حوار - محمود مصطفى أبوطالب:
تصوير: أحمد مسعد
ردّ الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية الأسبق، عضو هيئة كبار العلماء، على زعم البعض من أن برنامجه الرمضاني "نور الدين والدنيا" يغير ثوابت الدين، مؤكدا أن البرنامج إحدى الأدوات العملية لتجديد الخطاب الديني.
وقال علي جمعة في حوار لمصراوي، إن ما جرى في السابع من أكتوبر هو حدث سياسي وإنساني كبير، له أبعاده الواقعية، وتداعياته الجيوسياسية، ويجب التعامل معه أولًا من هذا المنظور، كصرخة مقاومة في وجه الاحتلال والظلم، أما تحويله إلى علامة غيبية كبرى، فذلك أمر يحتاج إلى نصّ صريح أو اجتهادٍ مضبوطٍ بأدوات العلماء الراسخين، وإلى نص الحوار:
جاءت فكرة برنامج "نور الدين" ومن بعده "نور الدين والدنيا" استجابةً للحاجة الملحّة إلى تجديد الخطاب الديني والتواصل الفعّال مع فئة الشباب، خاصةً في ظل التحديات الفكرية والتكنولوجية السريعة التي يواجهونها. في الموسم الأول، ركّز برنامج "نور الدين" على فتح حوار مباشر مع الأطفال والكبار، للإجابة على تساؤلاتهم الشائكة وتصحيح المفاهيم المغلوطة، بهدف تأسيس ثقافة الحوار والنقاش مع النشء والشباب، ومعالجة الفجوات التي قد يستغلها الفكر المتطرف للتغلغل بينهم.
أما في الموسم الثاني، فقد تم تطوير البرنامج ليصبح "نور الدين والدنيا"، مع التركيز بشكل خاص على فئة الشباب في المرحلة الإعدادية والثانوية، أي من عمر 12 إلى 18 عامًا، ويأتي هذا التوجه نظرًا لأهمية هذه المرحلة في تكوين الوعي الفكري والديني، ولما يواجهه الشباب فيها من تحديات فكرية وتكنولوجية متسارعة. يسعى البرنامج إلى تقديم خطاب ديني متجدد يراعي الواقع المتغير، ويوازن بين النصوص المقدسة والمستجدات العصرية، دون التفريط في الهوية الإسلامية أو المقاصد الشرعية
بالإضافة إلى ذلك، يهدف "نور الدين والدنيا" إلى سد الفجوة بين الأجيال الناتجة عن التطورات السريعة في مجالات الاتصالات والتكنولوجيا، من خلال تقديم محتوى ديني يربط الشباب بقيمهم الدينية والأخلاقية، بعيدًا عن أساليب التخويف والترهيب، مع التركيز على تعزيز مفهوم الحب في العلاقة بين العبد وربه، كما يتناول البرنامج قضايا متعددة، منها الفهم العميق للواقع، والمسائل العقائدية، ومقتضيات الحياة المعاصرة، مع التأكيد على أهمية الاستماع إلى أفكار الشباب وفتح المجال أمامهم للحوار، بدلاً من الاكتفاء بأسلوب التلقين.
في الموسم الأول من برنامج "نور الدين"، سعى الفريق إلى إشراك الأطفال في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، تحديدًا من الصف الرابع الابتدائي حتى الثاني الإعدادي. لتحقيق ذلك، قام فريق البرنامج بزيارات ميدانية إلى المدارس الابتدائية والإعدادية، حيث تم شرح فكرة البرنامج للطلاب وتوضيح أنه مخصص لهم للتعبير عن أنفسهم بحرية، دون خطوط حمراء أو وصاية، و تم اختيار الطلاب بناءً على استعدادهم للمشاركة والتفاعل، مع التأكيد على أهمية استماع آرائهم والإجابة على تساؤلاتهم.
أما في الموسم الثاني، "نور الدين والدنيا"، فقد تم التركيز على فئة الشباب في المرحلتين الإعدادية والثانوية، من عمر 12 إلى 18 عامًا، جاء هذا التوجه نظرًا لأهمية هذه المرحلة العمرية في تكوين الوعي الفكري والديني، ولمواجهة التحديات الفكرية والتكنولوجية السريعة التي يتعرض لها الشباب، وتم اختيار المشاركين بعناية لضمان تقديم محتوى يتناسب مع احتياجاتهم وتساؤلاتهم، مع الحرص على تقديم خطاب ديني متجدد يراعي الواقع المتغير ويوازن بين النصوص المقدسة والمستجدات العصرية، دون التفريط في الهوية الإسلامية أو المقاصد الشرعية.
تم اختيار موضوعات برنامجي "نور الدين" و"نور الدين والدنيا" بناءً على رؤية علمية تربوية، استهدفت مخاطبة الواقع الفكري والنفسي للشباب من عمر 12 إلى 18 عامًا. وقد جاءت هذه الموضوعات نتيجة الإنصات المباشر لتساؤلاتهم اليومية، وتحليل التحديات التي يواجهونها في ظل الطفرات التكنولوجية وتعدد مصادر التأثير الفكري.
حرص البرنامج على مناقشة قضايا تمس وجدان الشباب، مثل علاقتهم بالله، وفهمهم للعقيدة، وتفسيرهم للوساوس والذنوب، وموقفهم من الخطاب الديني المتشدد، وجاء اختيار هذه الموضوعات تحديدًا لأنها تعبّر عن فجوة حقيقية بين النصوص الدينية والواقع المعاصر، وهو ما سعى البرنامج إلى ردمه بخطاب قائم على الرحمة، والفهم المقاصدي، والحوار البنّاء لا التلقين، والهدف من ذلك كله هو تقديم نموذج ديني يُعيد الثقة للنشء، ويؤصل لمعاني الحب الإلهي، ويفتح الباب أمام جيل جديد يملك أدوات الفهم ويتصل بالدين صلة رحيمة عاقلة، تعينه على بناء شخصيته ومجتمعه.
في الحقيقة، بحمد الله وتوفيقه، تمكّنا في "نور الدين والدنيا" من تناول جلّ الموضوعات الجوهرية التي كنّا نرغب في طرحها، خاصة تلك التي تمس عقل وقلب الشباب، كالوساوس، وفهم الدين، والتعامل مع التقدم العلمي، ومواجهة التطرف، وأثر الحب الإلهي في تزكية النفس.
لكن بطبيعة الحال، اتساع المجال وتنوّع الأسئلة التي يطرحها الشباب يجعل بعض الجوانب بحاجة إلى مزيد من التوسّع والتفصيل، لا سيّما في قضايا مثل تكوين الهوية في العصر الرقمي، وتوازن المسلم بين الفردية والجماعة، وموقع الفنون والثقافة في الرؤية الإسلامية. هذه موضوعات حضرنا لمداخلها، وأشرنا إلى أطرافها، ونرجو أن يُتاح الوقت لاحقًا للتوسع فيها بما يليق بعمقها وأثرها في تشكيل وعي الجيل الجديد
المجتمع المصري، لا سيّما شبابه، في حاجة ماسّة إلى فتح نقاشات صريحة وعميقة حول موضوعات تمسّ جوهر الإنسان في هذا العصر المتداخل، ومن أبرزها:
العلاقة بالله سبحانه وتعالى، وكيف تُبنى على المحبة لا على الخوف وحده، وعلى الرجاء لا على الرعب، الشباب بحاجة إلى أن يسمعوا أن الله رحيم كريم، وأن الدين جاء رحمةً لا عذابًا، وفقه الواقع، بمعنى كيف نعيش الدين في الحياة، لا في الكتب فقط، كيف نتعامل مع التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والسوشيال ميديا، والفن، والإبداع، دون أن نفقد هويتنا أو نخسر ديننا.
وأسئلة العقيدة التي ترد على الذهن دون خوف أو وصاية، كقضايا القدر، ووجود الشر، والحياة بعد الموت، والروح، وكيف نتعامل معها بعقل منفتح على النصوص، دون أن نُرهب السائل أو نُقصيه، والأمل والتخطيط للمستقبل، لأن هناك موجات من الإحباط والقلق باتت تملأ صدور الشباب، ويجب أن يوقنوا أن الإسلام يدعو للعمل، والنجاح، والبناء، وأن التفوق في الدنيا لا يتناقض مع الإيمان، بل هو من مقتضياته.
مفهوم النجاح الحقيقي، والقدوة، والهوية، وسط عالم يُصدّر لهم نماذج باهتة، نحن نحتاج أن نُعيد تقديم قدواتنا من الصحابة والعلماء والمصلحين بلغة هذا العصر، دون أن ننزع عنهم قدسيتهم ولا نحبسهم في التاريخ.
وأخيرًا: ثقافة الحوار وتقبّل الآخر، فإنها من ركائز الدين، وقد كانت حاضرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. الشباب بحاجة لأن يتعلموا كيف يختلفون بلا عداوة، ويتكلمون بلا تعصب، ويسمعون بلا أحكام مسبقة، وكل هذه الموضوعات ليست ترفًا، بل ضرورة، لأنها تُعيد بناء الوعي وتُقوّم العقل وتُسند القلب.
نعم، برنامج "نور الدين والدنيا" يُعد بالفعل إحدى الأدوات العملية لتجديد الخطاب الديني، ولكن ليس على طريقة التفكيك أو التجريب، بل على طريقة الفهم والتأصيل والتفعيل. نحن لا نغيّر في ثوابت الدين، بل نُجدد في كيفية عرضها، في ترتيب أولوياتها، وفي لغتها، لتخاطب الناس في زمانهم وواقعهم.
البرنامج يُجسّد هذا التجديد من خلال عدّة مسارات:
أولها: استحضار مقاصد الشريعة وربطها بحياة الناس اليومية، لا سيّما الشباب، وتقديم الدين كرافدٍ للسكينة والعقلانية والرحمة، لا كعبء نفسي أو خطاب ترهيبي.
ثانيها: فتح باب الحوار الحقيقي مع الجيل الجديد، والإصغاء لتساؤلاتهم دون خوف أو إنكار أو مصادرة، بل بالإقناع والرحمة والعلم.
ثالثها: توظيف أدوات العصر الحديث من إعلام، وتكنولوجيا، وشكل بصري، ولغة خطاب، لتقديم المعاني العميقة بلباس مألوف يفهمه الشباب ويأنس به.
رابعها: تفكيك التشدد والتطرف، وبيان أن الوسطية ليست ضعفًا، بل هي جوهر الشريعة، وأن الرحمة أصل، وأن الفهم السديد للنصوص يقطع دابر الغلوّ.
إذن، "نور الدين والدنيا" ليس مجرد برنامج إعلامي، بل هو نموذج حيّ لتجديد الخطاب الديني من داخل المنهج، لا من خارجه؛ نُحافظ فيه على النص، ونفهمه في ضوء الواقع، دون أن نفرّط في الدين، أو نتهرّب من العصر.
بحمد الله وتوفيقه، جاءت التعليقات على برنامج "نور الدين والدنيا" طيبة في جملتها، تبعث على السرور، وتدل على أن الرسالة قد بدأت تجد طريقها إلى القلوب والعقول. أكثر ما أسعدني هو أن كثيرًا من الآباء والأمهات قالوا إن أبناءهم صاروا يستمعون للدين وهم مبتسمون، مطمئنون، مرتاحو القلب، وأنهم لأول مرة يشعرون أن الخطاب موجه إليهم، بلغتهم، وبأسئلتهم هم، لا بأسئلة لا تخصّهم.
تلقّيت رسائل من شباب وفتيات قالوا إنهم وجدوا أنفسهم في الحلقات، وإنهم لمسوا صدقًا وواقعية، لا وعظًا منفصلًا عن حياتهم، وكان هذا هو المقصود من البرنامج منذ اللحظة الأولى: أن نُعيد بناء جسر الثقة بين الجيل الجديد والدين، وأن نُثبت لهم أن الإسلام ليس غريبًا عن زمانهم، بل هو الأصل الذي يعينهم على فهمه وتجاوزه.
كما سرّني أن فئة من المعلمين والمربين قد أشادوا بالبرنامج، وقالوا إن فيه أدوات تربوية، وأنه يصلح ليكون مادة للنقاش داخل الصفوف التعليمية، وهذا شيء نفخر به، لأن الدين لا ينبغي أن يُحبس في المنابر فقط، بل أن يُزرع في البيوت، وفي المدارس، وفي العقول.
كانت هذه الردود بالنسبة لي بمثابة بُشرى أن التجديد إذا انطلق من العلم والرحمة والفهم، فإنه يصل.
ما خرجتُ من هذا البرنامج في موسميه، إلا وأنا أكثر يقينًا بأن الأجيال المقبلة تمتلك عقلًا حاضرًا، وذهنًا متقدًا، وقلبًا حيًّا، لكنها بحاجة إلى من يُحسن الخطاب إليها، ويثق في قدرتها على الفهم، ويُعاملها بندّية الاحترام لا منبرية الإملاء، رأيت فيهم رغبةً صادقة في فهم الدين، لا في رفضه، وتوقًا للحديث عن الله، لا للابتعاد عنه، لكنهم يريدون أن يكون الخطاب صادقًا، مُتصالحًا مع الواقع، لا منفصلًا عنه، وأن يُعرَض الدين بروحه الرحيمة لا بصورته المشوهة التي قدّمتها بعض التيارات المتشددة.
جيل اليوم يفكر بطريقة مختلفة عن الأجيال السابقة؛ فهو سريع، رقمي، بصري، لا يقنع بالمسلمات دون حوار، ولا يرتاح للتلقين من غير فهم، هو جيل يسأل كثيرًا، ويناقش كثيرًا، ويبحث بنفسه عن المعلومة، ويُحاور النص بذكاء، وإذا لم يجد عندك إجابة مقنعة، بحث عنها في مكان آخر.
والجميل فيه أنه إذا لمس الصدق، والإخلاص، والانفتاح، فإنه يُقبل، ويُحب، ويستجيب، وهذا ما لمسته بنفسي في مداخلاتهم، وتعليقاتهم، وطريقتهم في التفكير.
إنهم جيل الأمل، لا جيل الأزمة، بشرط أن نحسن التواصل معهم، وأن نقدم لهم الدين كما هو: نورًا ورحمة، عقلًا ومحبة، عبادة وعمارة، وإن لم نفعل، فسنتركهم فريسة لتطرف أو تفلّت، وكلاهما خطر على الفرد والمجتمع.
الأجيال المقبلة لا تحتاج إلى كثير من الكلام، بل إلى كثير من الفهم. إنها بحاجة إلى من يُحسن الإنصات لها قبل أن يُلقي عليها المواعظ، وإلى من يعاملها بالعقل والمحبة، لا بالوصاية والتخويف، هي أجيال نشأت في عصر متسارع، مفتوح، تتداخل فيه الثقافات، وتنهال فيه المعلومات من كل حدب وصوب، ولا يمكن مخاطبتها بأساليب عفا عليها الزمن، أو بمفاهيم لا تراعي مقتضى الحال.
ما تحتاجه هذه الأجيال في جوهره هو أربعة أمور:
ثقة حقيقية بها: أن نُؤمن بقدرتها على التفكير، والبحث، والتمييز بين الحق والباطل، بدلًا من معاملتها على أنها قاصرة لا تُحسن الفهم.
خطاب ديني عقلاني رحيم: يُقدَّم فيه الدين على أنه نورٌ للعقل، وراحةٌ للقلب، وسندٌ في الحياة، لا سيفٌ مسلّط على الرقاب، ولا عبء ثقيل على النفوس.
قدوة حقيقية تُجسّد القيم: لأن الشباب يتعلّمون بالعيون أكثر من الآذان، ويريدون أن يروا فينا ما نقوله لهم لا أن نسمعهم ما لا نطبقه.
مساحة حرة للحوار: حيث يُسمَح لهم بالسؤال، والتفكير، والاختلاف، من دون أن تُهدد هويتهم أو يُطعن في إيمانهم، فالدين لا يخشى السؤال، بل يحتضنه ويهديه.
باختصار، الأجيال المقبلة تحتاج إلى من يمشي معها لا أمامها، ويهديها بنور الرحمة لا بنار التخويف، ويأخذ بيدها إلى الله، لا يدفعها بعيدًا عنه.
هذه الحملات وإن كانت مؤسفة إلا أنها ليست مفاجئة، بل هي متوقعة حينما يتحرك الخطاب الديني في اتجاه التجديد الحقيقي المبني على الفهم والرحمة والعقل. فعادةً، كل تجديدٍ يُربك أهل الجمود، ويُقلق من يتربّح من الخطابات المتشددة أو المنغلقة، ومن يقف وراء هذه الحملات – في الغالب – هم تيارات لم تتصالح بعد مع فكرة التطور، ولا تقبل أن يكون الدين في قلب العصر، ولا أن يُقدَّم للناس بلغة قريبة من قلوبهم وعقولهم. هؤلاء لا يطيقون أن تُفتح أبواب الحوار، ولا أن تُسقط الحواجز النفسية بين الشاب ودينه، لأن وجود هذه الحواجز يخدم رؤيتهم الضيقة.
البعض كذلك قد يهاجم بدافع سوء الفهم أو الاجتزاء، فيأخذون مقطعًا دون سياقه، أو عبارة دون مقصدها، ويبنون عليها حكمًا ظالمًا، وهذا نتيجة غياب الأمانة العلمية، أو غلبة التسرّع في الأحكام.
ومع ذلك، فنحن لا نلتفت إلى المهاترات، بل نلتفت إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. فالبرنامج ليس مشروعًا شخصيًّا، بل هو محاولة مخلصة لردّ الناس إلى ربهم، وإلى جوهر هذا الدين العظيم الذي يبدأ بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، ويقوم على الرحمة لا الغلظة، وعلى البيان لا الإكراه، وإذا كانت هذه الحملات تدل على شيء، فهي تدل على أن ما نقدّمه قد بدأ يُحرك المياه الراكدة، وأننا نسير على طريق صحيح، نسأل الله أن يكون خالصًا لوجهه الكريم.
أحداث السابع من أكتوبر لا تُقرأ بمعزل عن سياقها، ولا يمكن أن نُجتزئها من تاريخٍ طويل من الظلم والقهر والتعدي على الحق والكرامة، ما وقع في هذا اليوم من تحرك، هو في حقيقته صرخة في وجه الصمت الدولي، وتنبيهٌ صارخ بأن الاستهانة بحقوق الشعوب لا تصنع سلامًا، بل تُراكم الغضب، وتُمهّد لانفجاراتٍ لا تُحمد عقباها.
لقد ظلّ أهلنا في فلسطين – وعلى رأسهم أهل غزة – يُحاصرون ويُظلمون ويُقتلون لعقود، دون أن تُنصَف قضيتهم، أو تُعاد إليهم حقوقهم المسلوبة. وما رأيناه في السابع من أكتوبر لم يكن إلا نتيجة طبيعية لذلك الإصرار على تجاهل صوت المظلوم، وانحياز العالم لانتهاك الحق.
لكن من المهم أن نُدرك أن المواقف لا تُبنى على العواطف المجردة، بل على ميزان العدل والحق، والدين في جوهره مع المظلوم ضد الظالم، مع الإنسان ضد الجبروت، مع السلام الحق لا سلام الخضوع، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننصر الحق حيث كان، وأن نقول كلمة العدل في وجه القوة الجائرة، لا أن نخضع لها أو نُزيّن أفعالها.
كما أنني أهيب بكل من يتناول هذه الأحداث أن يكون على قدر المسؤولية: أن يتحرى الحقيقة، وأن يُفرّق بين مقاومة مشروعة في وجه احتلال، وبين التعدي على الآمنين بغير وجه حق، فميزان الإسلام دقيق، لا يغفل عن دم، ولا عن ظلم، ولا عن صرخة.
وماذا بعد؟
الضمير الإنساني لا بد أن يصحو، وأن يتوقف العالم عن معايشة المذابح كأنها أمر معتاد. وأن تُعاد صياغة مفاهيم العدل والحرية والكرامة وفق ميزان واحد، لا كيلٍ بمكيالين.
الحديث عن علامات الساعة ليس موضعًا للاجتهادات العاطفية أو التفسيرات اللحظية، بل هو باب دقيق من أبواب العلم، لا يُخاض فيه إلا بضبطٍ وفهمٍ لما ثبت في الكتاب والسنة. نعم، ورد في الأحاديث الصحيحة ذكر معارك فاصلة تكون في آخر الزمان بين المسلمين واليهود، لكن الربط المباشر بين كل واقعة سياسية معاصرة وعلامات الساعة هو ضرب من التسرّع في الفهم، وقد يؤدي إلى تشويشٍ في العقيدة أو انزلاقٍ في التأويل.
ما جرى في السابع من أكتوبر هو حدث سياسي وإنساني كبير، له أبعاده الواقعية، وتداعياته الجيوسياسية، ويجب التعامل معه أولًا من هذا المنظور، كصرخة مقاومة في وجه الاحتلال والظلم، أما تحويله إلى علامة غيبية كبرى، فذلك أمر يحتاج إلى نصّ صريح أو اجتهادٍ مضبوطٍ بأدوات العلماء الراسخين.
واعتاد بعض الناس، كلما حدث أمر جلل، أن يربطوه بعلامات الساعة، وهذا مدخل خطير، لأن علامات الساعة منها ما هو صريح معلوم كخروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، ومنها ما هو مجمل أو غير محدد بزمن، ولا يجوز أن نُحمّل النصوص ما لا تحتمل، ولا أن نُفسّر السياسة بالغيبيات، فهذا يُضعف من قوة الموقف، ويُدخل الناس في دوامة من الانتظار السلبي، ونحن مأمورون بالعمل، لا بالانتظار، وبالنهوض لا بالتخمين، وبإقامة العدل لا التعلق بالأمنيات، فإن تحققت في الأحداث آيات، فهي علامات على سنن الله في الظالمين والمظلومين، لا بالضرورة علامات الساعة الكبرى.
وفي كل الأحوال، فإن زوال الظلم سنة من سنن الله في خلقه، وإن طال أمده، ودوام الاحتلال وهم، والحق لا يضيع إذا استند إلى مقاومة واعية، ورؤية ثابتة، لا إلى تعويل على الغيب دون عمل.
لابد أولًا أن نُقرّر أصلًا مهمًّا: أن الجهاد في الإسلام عبادة من أعظم العبادات، ومن أشرف المقاصد، لكن ككل عبادة،له ضوابط وشروط، وله سياق فقهي وسياسي لا يجوز القفز عليه. أما إطلاق الدعوات العاطفية إلى "الجهاد المسلح" في هذا العصر دون فقه الواقع، ولا اعتبار للمآلات، ولا التفريق بين حال القوة وحال الضعف، فهذا لون من ألوان الفوضى الخطابية التي أضرت بالأمة أكثر مما نفعتها.
ثم إن ما يُسمى بـ "اتحاد علماء المسلمين" قد تورط مرارًا في تسييس الدين، واستخدام لغة دينية لتأجيج مشاعر الغضب والانقسام، دون أن يقدم مشروعًا حقيقيًا لبناء الوعي أو إصلاح الواقع، بل كثير من فتاويه كانت سببًا في خراب دول، وتشريد شعوب، وسفك دماء بريئة، ولا تزال المنطقة تُعاني من آثارها إلى اليوم.
والدعوة إلى "الجهاد" بهذا الإطلاق – خاصة إن خرجت من كيانات لها ارتباطات سياسية مشبوهة – تُفقد المفهوم الشرعي جلاله، وتُحوله من عبادة إلى شعار، ومن فقه إلى إثارة، ومن ميدان مسؤول إلى فوضى تقضي على البنية الأخلاقية للأمة.
نحن لا نُنكر حق الشعوب في المقاومة المشروعة ضد المحتل الغاصب، فهذا حق قرره الشرع، واتفقت عليه المواثيق الدولية، لكننا نُفرق تمامًا بين المقاومة الراشدة المنضبطة، وبين تسليح الفوضى، وتسيير الجماهير دون وعي، تحت دعوى "الجهاد" التي باتت في أفواه البعض وسيلة لتبرير كل عنف، ولو طعن في خاصرة الأمة.
المطلوب اليوم ليس الخطاب الانفعالي، بل الخطاب العاقل المسؤول، الذي يُوجّه طاقات الأمة إلى البناء، ويُبقي المقاومة في موضعها الشرعي، ولا يختطفها لمشاريع حزبية أو أجندات سياسية لا تعبّر عن روح الإسلام، ولا عن مصلحة المسلمين.
أولًا، للشعب المصري الكريم:
أقول لهم: اثبتوا، فإنكم على الحق، واصبروا، فإن الصبر مفتاح التمكين، واعلموا أن الله لا يُضيّع أجر من أحسن عملًا. تمسكوا بدينكم برحمة لا بغلظة، وبعقل لا بعاطفة مجردة، وبحبّ لا بخوف دائم. عودوا إلى القرآن بقلب محب، وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم بروح طالب النجاة، واعلموا أن الأخلاق هي الدين إذا نزل إلى الواقع، وأن الصدق في العمل، والإتقان في الحرفة، والرحمة في التعامل، من أعظم القربات.
ثانيًا، للقيادة السياسية:
نقول لهم: أنتم موضع عظيم من المسؤولية، وما من أحد وُلّي أمرًا من أمور الأمة إلا سُئل عنه بين يدي الله. سِيروا في الناس بالعدل والرحمة، واستوصوا بالشباب خيرًا، وادعموا التعليم الحقيقي، والتعليم الديني المتوازن، وكونوا عونًا لأهل الفقه والبيان في مواجهة الفكر المنحرف، فالمعركة اليوم ليست في السلاح وحده، بل في بناء الإنسان الذي يُفرّق بين الحق والباطل، ويعلم أين يضع قدمه، وكيف ينهض بوطنه.
ثالثًا، للأمة العربية والإسلامية كلها:
إننا نعيش مرحلة فارقة، تتكالب فيها القوى، وتتقاطع المصالح، وتُطمس فيها في الحقوق. وقد آن الأوان أن نعود إلى الجوامع لا إلى الفُرقة، إلى وحدة الكلمة لا إلى تمزيق الصفوف. أمتنا بحاجة إلى تجديد عقلها، وإحياء روحها، لا بصراعات داخلية، بل بتعزيز العلم، وتقوية العدالة، والرجوع إلى الدين في صورته المضيئة التي تنصر الحق، وتُعلي الإنسان، وتُقيم العمران.
رسالتي في مجملها: الرحمة، الرحمة، ثم الرحمة. فهذا الدين بُني على الرحمة، ونبينا بُعث رحمة، والقرآن كله دعوة إلى الرحمة، ومن فقدها، فقد لبّ الدين وروحه، مهما تكثرت صلاته أو تعاظمت شعاراته.
ونسأل الله أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى، وأن يحفظ مصر وأهلها، وأن يجمع قلوب الأمة على الخير، وأن يجعلنا جميعًا من عباده الصالحين المصلحين.