مع الإعلان عن غرق مركب للهجرة غير الشرعية، وفقدان ٢٧ مصريا من الشباب وصغار السن، انطلقت الصرخات من سيدات قرى مركز منيا القمح، وخرج الأهالى يبحثون عن أسماء أبنائهم.. «المصرى اليوم» التقت مع مجموعة من أهالى الشباب المتوفين والمفقودين داخل عدة قرى.
طريق أسفلتى غير ممهد وبيوت من الطين، وشوارع ضيقة وسيارات نصف نقل هى وسيلة المواصلات الوحيدة لأهالى قرية «النعامنة»، إحدى قرى مركز منيا القمح، والتى فقدت على مدار الشهور الأخيرة الماضية ٢٠ غريقا و١٤ مفقودا فى المياه الدولية، عندما قرروا السفر إلى الخارج عن طريق الهجرة غير الشرعية، فظروف الحياة الصعبة فى القرى الزراعية تجعل الهجرة غير الشرعية خيارا يلجأ إليه المراهقون، متأثرين بما يرونه على وسائل التواصل الاجتماعى.
«شباب القرية لحق بهوجة السفر إلى الخارج، البلد مفيهاش أى فرص عمل».. كلمات قالها إسلام أحد أهالى القرية، لـ «المصرى اليوم»: «القرية ذات طابع زراعى خالص، وتعتمد فى الأساس على الزراعة كمصدر رئيسى للدخل، وطبيعة الحياة هنا قائمة على العمل اليومى، معظم الأهالى بيشتغل فى جمع المحاصيل، والسعى وراء الرزق هنا اليوم بيومه».
وأكد أن انتشار الهجرة غير الشرعية أصبح ظاهرة مقلقة داخل القرية، بحسب وصف الأهالى، خاصة بين صغار السن والمراهقين، بعضهم لا يتجاوز عمره ١٦ أو ١٧ عامًا، ويتأثر بما يراه من صور ومقاطع ينشرها أقرانه ممن سافروا إلى الخارج، فيتصور أن الهجرة هى الطريق الأسرع للنجاح وتحسين الوضع المادى.
أحمد إسماعيل، أحد أقارب المتوفين، أكد أن ما يحدث لم يعد مجرد سفر غير شرعى، بل تطور إلى شبكات منظمة للاتجار بالبشر، تعتمد على سماسرة أو «مندوبين» يعملون لصالح عصابات خارج البلاد، حيث يتم استقطاب شباب القرية عبر وسائل نقل عادية مثل سيارات الميكروباص، التى تقف على الطريق الدولى وتقوم بنقلهم تحت ستار السفر للعمل إلى الخارج.
وقال: «السماسرة يدرسون الوضع المادى للأسر قبل التحرك، ويتأكدون أولًا من امتلاك الأسرة لأرض أو ممتلكات، ليضمنوا قدرتهم على الدفع لاحقًا وبعد احتجاز الشاب يتم الاتصال بأسرته وابتزازهم ماليًا، سواء لإكمال رحلة السفر أو لإعادته، وفى الحالتين تُفرض مبالغ كبيرة».
«دفع الدية أو التضحية بالابن».. طريقان لا ثالث لهما كانا أمام محمد سيد، والد أحد الضحايا، إلا أنه لم يكن يعلم أنه سيفقد ابنه رغم دفع ٢٠٠ ألف جنيه اقترضها من معارفه وأقاربه، دفعها للعصابة التى لم ترحم صرخاته لرؤية ابنه الأكبر.
وقال «سيد»: «اضطررت إلى بيع كل ما أملك وعمل قرض بقيمة ١٥٠ ألف جنيه لشراء ثمن حياة ابنى، ولست الوحيد بالقرية، وإنما هناك العشرات من الحوادث المماثلة، تبدأ العصابات بابتزازنا فى ليبيا عبر مكالمات دولية، وندفع الدية المطلوبة ثم تنتهى بموت أبنائنا».
وأكد أن هذه الوقائع ليست جديدة، بل تمتد لأكثر من عشر سنوات، حيث توجد أسر لا تزال حتى اليوم لا تعرف مصير أبنائها، مشيرًا إلى أن بعض الآباء يعيشون على أمل ضعيف فى عودة أبنائهم، ومنهم من مات قهراً وهو فى انتظار عودة ابنه، رغم مرور سنوات طويلة دون أى معلومات مؤكدة.
داخل حجرة لا تتعدى المترين، تخلو من أى أثاث سوى حصيرة بالية، جلس محمد شحاتة، والد «يوسف»، أصغر الضحايا، والذى لم ينته من المرحلة الثانوية الأزهريّة، كان ينتظر والده نتيجته ليفرح به إلا أنه اليوم ينتظر جثمان ابنه الأكبر.
وقال «شحاتة»: «كان يوسف بيشتغل رغم أنه كان فى الثانوية العامة، كان حاسس بتعبى، أنا راجل أرزقى على باب الله، وكان ابنى سندى فى الدنيا، وكان نفسه يساعدنى وسافر دون علمى واستقبلت مكالمة من إيطاليا يطالبنى المتكلم فيها بدفع ١٩٠ ألف أو دبحه، وكانوا بيعذبوه وحرموه من الأكل».
وأوضح «شحاتة» أنه عندما تلقى الاتصال من الطرف الآخر، فوجئ بتهديدات مباشرة تطالبه بتدبير الأموال فورا، حيث قيل له نصا: «لو ماجبتش الفلوس هحرق قلبك على ابنك»، مع مطالبته بدفع كل ما يملك، مؤكدا أن المتصل كان يتحدث باللهجة المصرية، رغم أن التواصل كان يتم عبر الإنترنت باستخدام رقم دولى، لافتا إلى أن الشخص الذى كان يتواصل معه يدعى «محمد ربيع»، ويستخدم كنية «أبو عمر»، وأنه أحد أفراد شبكات الاتجار بالبشر، حيث تبين لاحقا أن الأمر لم يكن سفرًا من الأساس، بل احتجاز وتعذيب وابتزاز مالى.
تعرض يوسف للتعذيب الشديد- حسب رواية والده- وأنهم أُجبروا على الانتقال بين أكثر من مخزن، قبل أن تنقطع الاتصالات لمدة ستة أيام كاملة، بسبب مصادرة الهواتف، إلا أن يوسف تمكن من الاتصال لاحقًا ليطمئن والده.
ومع تأخر والد «يوسف» عن دفع الدية، تعرض يوسف للضرب المبرح، ولم يحصل على الطعام سوى مرتين يوميًا، مؤكدا أن المكان الذى احتجزوه فيه ملىء بروائح كريهة لا تطاق، وسط حديث عن جثث مدفونة فى محيط المكان- على حد وصفه.
وأشار الأب إلى أنه تحت هذا الضغط اضطر للحصول على قرض بقيمة ١٠٠ ألف جنيه، بالإضافة إلى الاستدانة من الأهالى والمعارف، حتى تمكن من جمع المبلغ المطلوب، مؤكدًا أنه دفع ما يقرب من ١٩٠ ألف جنيه، بعد أن أُبلغ أكثر من مرة بأن ابنه «وصل»، ليتضح لاحقًا أن ذلك غير صحيح. انقطع التواصل بين يوسف ووالده، رغم دفع الأخير مبلغ ١٩٠ ألف جنيه، فنشر صوره وحسابه على موقع «فيسبوك»، بالإضافة إلى جميع الصور المتاحة، أملا فى الوصول إلى أى معلومة تفيد الوصول إليه، إلا أنه استقبل خبر وفاة وغرق ابنه من بيان رسمى صادر عن السفارة المصرية.
بدموع حارقة أكد محمد شحاتة، والد «يوسف»، أن ما تعرض له ابنه هو نموذج صارخ للاتجار بالبشر، مشيرًا إلى أن هذه العصابات تستغل فقر الأسر وحلم الشباب بالسفر، وتترك وراءها مآسى إنسانية وأسرًا محطمة لا تملك سوى الصبر.
احتضان جثمان يوسف ودفنه فى مقابر القرية أصبح الحلم الوحيد لوالده محمد شحاته، وناشدت المسؤولين باستلام جثته وقالت: «نفسى أحضن ابنى وأبوسه، وأدفنه فى المقابر عشان أزوره وأقرأ له الفاتحة».
خلال جولة «المصرى اليوم» داخل قرى «التلين» و«السعديين» و«ملامس» و«تلبانة» و«كفر عبدالله»، وهى الأكثر تصديرا للشباب، لا يختلف الوضع المعيشى، فالأغلبية يعيش فى ظروف بسيطة تعتمد على «الستر»، فالبيوت هناك بسيطة وبعيدة عن أى مظاهر الرفاهية.
وقال محمد أحد الأهالى: «الأوضاع المعيشية فى القرى صعبة، وهناك أسر تعيش فى غرفة واحدة مع عدد من الأطفال، ولا تملك سوى القليل من الأغطية، وأن بعض ربات الأسر يضطررن إلى العمل فى الزراعة، من أجل توفير احتياجات المعيشة اليومية».
رغم مرور عامين على غياب رضا سعيد محمود محمد، إلا أن الأمل لم يفارق والدته السبعينية، تجلس أمام منزلها فى قرية «النعامنة» لا تفارق صورته كفها لحظة واحدة، تنظر فى وجوه المارة، أملا فى أن تصادف وجه ابنها من شباب القرية العائدين من اليونان.
روى أيمن، الشقيق الأكبر لرضا، تفاصيل رحلة هجرته غير الشرعية التى انتهت باختفائه، بعد أن غادر البلاد دون علم أسرته، بسبب ظروفه الاقتصادية الصعبة، وقال: «رضا سافر دون علمنا، كنا جميعا نرفض الفكرة، وفوجئنا بمكالمة منه يطلب منا تحويل مبالغ مالية لأشخاص غير معروفين، لنكتشف أنه وقع فى قبضة سماسرة الهجرة غير الشرعية».
اختفى أيمن وترك خلفه زوجة شابة، لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، ولديه ثلاثة أبناء، لم يستطع توفير جميع احتياجات منزله، فكان يشتغل «أرزقى» مثل حال معظم شباب القرية، كان يحلم بامتلاك ورشة موبيليا تُعينه على الحياة الشاقة، إلا أنه حلمه تحول إلى كابوس- على حد وصف أسرته.
تمر الأيام ثقيلة على أسرة الشاب رضا سعيد، فهم لا يعرفون إذا كان حيا أو ميتا، خاصة فى ظل ما يتردد عن أوضاع خطيرة داخل ليبيا، بين التهديد بالقتل أو الاحتجاز مقابل الفدية، وإجبار عصابة الإتجار بالبشر على دفع ٢٠٠ ألف جنيه، ما دفعهم إلى جمع الأموال بأى وسيلة ممكنة، عبر الاستدانة من الأقارب والمعارف، فى محاولة لإنقاذه.
وأشار أيمن شقيقه إلى أنه دفع نحو ١٤٠ ألف جنيه تم تسليمها عبر وسطاء لا تعرفهم الأسرة شخصيًا، من بينهم سيدة منقبة لا يُعرف اسمها أو صلتها بالشبكة، وتم تسليم الأموال نقدًا فى مركز منيا القمح دون أى تحويلات رسمية أو وسائل موثقة.
واكتشفت أسرة «رضا» حصوله على قرض دون علمهم، مما ضاعف حجم المديونية، وأدخل الأسرة فى أزمة مالية خانقة.
وروى شقيقة لـ «المصرى اليوم» أن التواصل مع رضا كان محدودًا للغاية، ولم يتجاوز مكالمتين أو ثلاث مكالمات، كان يجريها من أرقام دولية غير معروفة، بحسب ما أتيحت له الفرصة، قبل أن ينقطع الاتصال تمامًا.
وفى محاولة للبحث عنه، تقدمت الأسرة ببلاغات رسمية، وتوجهت إلى الهلال الأحمر بمدينة الزقازيق فى مايو ٢٠٢٣ للإبلاغ عن تغيبه، حيث تم إخطار الصليب الأحمر فى اليونان لبدء إجراءات البحث ضمن قوائم المفقودين أو ضحايا حوادث الغرق.
كما قامت الأسرة، بناءً على توجيهات الجهات المختصة، بإجراء تحليل الحمض النووى (DNA) لوالدة المفقود داخل مصلحة الطب الشرعى بالقاهرة فى يونيو ٢٠٢٣، دون تسلم نتيجة رسمية حتى الآن. وأشار شقيقه إلى أن المركب التى كان يستقلها رضا كانت تضم نحو ٥٠٠ شخص، فى واحدة من أكبر رحلات الهجرة غير الشرعية، وهو ما تبيّن من كثافة الحالات التى توافدت على مصلحة الطب الشرعى لأخذ عينات DNA، ما يؤكد اتساع حجم الكارثة.
وقال: «أجرينا تحاليل DNA على أمل أن هناك شخصا هيرد علينا وكان هناك تواصل على الإنترنت ليس بيننا مباشرة ولكن بين بعض الأشخاص وبعض المنظمات فى اليونان ولكن أتت المكالمات من ليبيا والتى تقول إنه موجود ولكن ادفعوا مبلغا علشان يرجع، قولتلهم هستلف من الناس بس سمعونا صوته، كان الرد لا، ادفع الأول، وطلع الموضوع نصب». وأضاف: «هو مفقود منعرفش مكانه تاريخ خروجه من مصر ٢٣ مايو ٢٠٢٣، وآخر مكالمات معه كانت يوم ٧ أو ٨ يونيو ٢٠٢٣، وكان معه ١٣ حالة من البلد، وأخويا يعتبر أكبرهم سنا، هو مواليد عام ١٩٨٨، ومافيش جدوى من أى حد ولا طلع شهادة وفاة».
وأكد أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة هى التى فرضت نفسها عليه ووضعت الجميع فى هذا الموقف، مشيرا إلى أن زوجته «بترزق» فى الأراضى باليومية تقوم بجمع الفراولة والخضرة، ولديه ثلاثة أولاد، الابن الأكبر فى الصف الأول الإعدادى وبنت فى رابعة ابتدائى، وبنت فى الصف الثانى الابتدائى.
وتمنى إذا كان شقيقه داخل أو خارج مصر أن تكثف الجهات الحكومية من جهودها لمعرفة إذا كان على قيد الحياة أم لا، قائلا: «والدته تقضى يومها فى حزن وبكا ولا نوجه لوما لأحد ونرضى بقضاء الله وقدره».
رغم أن قرية «النعامنة» من أكبر قرى محافظة الشرقية، إلا أنها محرومة من خدمات الصرف الصحى التى لا تزال غير مكتملة حتى الآن، وقالت نادية جمال، من الأهالى، إن العمل فى الصرف الصحى جارٍ حاليا من خلال الجهود الذاتية للأهالى، وكل منزل يتحمل نصيبه من التكلفة، حيث يشارك عدد من الرجال من كل بيت فى تمويل وتنفيذ شبكات الصرف على نفقتهم الخاصة، فى ظل غياب الخدمة الحكومية الكاملة.
إلا أن هناك بعض القرى المجاورة، مثل قرية «الأعراس»، لا تمتلك حتى هذه الإمكانيات المحدودة، مؤكدًا أن الأهالى هناك يعتمدون على مياه الرى فى تصريف المخلفات، وهى نفس المياه المستخدمة فى الزراعة، ما يمثل خطورة على الصحة العامة.
المصدر:
المصري اليوم