آخر الأخبار

ما أهمية مجمع نيقية؟ ولماذا سافر البابا لاون ليحتفل به في تركيا؟

شارك
مصدر الصورة

وصل البابا لاون الرابع عشر، رأس الكنيسة الكاثوليكية، إلى بلدة إزنيق التركية الهادئة - المعروفة تاريخياً بنيقية وتبعد نحو ساعتين عن إسطنبول - للمشاركة في إحياء مرور 1700 عام على انعقاد مجمع نيقية الأول عام 325 ميلادية.

وشارك في المراسم بطريرك القسطنطينية المسكوني برثلماوس وعدد من قادة الكنائس.

كان هذا الحدث مقرراً في عهد البابا الراحل فرنسيس، الذي توفي في أبريل/نيسان الماضي، لكن أُرجئ بعد وفاته. وفي مقابلة نُشرت في سبتمبر/أيلول، قال البابا لاون الرابع عشر إن "أحد أعمق الجروح في حياة الكنيسة اليوم هو انقسام المسيحيين"، مضيفاً أنه شجّع على إحياء ذكرى المجمع لأنه يمثّل أرضية مشتركة تجمع مختلف الطوائف.

لكن ما الذي يجعل هذا المجمع محورياً في التاريخ المسيحي؟ وما الدور الذي لعبه الإمبراطور قسطنطين الأول في انعقاده؟

قسطنطين الأول

تنقل دائرة المعارف البريطانية أن فلفيوس فاليريوس قسطنطينوس، المعروف بقسطنطين الأول أو قسطنطين العظيم، ولد في نايس بموزيا، وهي نيش الحالية في صربيا.

تاريخ الميلاد نفسه محل خلاف بين المصادر، ويتأرجح عادة بين عامي 272 و280. والده هو قسطنطيوس الأول ووالدته هيلينا. نشأ في مرحلة اضطراب سياسي واسع انتهت مع إصلاحات الإمبراطور دقلديانوس في أواخر القرن الثالث.

أطلق دقلديانوس نظام الرباعية (Tetrarchy) عام 293، وهو ترتيب قسّم السلطة بين إمبراطورين كبيرين (أوغستي) وإمبراطورين صغيرين (قيصر) بهدف ضبط وحدة الإمبراطورية. لكن لم تدم التجربة طويلاً وأنتجت صراعات جديدة سرعان ما تحوّلت إلى حروب أهلية كان قسطنطين طرفاً رئيسياً فيها.

عُيّن قسطنطيوس والد قسطنطين قيصراً ثم أوغستاً، وتوفي خلال حملة في بريطانيا عام 306. بعد وفاته، أعلن الجيش ابنه قسطنطين إمبراطوراً. ومنذ ذلك الحين خاض سلسلة حروب استمرت قرابة عقدين لتثبيت سلطته.

وفي عام 312، تقدّم نحو إيطاليا وهزم منافسه ماكسنتيوس في معركة جسر ميلفيو قرب روما. وترد في بعض المصادر المتأخرة رواية عن رؤيته علامة الصليب في السماء قبل المعركة، إلا أن الباحثين يصنفونها ضمن البناء الديني للسيرة أكثر من كونها واقعة يمكن التحقق منها.

وكان ذلك بداية التغيير بالنسبة للمسيحية التي عاشت قروناً من الاضطهادات المتقطعة، خصوصاً في القرنين الثاني والثالث، حين كانت السلطات الرومانية ترى في المسيحيين خطراً على النظام العام بسبب رفضهم تقديم القرابين للآلهة، وهي ممارسة كانت تعدّ جزءاً من الولاء السياسي للإمبراطور.

مصدر الصورة

تواصلت موجات الاضطهاد ضد المسيحيين عبر القرنين الثاني والثالث، وبلغت أشدها في عهد دقلديانوس أواخر القرن الثالث، حين شملت الحرق والسجن ومصادرة الكتب والكنائس. ورغم ذلك، واصلت المسيحية انتشارها بوتيرة عجزت السلطة عن كبحها.

بعد عام واحد على معركة جسر ميلفيو، أصدر قسطنطين "مرسوم ميلانو" عام 313، مانحاً المسيحيين حرية العبادة. ومع تحوّل ميزان القوة داخل الإمبراطورية، بدأ ينظر إلى المسيحية باعتبارها أداة لتوحيد الدولة، فاتخذ خطوات سريعة لتعزيز حضورها، من بناء كنائس كبرى إلى تعيين شخصيات قريبة من الكنيسة في مواقع نفوذ.

ويعد قسطنطين أول إمبراطور روماني يعتنق المسيحية. ومعه بدأ انتقال الإمبراطورية من التعددية الدينية إلى هوية مسيحية واضحة مهدت لاحقاً لصعود الثقافة البيزنطية. وتمكّن خلال سلسلة من الحروب من إنهاء الانقسامات العسكرية، ليصبح الحاكم الوحيد عام 324، ويوحّد الإمبراطورية تحت سلطته. وفي العام نفسه أسّس "روما الجديدة" على موقع بيزنطة، التي أعاد تسميتها بالقسطنطينية، في خطوة أنهت عملياً مكانة روما التاريخية كعاصمة سياسية.

توفي قسطنطين في 22 مايو/أيار 337 في أنسيرونا قرب نيقوميديا، وهي إزميت الحالية في تركيا.

ومن أبرز محطات عهده دعوته إلى أول مجمع مسكوني في نيقية.

جاء ذلك بعد تفاقم الخلافات داخل الكنيسة، خصوصاً النزاع المعروف بالجدل الآريوسي، نسبة إلى الكاهن الإسكندري آريوس الذي قدّم تفسيراً لطبيعة المسيح أثار انقساماً واسعاً.

تباينت مواقف الأساقفة بين مؤيدين ومعارضين، وتصاعد التوتر في الإسكندرية ومناطق آسيا الصغرى إلى حدّ اضطرابات اجتماعية عنيفة.

هذا التفكك أقلق قسطنطين، الذي رأى في الصراع اللاهوتي تهديداً مباشراً لوحدة الإمبراطورية التي سعى إلى تثبيتها بعد سنوات من الحروب الداخلية.

مجمع نيقية الأول

انعقد مجمع نيقية الأول عام 325 وهو أول مجمع مسكوني للكنيسة المسيحية، أي اجتماع للأساقفة من جميع أنحاء الإمبراطورية، وقد انعقد في مدينة نيقية القديمة (التي تعرف اليوم باسم إزنيق في تركيا)، ودعا إلى انعقاده الإمبراطور قسطنطين الأول الذي ترأس الجلسة الافتتاحية وشارك في المناقشات، بحسب دائرة المعارف البريطانية.

ويعدّ هذا المجمع واحداً من أهم المجامع في تاريخ المسيحية، بل يمكن اعتباره الحدث المؤسس الذي خرجت منه الكنيسة بصورتها العقائدية المنظمة، بعدما ودّعت مرحلة الاضطهادات الطويلة ودخلت مرحلة جديدة من الحضور العلني والدعم الإمبراطوري.

وقد اختار قسطنطين مدينة نيقية تحديداً لتكون مقر المجمع، لأنها قريبة من العاصمة الجديدة القسطنطينية التي كان يعمل على بنائها، ولأنها مدينة هادئة وآمنة وبعيدة عن التأثيرات المحلية التي قد تؤثر على مناخ النقاش.

وقد حضر المجمع ما بين 250 و318 أسقفاً، بحسب اختلاف المصادر، وهو عدد كبير يدل على أهمية الحدث وعلى رغبة قسطنطين في جعل القرار الصادر عن المجمع قراراً ذا طابع عالمي يمثل الكنيسة كلها.

مصدر الصورة

كان بين المشاركين في المجمع شخصيات بارزة، من بينهم ألكسندروس الإسكندري، الخصم الرئيسي لآريوس، والشماس الشاب أثناسيوس، الذي سيصبح لاحقاً بطريرك الإسكندرية وأحد أهم المدافعين عن العقيدة النيقاوية. كما حضر أوسيوس القرطبي، المستشار الديني للإمبراطور، الذي لعب دوراً مهماً في إدارة الجلسات وتوجيه النقاش. وشارك أساقفة من سوريا وفلسطين وآسيا الصغرى واليونان وإيطاليا ومناطق أخرى. أما البابا سيلفستر الأول فلم يحضر، لكنه أوفد مندوبين لتمثيله.

كان قسطنطين يأمل أن يضع المجمع حداً للانقسام الذي أثارته الآريوسية في كنيسة الشرق. كان آريوس يرى أن الابن كائن مخلوق "أسمى المخلوقات" لكنه ليس إلهاً مساوياً للآب. وقد كان شخصية نسكية ذات تأثير في الإسكندرية، وجذب أتباعاً بفضل منهجه الذي جمع بين الفلسفة الأفلاطونية والتفسير العقلاني للنصوص الإنجيلية، مؤكداً وحدة الألوهية المطلقة باعتبارها ذروة الكمال.

انتشرت أفكار آريوس على نطاق واسع نحو عام 323، خصوصاً عبر أبيات شعرية من عمله الرئيس ثالِيا ("الوليمة")، وكذلك من خلال أناشيد شعبية تناقلها العمال والمسافرون.

بعد أسابيع من النقاش، توصل الأساقفة في نيقية، وقد اعتبروا أن جوهر الخلاص مهدد، إلى صياغة "قانون الإيمان النيقاوي"، وفيه الإعلان بأن المسيح "مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر".

ولتحديد هذا المعنى بدقة، أدخل المجمع مصطلح "هوموأوسيوس" اليوناني ويعني "من جوهر واحد"، لتأكيد المساواة التامة بين الآب والابن ورفض الموقف الآريوسي. حافظ هذا التعبير على ما اعتبرته الكنيسة سر التجسد: أن الذي ولد وتألم ومات وقام لم يكن مخلوقاً بل الابن الأزلي.

وقعت غالبية الأساقفة على القانون، ورفضه قلة نفوا مع آريوس. وأصدر الإمبراطور أوامر بحرق كتابات آريوس، مما منح العقيدة النيقاوية قوة رسمية إلى جانب سندها اللاهوتي.

يعد قانون الإيمان النيقاوي القانون المسكوني الوحيد المتفق عليه بين الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية والكنيسة الأنجليكانية والعديد من الكنائس البروتستانتية الرئيسية. أما قانون الإيمان الرسولي وقانون أثناسيوس فتعتمده بعض هذه الكنائس لا جميعها.

أصدر المجمع أيضاً قرارات تنظيمية مهمة: تثبيت موعد عيد القيامة وفق الأحد الأول بعد البدر الكامل الذي يلي الاعتدال الربيعي، تحديد ضوابط تكريس الأساقفة، إدانة إقراض المال بالفائدة لرجال الدين، ومنع انتقال الأساقفة والكهنة والشمامسة من كنيسة إلى أخرى. ويذكر المؤرخ سقراط السكوليستي في القرن الخامس أن المجمع بحث في فرض العفة الإلزامية على رجال الدين لكنه لم يقرّ ذلك بسبب الاعتراضات.

أسست قرارات مجمع نيقية نظاماً كنسياً موحداً استمر لقرون، وأصبحت مرجعاً للكنائس الشرقية والغربية على السواء.

الأهمية التاريخية

مصدر الصورة

لا تتجسد أهمية مجمع نيقية الأول في كونه أول مجمع مسكوني فحسب، بل في ما أحدثه من تحول عميق في علاقة الدين بالدولة. فمنذ تلك اللحظة، أصبحت المسيحية جزءاً من مشروع الإمبراطورية، وصار الإمبراطور طرفاً فاعلاً في صياغة العقيدة وتنظيم البُنى الكنسية.

هذا التحول نقل المسيحية من الهامش إلى المركز: من جماعة تعرّضت لاضطهاد متقطع عبر ثلاثة قرون إلى ديانة تحظى بحماية رسمية، قبل أن يعلنها الإمبراطور ثيودوسيوس الأول في أواخر القرن الرابع الديانة الرسمية للدولة. لكنه فتح أيضاً الباب لتداخل السياسة والعقيدة، ما حوّل كثيراً من الخلافات اللاهوتية لاحقاً إلى صراعات ذات أبعاد سياسية واضحة.

برز من بين أساقفة المجمع أثناسيوس، الذي أصبح لاحقاً المدافع الأبرز عن مقررات نيقية. واجه ضغوطاً سياسية متكررة وتعرض للنفي أكثر من مرة، لكنه تمسك بالعقيدة النيقاوية حتى ترسخت وانتصر خطه اللاهوتي.

حفظ قانون الإيمان النيقاوي الصيغة التي تعلن في المعمودية إله واحد في ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس. وبنيت المجامع اللاحقة على هذا الأساس. فأقر مجمع القسطنطينية عام 381 الألوهية الكاملة للروح القدس، وثبت مجمع أفسس عام 431 وحدة شخص المسيح وأدان نسطور، ثم أعلن مجمع خلقيدونية عام 451 أن المسيح واحد في طبيعتين.

اتضح بعد ذلك أن مجمع نيقية لم ينهِ الخلافات داخل الكنيسة، بل افتتح مرحلة جديدة من الجدل بين تيارات لاهوتية وسياسية متنافسة. ومع ذلك، بقي قانون الإيمان النيقاوي الوثيقة الجامعة التي تعتمدها الكنائس في الشرق والغرب حتى اليوم، ويتلوها المؤمنون في القداس باعتبارها خلاصة العقيدة الأساسية.

أما مدينة نيقية (إزنيق الحالية) فاكتسبت مكانة خاصة في التاريخ المسيحي، إذ شهدت المجمع الأول ثم استضافت مجمع نيقية الثاني عام 787، الذي أعاد الاعتبار لتكريم الأيقونات بعد صراع طويل حول تحطيمها. وهذا جعلها موقعاً تراثياً مركزياً في الذاكرة المسيحية.

تعطي زيارة البابا لإحياء ذكرى المجمع زخماً جديداً لهذا الإرث، وتعيد إبراز الدور المحوري الذي لعبته الأناضول في تاريخ المسيحية المبكرة، باعتبارها مسرحاً لأحداث كبرى أسهمت في تشكيل العالم الروحي والثقافي في أوروبا والشرق الأوسط.

يمثل مجمع نيقية الأول أيضاً لحظة فارقة في تاريخ الديانات عامة، لأنه أظهر الكيفية التي يمكن أن يصبح فيها الدين عنصراً من عناصر الهوية السياسية والثقافية للدولة، وكيف تتبلور العقيدة في تفاعل مستمر بين اللاهوت والسلطة.

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا