في زحام الأضواء التي تسطع فوق القطبين، حيث يحكم الأهلي والزمالك قبضتهما على المشهد الكروي المصري، هناك نجوم اختاروا دربًا مختلفًا، طريقًا وعرًا لكنه أكثر نقاءً، بعيدًا عن ضجيج الديربي ، وصخب الجماهير المنقسمة بين الأحمر والأبيض، هم أولئك الذين تحدّوا القاعدة، ورفضوا أن يكون المجد حكرًا على من ارتدى قميصي القلعتين، فكتبوا أسماءهم بأحرف من ذهب في سجلات الكرة المصرية دون أن يطرقوا أبواب الجزيرة أو ميت عقبة.
من ملاعب الأقاليم إلى المدرجات الصاخبة، من الفرق الطموحة إلى المنتخبات الوطنية ، صعد هؤلاء اللاعبون درجات المجد بعرقهم، فجعلوا الجماهير تهتف لهم رغم غيابهم عن معترك القطبين، حملوا شرف التحدي، وواجهوا إرثًا ثقيلًا يربط النجاح بألوان بعينها، فكسروا القواعد وغيّروا المفاهيم، وأثبتوا أن النجومية لا تُصنع فقط في مصانع الأهلي والزمالك ، بل قد تولد من شوارع المحلة، أو أسوار الإسماعيلي، أو على شواطئ الإسكندرية وبالقرب من ميناء بورسعيد، في شمال مصر وجنوبها، أو حتى بين جنبات أندية لم تعتد رفع الكؤوس، لكنها عرفت معنى صناعة الأساطير.
حينما يُذكر المقاولون العرب، ينهض من بين ظلال الماضي اسمٌ صنع المجد، وحفر في تاريخ النادي علامات لا تُمحى، إنه سعيد الشيشيني، الرجل الذي لم يكن مجرد لاعب، بل كان قائدًا على أرض الملعب، وحكيمًا على ضفاف الكرة، ومهندسًا لأحد أعظم أحلام الكرة المصرية.
في عصرٍ كانت فيه الألقاب تتداول بين الأهلي والزمالك، جاء جيلٌ ذهبيٌّ من المقاولون العرب، ليقلب موازين القوى، ويؤكد أن الكرة لا تعترف بالأسماء فقط، بل بالعزيمة والإصرار.
كان سعيد الشيشيني أحد هؤلاء الفرسان، الذين حطموا القواعد، وانتزعوا من فكيّ العمالقة لقب الدوري المصري موسم 1982-1983، ليصبح المقاولون أحد خمسة أندية فقط، تمكنت من الظفر بدرع البطولة بعيدًا عن القطبين.
في ذلك العام، لم يكن سعيد مجرد لاعب، بل كان روح الفريق، وعموده الفقري، وعقله المفكر في المستطيل الأخضر.
لم يكن الدوري وحده هو المسيرة المشرفة لهذا النجم، بل امتد تألقه إلى القارة السمراء، حيث قاد المقاولون العرب إلى حلم إفريقي لم يكن ليخطر على بال أشد المتفائلين.
فاز المقاولون ببطولة إفريقيا للأندية أبطال الكؤوس مرتين متتاليتين (1982 و1983)، على حساب باور ديناموز الزامبي وأجازا التوجولي، وكان الشيشيني أحد الركائز الأساسية لهذا الإنجاز، لاعبًا لا يعرف الاستسلام، وروحًا لا تنكسر تحت وطأة الضغوط.
في زمن كان فيه الهيمنة القارية حكرًا على فرق بعينها، أطلّ ذئاب الجبل بقيادة هذا الجيل الذهبي ليؤكدوا أن كرة القدم تُمنح لمن يُخلص لها، لا لمن يملك الاسم فقط.
لم يكتفِ سعيد الشيشيني بصناعة المجد داخل الملعب، بل امتدت بصيرته إلى ما هو أبعد، حيث لعب دورًا ربما يُعَدّ الأهم في تاريخ الكرة المصرية الحديثة.. إنه الرجل الذي رأى النور في أقدام محمد صلاح، حين كان مجرد فتى صغير يركض في قطاع ناشئي المقاولون العرب.
حين نظر الجميع إلى جسد صلاح النحيل، رأى الشيشيني في داخله وحشًا كاسرًا.. حين شكك البعض في مستقبله، آمن هو به.. وحين كان مجرد لاعب واعد، رآه نجمًا عالميًا يُشعل ملاعب أوروبا.
ما كان للعالم أن يعرف محمد صلاح كما هو اليوم، لولا عين الخبير الذي اكتشفه، ومدرب الناشئين الذي وضعه على أول طريق المجد.
سعيد الشيشيني لم يكن مجرد لاعب كرة، كان حكاية كفاح وإصرار، ورجلًا لم يعرف المستحيل. رفع الكؤوس، كسر احتكار القطبين، حمل المجد القاري، واكتشف نجمًا أضاء سماء الكرة العالمية.
ربما لا يتردد اسمه كثيرًا في الصخب الإعلامي، لكنه محفور في قلوب المقاولون، وعشاق الكرة الحقيقية، ومحبي النبوغ الكروي الذي لا تحده أسماء الأندية الكبرى.
سيبقى اسم سعيد الشيشيني خالدًا، ليس فقط في سجلات التاريخ، بل في كل ملعب خطا عليه، وكل جيل تتلمذ على يديه، وكل مصري يرى محمد صلاح اليوم، ويتذكر أن وراءه رجلًا آمن به، حين لم يفعل أحد.