رحل منذ أيام المخرج الكبير داوود عبد السيد، صاحب الأعمال الفنية التي أصبحت أيقونة لدى الجماهير من المتخصصين وعموم الجماهير على حد سواء، فقد استطاع أن يعبر إلى دواخل كلا الفئتين، فكان خبر رحيله بمثابة صاعقة لمحبيه.
رحيل خلف وراءه حالة من الحزن العميق، وذلك النوع من الحزن يتحايل عليه الناس بالرجوع إلى أعماله ومشاهدتها مرة أخرى وقراءة كل ما كتب عنه وما صرح به خلال سنوات حياته. ويُصنّف هذا الفعل كنوع من الرثاء الإيجابي الذي يعلي من قيمة من فقدنا حين يذكرنا بقدر ومقدار ما تركه من فن.
وقد فعلنا ما فعله جمهور داوود عبد السيد، فكانت لنا وقفة طويلة أمام أحد أهم الكتب التي تناولت الجانب الأبرز في حياته، وهو الجانب الفني وهو كتاب سينما الهموم الشخصية الصادر عن دار المرايا عام 2023 للكاتب والشاعر الأستاذ علاء خالد، الذي استطاع أن يغير من فكرة كتابة السيرة الذاتية التي تنصب دائمًا على الجوانب الشخصية، فتكون هي جوهر الكتاب. وهنا يكمن التحدي الأول الذي واجهه الكاتب حين قدم لنا نوعًا جديدًا ومختلفًا من السيرة، وهي قراءة أعمال داوود عبد السيد وتتبع رؤيته الفنية والإنسانية فيما قدمه للسينما المصرية.
في الجزء الأول من الكتاب، يصف لنا خالد أولى خطوات اللقاء الذي جمع بينه وبين داوود عبد السيد داخل قاعة السينما، التي دخلها خالد بأفكار المرحلة وخرج يحمل همومًا أخرى ربما أهم مما كان يشغله قبل أن يشاهد فيلم الصعاليك.
في هذا الجزء يصف الكاتب حالة جيل افتقد لفترة من الفترات الرؤية الفنية التي لا تعبر فقط عن المجتمع بمشكلاته الواضحة المرئية، التي لا تحتاج إلى تحديق. فقد استطاع أخيرًا أن يقدم داوود عبد السيد المشكلات الشخصية التي لا يستطيع المرء أن يعبر عنها بسهولة، وإذا بها هي المنبع لكافة أوجه المعاناة التي تتقلب بينها الأجيال ولا تنتهي.
يرصد خالد كيف يستطيع فيلم سينمائي بني على رؤية إنسانية وفنية عميقة، ومن ثم مختلفة، أن يستفز أفكارك ويحيي ذلك الناقد السينمائي القابع في قلب وعقل كل منا، خاصة إن كنت تحمل شعلة الإبداع على اختلاف المجال الذي تنتمي إليه.
يعمل الكاتب على وصف هذا الجزء باستفاضة وبتحليل دقيق يدفعك إلى أن تعيد مشاهدة أفلام داوود عبد السيد مرة أخرى، لكن يجب أن ننوه في هذا الجزء أن الكاتب لم ينكر أبدًا أو يتجاهل الصورة الذهنية التي يخرج بها جمهور السينما من الفيلم، وتحولت إلى قاعدة راسخة لديهم. بل على العكس، كانت تحليلاته ورؤيته تؤكد هذه الصورة الجماهيرية. الفارق الوحيد هنا هو تفكيك الفيلم وفق للزوايا التي يتكون منها، كصوت الراوي في السرد، ودلالة الأسماء، والصورة، والمكان والزمان.
لم يتحدث خالد عن داوود فقط، بل كان هناك العديد من المخرجين الذين ينتمون لنفس الجيل والذين قدموا أعمالًا كانت على نفس الدرجة من الرقي والإتقان، بل إنها حملت نفس القضايا والهموم، ولم يأتِ على ذكرهم للمقارنة بينهم. بل كان الهدف الواضح بين أسطر الكتاب، التي لم يفاضل فيها بين أحد، أن ذكرهم كان للتوضيح فقط، لتسليط الضوء على الاختلاف فيما بينهم في موضع محدد، ومن ثم ندرك ببساطة ما كان يميز سينما داوود عبد السيد.
يتتبع الكاتب مسيرة داوود عبد السيد بترتيب الأفلام في البداية، ثم يتغير هذا الترتيب وفقًا للنقاط التي يتحدث فيها والتي تستوجب الاستشهاد بهذا الفيلم أو ذاك، متحررًا من الترتيب الزمني. فيمكننا أن نقول إن الجزء الأول كان يصف الحالة العامة لأفلام داوود، ثم يبدأ في التفكيك، شارحًا دلالات ما قدمه داوود خلال هذه الأعمال.
يبحث فيما وراء الشخصيات والأحداث التي تعرضت لها، وهنا ندرك أهمية أن من يتحدث ويكتب ويشرح هو كاتب روائي لا تمر الشخصيات أمامه مرور الكرام، فلكل شخصية تاريخ ودور. كما أنه شاعر أيضا، والشعر صورة منطوقة، فقد استطاع خالد أن يوظف الشعر والأدب في خدمة ما يقدمه من سيرة فنية فتكون القاريء رغما عن إرادته وقفة للبحث عن طبيعة شخصية الكاتب علاء خالد وما يقدمه للقراء من ألوان أدبية مختلفة.
بالوصول إلى هذا الجزء، يتراجع الأديب والشاعر بداخل الكاتب خطوات إلى الخلف ليفسح الطريق أمام الصحفي علاء خالد ليبدأ الجزء الثاني من الكتاب، وهو عبارة عن حوارات صحفية جمعت بين الكاتب علاء خالد والمخرج داوود عبد السيد. تلك الحوارات تضمنت نقاطًا مختلفة في حياة عبد السيد، كان أبرزها الفني بالطبع، لكن كانت هناك مساحة للشخصي ترى منها جانبًا آخر من جوانب شخصية المخرج المعروف، الذي كان يعشق يوسف إدريس ولا يفضل نجيب محفوظ، رغم إيمانه العميق بصدق وقيمة ما قدمه.
ثم تشاهد منزل الطفولة، والثقافة التي كونت هذا الوعي والكيان، حتى خرجت الشخصية المرموقة التي عشقها الجمهور، وكيف ظل يرى نفسه الابن البار للطبقة المتوسطة، التي عبر عن همومها وظل يبحر بها إلى شواطئ الأحلام، رغْم موجات اليأس والسقوط الاجتماعي المدوي.
في جزئية الحوارات يبرز التحدي الأكبر في الكتاب، فالكاتب لم يتخوف من أن إجابات داوود، التي قد تخالف تحليلاته في الجزء الأول، قد تؤثر على رؤية القارئ للمادة التي بذل فيها الكاتب الجهد الأكبر. وبالفعل، ووفقا لقراءتنا، لم يحدث ذلك، بل على العكس كانت هناك حالة من التناغم والتوازن، وملء للفراغات في كثير من النقاط.
كما ضم الكاتب حوارين مطولين لرفقاء رحلة الإبداع، وهم أنسي أبو سيف وراجح داوود، الذين تستطيع من خلال إجاباتهم أن تدرك كيف تتكون العملية الإبداعية لدى داوود، وكيف يتم العمل عليها منذ أن كانت فكرة. فتجد نفسك، عزيزي القارئ، أمام رؤية متكاملة قدمت بأسلوب وبشكل مختلف لكاتب وشاعر متميز عن مخرج كان وسيظل من الأهم والأبرز على مر الأجيال.
ومن خلال الرؤى التي يجمع بينها علاء خالد بين صفحات الكتاب تدرك الحقيقة الأكبر، فبالرغم من الشخصيات العميقة المتعددة التي تعلق بها الجمهور ولم تمر على الشاشة مرور الكرام ، كانت هناك الكثير من الهموم والآلام والآمال التي لم يكشف عنها داوود الستار حتى جاءت لحظة الرحيل.
المصدر:
الشروق