آخر الأخبار

قصة تحول أشقاء متهمين بالاتجار فى المخدرات وحيازة السلاح إلى مجنى عليهم

شارك

وقائع مأساوية من قاعة المحكمة تكشف استغلال الأطفال وزواج القاصرات. وتُعيد تعريف الجريمة باعتبارها أزمة اجتماعية تستوجب الإصلاح لا العقاب.. وهيئة قضائية ترسخ لمبدأ "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"

الانطباعات الأولى.. أحكام قد تخدع العيون

كثيرًا ما يستسهل المجتمع إصدار أحكامه على الأشخاص من خلال الصورة العامة أو الانطباعات الأولى، وكأن الحقيقة تختزل في مشهد عابر أو قراءة سطحية لا تنفذ إلى العمق، غير أنّ بين السطور ما قد يقلب الموازين، ويكشف أنّ من صُوِّر جانيًا ليس إلا ضحيةً لجلادٍ خفيّ، وأن العدالة ليست ما تراه العيون للوهلة الأولى، بل ما يتجلى بعد التمحيص والتروي، وهنا يعلو صوت القاعدة القانونية الراسخة: المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فهي ليست مجرد نص، بل درع يحمي الوعي من الانزلاق وراء الأحكام المسبقة، ويذكّرنا بأن الحقيقة قد تكون أبعد كثيرًا مما يتراءى في الأفق القريب.

والقصة التالية، المأخوذة من واقع أوراق قضائية، ليست مجرد واقعة عابرة، بل مرآة تعكس عمق ما ذكرناه آنفًا؛ فهي الدليل الناطق بأن المظاهر خداعة، وأن الحقيقة كثيرًا ما تختبئ خلف ستار من الالتباس، فلا يكشفها إلا ميزان العدالة حين يُنصت إلى كل الأطراف ويُمحص الدلائل جميعها.

مصدر الصورة
نظر القضية أمام المحكمة - استدلالية باستخدام الـAI

قاعة المحكمة.. صمت مهيب وبداية مثيرة

خلال يوم صيفي حار، وداخل إحدى قاعات محكمة جنوب المنصورة الابتدائية، ومع انطلاق إحدى جلسات المحاكمة، عمّت القاعة حالة من الصمت المهيب، وشدّ انتباه الحضور صوت الحاجب وهو يعلن بعبارته الرتيبة بدء الجلسة، لتتجه الأبصار نحو قفص الاتهام، حيث يقف شقيقان مراهقان في السابعة عشرة من العمر، تتجلى على وجهيهما ملامح الذعر والحيرة، وما إن أذن القاضي ببدء الإجراءات حتى استُهلت المحاكمة بسماع شهادة مأمور الضبط، الذي قدّم رواية تفصيلية عن لحظة إلقاء القبض عليهما، وما تلاها من تحقيقات انتهت بإحالتهما إلى النيابة العامة، بعد أن وُجهت إليهما تهم ثقيلة تمثّلت في الاتجار بالمواد المخدّرة، وحيازة مخدرات وأسلحة غير مرخصة وذخائر.

اتهامات ثقيلة وأدلة ظاهرية تضع الشقيقين في القفص

وربما كان يتراءى للحضور، أو لأي من يطالع تلك الاتهامات الثقيلة التي حملتها أوراق التحقيق وأكدتها النيابة العامة بصفتها الأمينة على الدعوى الجنائية، أنه لا مهرب للتوأمين من العقاب، وقد استندت أجهزة الأمن إلى أحراز مضبوطة وشهادات موثقة تضع المتهمين في قلب دائرة الاتهام، غير أنّ القانون، بصفته ليس مجرد أداة للردع بل ميزان تتوازن فيه العدالة مع الرحمة، يفتح بابًا لإعادة النظر والتعمق في التفاصيل، لا سيما إذا كان من وُجهت إليه التهمة لم يبلغ بعدُ السن القانونية. وهنا يتجلى نص المادة (127) من قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 والمعدل بالقانون رقم 126 لسنة 2008، التي تُلزم السلطة القضائية ببحث حالة الحدث تعليميًا ونفسيًا وعقليًا واجتماعيًا، إعمالاً بمبدأ أن العدالة لا تكتفي بما يُلقى أمامها من أدلة ظاهرية، بل تمتد لتزن الظرف الإنساني وتستحضر الرأفة كجزء أصيل من فلسفة التشريع.

مرافعة القانون.. حين يعلو صوت الرحمة على الردع

ومن هنا أخذت القضية منعطفًا آخر، حين أدلى الخبراء والإخصائيون الاجتماعيون برأيهم أمام هيئة المحكمة، ودخلوا في نقاش مستفيض معها، فكانت كلماتهم كالصاعقة التي فجّرت مفاجأة غير متوقعة، لتتحول شهادتهم إلى مفتاح ألقى بظلال من الشك على سلامة الاتهام. فقد بدت أقوالهم كافية لأن تزرع في قلوب القضاة تساؤلات مزلزلة: أهناك ما لم تكشفه أوراق الدعوى؟ أيمكن أن تكون الحقيقة أعمق مما أثبتته محاضر الضبط والتحقيق؟، وهنا يلوح في الأفق خيط جديد من الأدلة والتفاصيل، لا يكتفي بترجيح البراءة فحسب، بل قد يقلب الموازين ليضع التوأمين في موضع المجني عليه لا الجاني، وفي موقع الضحية لا المتهم.

مصدر الصورة
القوانين تنتصر لحقوق الأطفال خلال المحاكمة - استدلالية باستخدام الـAI

شهادة الخبراء.. مفاجأة تقلب الموازين

ولم تقف شهادة المختصين عند حدود الرأي الشفهي فحسب، بل أودعوها في تقرير رسمي وُضع بين يدي هيئة المحكمة، متضمنًا بحثًا معمّقًا في الحالة الاجتماعية للشقيقين، وكشف التقرير عن مأساة إنسانية تفسر الكثير من خيوط القضية، إذ تبين أن والدتهما تقبع خلف القضبان على ذمة إحدى القضايا، بينما والدهما قد تنصّل من مسؤوليته منذ زمن بعيد، تاركًا إياهما يواجهان قسوة الانفصال والتيه بلا سند أو عائل، فغدا الطفلان بين مطرقة الحرمان الأسري وسندان الإهمال المجتمعي، وكأن القدر رسم لهما طريقًا معتمًا لم يكن من صنع أيديهما.

أقوال تكشف مأساة بلا عائل

ومع ذلك، فإن ما سبق لم يكن الحد الفاصل في مسار القضية، إذ حملت وقائع الجلسة ما هو أشد قسوة وأعمق أثرًا، حين التفتت المحكمة إلى الشقيقين وواجهتهما بالسؤال المباشر، فإذا بهما يؤكدان ما ورد في التقارير الفنية، ثم يضيفان ما لم يكن في الحسبان. فقد أشارا إلى حضور شقيقة ثالثة غير متهمة بالقضية، بين صفوف الجمهور، لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها، وذلك لعدم وجود عائل لهما يساندهما، أو محامٍ يوكلاه ليتولى الدفاع عنهما، موضحين أن شقيقتهما لديها من المعلومات ما يكفي لإثبات براءتهما، وكشف الحقيقة التي تُظهر أنهما ضحيتان لظروف جارحة وليسا جانيين، وأن مكانهما الحق ليس في قفص الاتهام بل في كنف العدالة الرحيمة التي تنصف المظلوم وتعيد له اعتباره.

مصدر الصورة
العدالة تنحاز لحقوق الطفل على حساب الجريمة- استدلالية باستخدام الـAI

تحول المسار: الأطفال ضحايا لا جناة

وهنا التفتت المحكمة إلى الشقيقة الصغرى، لتدلي بشهادة هزّت أركان القاعة، مؤكدة أنها تسكن حاليًا مع أختها الأصغر لترعاها وحدهما بلا عائل، بعد أن أُودع شقيقاها قفص الاتهام، وتزوجت شقيقتها الكبرى ـ التي لم تتجاوز الخامسة عشرة ـ فيما تقبع والدتهن خلف القضبان، ويغيب الأب هاربًا من مسؤولياته. عند هذه اللحظة الفاصلة، رأت هيئة المحكمة أن القضية لم تعد محض اتهام جنائي، بل مأساة إنسانية تستصرخ عدالة القانون، فقررت أن تسلك مسارًا آخر: ندب محامٍ للدفاع عن التوأمين، واستبدال حبسهما بإيداعهما في إحدى دور الرعاية لحين الفصل في الدعوى، مع إخطار خط نجدة الطفل والمجلس القومي للمرأة بحالة الأشقاء الثلاثة، وتكليف المختصين بفحص شامل لأوضاعهم جميعًا، بما في ذلك حالة الطفلة القاصرة المتزوجة، وتقديم الدعم والرعاية اللازمين لهم على وجه السرعة، على أن يُرفع تقرير مفصل بحالتهم إلى المحكمة، وهكذا أخذت القضية منعطفًا جديدًا، يضع الأطفال في موضع الضحايا لا الجناة، ويُفعّل نصوص القانون التي تُعلي مبدأ أن حماية الطفل ومصالحه الفضلى هي الأولوية القصوى في كل قرار أو إجراء يتعلق بالطفولة أيًا كانت الجهة التي تباشره.

أدلة جديدة تفضح المستور وخيط يكشف قضية اتجار بالبشر

وفي فصل جديد من فصول القضية التي تزداد تشابكًا وإثارة، حضرت إلى منصة المحكمة مديرة الوحدة العامة لرعاية الطفل، لتفتح أبوابًا أخرى من الحقائق الغائبة، فقد طالعت بعين الخبير أوضاع الأشقاء الثلاثة الماثلين أمام الهيئة، وناقشتهم مطولًا، ثم أقرت في تقريرها المبدئي أنهم جميعًا في دائرة الخطر لغياب العائل، وهو ما جعلهم فريسة سهلة للاستغلال من قِبَل آخرين استغلوا هشاشتهم وزجّوا بالشقيقين في أتون ترويج المواد المخدرة، وقد جاء أحد الأشقاء ليؤكد ما ذهبت إليه المسؤولة، مبررًا أنه كان يفعل ذلك في مقابل تلقي أموال من آخرين بغرض مساعدتهم على المعيشة بعد القبض على والدتهم، في حين قدمت الأخيرة دليلًا صادمًا تمثل في هاتف محمول صودر من الطفلة شقيقة المتهمين عند إيداعها إحدى دور الرعاية. وهنا دوّت المفاجأة في القاعة، إذ قررت المحكمة أن تسلّم الهاتف إلى الإدارة العامة للمساعدات الفنية لاستخلاص ما يحمله من أدلة تكشف خيوط المؤامرة، مع تكليف المباحث الجنائية المختصة بتحريات عاجلة، وطلب تقارير مفصلة من إدارتَي مكافحة المخدرات ومكافحة جرائم الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، لتصبح أوراق الدعوى أشبه بمرآة تعكس مأساة أكبر، وتُعلن أن القضية لم تعد مجرد اتهام عابر، بل جرح إنساني عميق يستدعي كشف المستور.

مصدر الصورة
التأهيل المجتمعي أهم من العقوبات الرادعة - استدلالية باستخدام الـAI

العدالة في امتحانها الأصعب: الرحمة فوق العقوبة

وبعد أن توافرت للمحكمة كافة الاستدلالات والتحريات والتقارير التي طلبتها، وانكشفت من خلالها حقائق دامغة أثبتت تورط آخرين في استغلال هؤلاء الأطفال، بدءًا من تشغيلهم في أعمال مخالفة للقانون وصولًا إلى زجّ شقيقتهم الكبرى في زيجة قسرية وهي بعدُ قاصر، وقفت العدالة أمام امتحانها الأعظم. فإعمالًا لنصوص اتفاقية حقوق الطفل، وما رسّخه الدستور والقانون من مبادئ، بأن جنوح الطفل ليس جريمة بل انعكاس لظاهرة اجتماعية تستدعي الإصلاح والوقاية لا العقاب، قررت المحكمة أن تنتصر للرحمة والرأفة، وتجعل من حكمها رسالة تُسطَّر في وجدان العدالة، فكان منطوق الحكم المعلن أن بُرِّئ أحد الشقيقين بعدما بلغ السن القانونية خلال فترة المحاكمة، فيما استمر إيداع شقيقه الآخر في دار الرعاية الاجتماعية لا بوصفه مدانًا بل باعتباره طفلًا معرضًا للخطر، مع إحالة الأوراق إلى النيابة العامة لإعادة التحقيقات واتخاذ شؤونها حيال المتورطين في وقائع الاتجار بالبشر المثبتة بالأوراق، بدءًا من تشغيل الأطفال واستغلالهم، وانتهاءً بواقعة تزويج الطفلة القاصرة. وهكذا أشرقت قاعة المحكمة بسطوع ميزان العدل حين يقترن بالقلب النابض بالرحمة، ليكتب للتاريخ حكمًا لا يُدين الصغار بقدر ما يُدين المجتمع الذي قصّر في حمايتهم.

للاطلاع على أوراق القضية كاملة:


02


03


04


05


06


07


08


09

أقرأ أيضًا..

كيف تصدى المشرع المصري للجرائم السيبرانية عبر العالم الافتراضي؟.. القوانين تنال من مهددي الأسر باستخدام التكنولوجيا.. وعضو لجنة الأسرة بالحوار الوطني تشدد على ضرورة الإبلاغ: العقوبات رادعة


لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا