في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بعباءات طويلة وأقنعة تشبه رؤوس الطيور ذات المناقير البارزة، كان أطباء الطاعون يجوبون الشوارع حاملين عصا خشبية في مشهد غامض أثار الرعب والدهشة في أوروبا خلال القرن 17.
تعامل الناس مع طبيب الطاعون بزيه المخيف كنذير شؤم، حتى أطلق عليه البعض "رسول الموت"، قبل أن يتحول هذا الزي لاحقا إلى أيقونة تذكّر بواحدة من أحلك فترات التاريخ الأوروبي. ولكن لماذا ارتدى الأطباء أقنعة الطيور أثناء الموت الأسود؟ ما الغرض من تصميمها؟
اجتاح الطاعون الدبلي المعروف أيضا باسم "الموت الأسود" أوروبا في منتصف القرن الـ14 الميلادي، موديا بحياة ما يقرب من ثلثي السكان في القارة (نحو 50 مليون شخص) وما بين 75 إلى 125 مليونا حول العالم، ليصبح أكثر الأوبئة فتكا في تاريخ البشرية، ولم يكن للأطباء خلال القرون الأولى لتفشي الطاعون في أوروبا بين عامي 1348 و1619، زي خاص يحميهم من خطر العدوى، فكان كثير منهم يصابون بالمرض أو يفرون من المدن.
وفي عام 1619، أي بعد حوالي 3 قرون من ظهور الوباء، ابتكر الطبيب الملكي الفرنسي، شارل دي لورم، زيا خاصا مصنوعا بالكامل من جلد الماعز، يضم معطفا طويلا يصل إلى الكاحل وقناعا على شكل طائر وقفازات وأحذية وقبعة، ليعد واحدا من أقدم أشكال معدات الوقاية في التاريخ، وسرعان ما انتشر هذا الزي بين أطباء أوروبا، اعتقادا بأنه يوفر حماية من وباء قاتل لم تكن طبيعته مفهومة.
وقد أسهمت لوحة شهيرة لفنان النقش الألماني جيرهارت ألتزينباخ عام 1656، في ترسيخ صورة طبيب الطاعون بزيه الذي زاد من مخاوف الناس وقت معاناتهم، إذ أظهرته كاملا مع وصف كل قطعة منه ودوره في حماية مرتديه من الموت.
ويتكون الزي الكامل، الذي يغطي طبيب الطاعون من الرأس إلى أخمص القدمين من:
كان القناع أكثر مكونات الزي لفتا للانتباه، إذ صُمم بمنقار طويل يبلغ نحو نصف قدم (15 سم)، مع عدسات زجاجية دائرية للرؤية، ومزود بفتحتين صغيرتين، واحدة على كل جانب بالقرب من فتحتي الأنف للسماح بدخول الهواء.
لم تكن الأقنعة بمثابة عازل بين الأطباء والمرضى كما قد يخيل إليك، إذ قبل اكتشاف نظرية جرثومية المرض، لم يكن الأطباء على دراية بوجود ميكروبات مسببة للأمراض واعتقدوا حتى القرن الـ19 أن الأمراض تنتشر عبر "الميازما" أي الهواء الفاسد والروائح الكريهة المنبعثة من المواد العضوية المتعفنة، وقد لاقت هذه النظرية، المعروفة باسم نظرية الميازما، قبولا واسعا في أوروبا والصين.
أدى هذا المفهوم الخاطئ عن المرض إلى تصميم الأقنعة ذات المناقير، كحاجز بين الطبيب والهواء الملوث وحمايته من الميازما القادم مباشرة من المريض، وملأ أطباء الطاعون مناقيرهم الطويلة بأعشاب وأزهار نفاذة الرائحة، يُعتقد أنها تحجب أو "تصفي" الميازما، ومن أشهرها الخزامى والنعناع والشيح، أو بأسفنج مبلل بالخل أو الكافور.
كما ملأ بعضهم مناقيرهم بالترياق، وهو خليط يحتوي على أكثر من 55 عشبة ومكونات أخرى، بما في ذلك مسحوق لحوم أفاع مجففة وقرفة ومر وعسل، وكان يُعتقد أن هذه المواد أيضا تمتص الميازما كريهة الرائحة وتُنقي الهواء أثناء انتقاله عبر المنقار.
وتُعرض اليوم نسخة أصلية من قناع طبيب الطاعون في المتحف التاريخي الألماني في برلين كرمز لمرحلة حاول فيها الإنسان مقاومة الأوبئة والنجاة بإمكانات محدودة قبل تقديم الطب والعلم الحديثين حلولا أكثر فاعلية.
كان الزي يتضمن أيضا معطفا أسود طويلا يمتد من تحت القناع حتى أخمص القدمين ومغطى بأكمله بالشمع أو شحم البقر ليحول دون التصاق أي سوائل من جسم المريض به، إضافة إلى بنطال جلدي وقفازات من جلد الماعز لحماية الطبيب من لمس أي شيء قد ينقل العدوى.
كما كان طبيب الطاعون يكمل مظهره بقبعة جلدية عريضة الحواف، وكانت في الغالب مجرد إكسسوار شائع يرتديه الأطباء آنذاك كإشارة رسمية للدلالة على أن مرتديها يعمل كطبيب، أو مجرد جزء من الزي الطبي الشائع في هذه الفترة.
حمل طبيب الطاعون عصا خشبية يستخدمها لفحص المرضى أو توجيههم من مسافة آمنة دون ملامستهم أو لإبعادهم عند الحاجة في نوع من التباعد الجسدي القسري خاصة مع المرضى اليائسين، وفي بعض الحالات كان المرضى يطلبون جَلدهم بالعصا، اعتقادا بأن الوباء عقاب إلهي وأن الألم يخفف الخطيئة.
ومع أن هذا الزي كان شائعا في أنحاء أوروبا، فإنه انتشر على نطاق واسع وكان أيقونيا للغاية في إيطاليا لدرجة أن "طبيب الطاعون" أصبح شخصية مألوفة في الكوميديا الفنية الإيطالية والاحتفالات الكرنفالية، ولا يزال حتى اليوم ينتشر في الكرنفالات خاصة في مدينة البندقية.
وبشكل عام، لا يزال الطاعون موجودا حتى اليوم، ولكن تغير شكل الأقنعة وطرق الحماية جذريا، ومع ذلك لا يمكن القول بأن زي طبيب الطاعون كان عديم الفائدة تماما، فهو وإن كان ناتجا عن سوء فهم لطبيعة المرض، فمن المحتمل أنه نجح على الأقل في حماية الأطباء من رذاذ السعال في حالة الطاعون الرئوي، أو من الدم وسائل اللمف المتناثر في حالة الطاعون الدبلي، والأهم من ذلك، أن الجلد المشمع ربما كان يحمي من البراغيث، التي اتضح فيما بعد أنها الناقل الحقيقي للطاعون.
وبغض النظر عن فعاليته، يبقى هذا الزي شاهدا على بدايات معدات الوقاية الشخصية، ومحطة مهمة مهدت الطريق لتطور معدات الحماية التي يعتمد عليها الأطباء في عصرنا الحديث.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة