لم يكتفِ بتعريف السودانيين داخل البلاد بأنماط الموسيقى الشعبية، بل حمل تراث الإقليم إلى مختلف أنحاء العالم، من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأميركية واليابان.
وقدّم موسيقى "الجراري" و"المردوم" و"الشاشاي" وأنماطاً متعددة من الأداء والإيقاعات بصورة رصينة وراقية، جرى توثيقها في تسجيلات أرشيفية خالدة.
وأضاف الدكتور يوسف أن إسهامه لم يقتصر على الأداء الفني، بل امتد إلى التوثيق الأكاديمي، نال بموجبه درجتي الماجستير والدكتوراه، وأصدر كتاباً مرجعياً لكل من يرغب في استكشاف تراث الغرب الأوسط بالسودان، خاصة في إقليم كردفان، وصولاً إلى دارفور.
ومن أبرز أغانيه التي ارتبطت بالوجدان الشعبي: "مكتول هواك يا كردفان"، "عمري ما بنسى"، "جافاني"، "بسامة"، و"المريود"، التي شكلت أيقونات موسيقية تعكس أصالة التراث وعمق الطرب السوداني.
ولم تكن عبقرية سالم الفنية منفصلة عن إنسانيته وحضوره الاجتماعي. قال الصحافي البارز محمد عبدالماجد لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت" إن سالم نقل تراث وأغنية غرب السودان إلى العاصمة ووسط البلاد، في زمن كانت فيه تلك التيارات الغنائية الطاغية مسيطرة، مميزاً عن غيره بأنه قدم هذا التراث مشفوعاً بالبحث والدراسة الأكاديمية، ثم حمله إلى آفاق أرحب في أوروبا والولايات المتحدة، ليكون صوت السودان مسموعاً خارج الحدود.
وأضاف أن الراحل جمع على الدوام بين الطرب الخالص والتراث والدراسة الأكاديمية، وحافظ على حضور دائم بين زملائه الفنانين، بينما نجح أيضاً في الإدارة الفنية، خاصة خلال فترة شغله منصب نقيب الفنانين السودانيين. ولم يتوقف جهده بعد مغادرته المنصب، فظل حاضراً في "المنابر والمقابر والمسارح والتلفزيون والإذاعة"، في ساعات الفرح والحزن، وفي أوقات النصر والمحنة، ليظل صوتاً حاضراً على الدوام، ورمزاً للقومية والسلام والوحدة في السودان.
وبرحيله، يخسر السودان واحداً من الأصوات التي جمعت بين الأصالة والتجديد، المحلية العميقة، والأفق الوطني الواسع. وفي زمن تتكاثر فيه الخسارات، يبدو فقدانه مضاعفاً، إذ يغيب من كان قادراً على مداواة وجع الأمة بالغناء، وتثبيت الذاكرة في وجه النسيان.
ويمضي عبدالقادر سالم، لكن إرثه الموسيقي وتراثه سيبقيان منارة للأجيال القادمة، كفنان آمن بأن الوفاء للأرض يمكن أن يكون مشروعاً فنياً، وصوتاً لا ينطفئ.
المصدر:
العربيّة