آخر الأخبار

جحيم الكاريبي.. هل يمكن لفنزويلا أن تصمد أمام حرب أميركا المرتقبة؟

شارك

في الثاني من سبتمبر/أيلول 2025، تهادت سفينة صيد صغيرة في رحلة معتادة فوق مياه الكاريبي، لكن طاقمها المكون من أحد عشر رجلًا كان يجهل أن أمامه دقائق معدودة قبل معاينة الموت. فجأة ودون سابق إنذار، انطلق صاروخٌ من مدمرة تابعة للبحرية الأميركية، مُطيحا بالسفينة الصغيرة في انفجارٍ مدوٍّ تناثرت فيه قطع الحطام والجثث عبر الأمواج.

أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الضربة بعد ساعات، متحدثا عن "عملية ناجحة" في حرب أميركا الجديدة على المخدرات. أما في كاراكاس، فقال الرئيس نيكولاس مادورو إن الولايات المتحدة تُروّج لرواية زائفة حول تهريب المخدرات من أجل استهداف فنزويلا وبدأ في حشد أمته للحرب.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 القاتل الآلي الجديد.. إليك سر دبابة المستقبل الأميركية
* list 2 of 2 ديك تشيني.. فتح الباب لترامب ثم ندم قبل أن يموت end of list

شكّلت هذه الضربة بدايةً لأخطر مواجهة بين الولايات المتحدة ودولة من أميركا اللاتينية منذ عقود. فمنذ ذلك اليوم، شنّت القوات الأميركية هجمات على ما لا يقل عن 20 سفينة في مياه البحر الكاريبي وشرق المحيط الهادي ، مما أسفر عن مقتل 80 شخصًا على الأقل.

ولكن مع تجول حاملة الطائرات الأميركية جيرالد فورد قرب المياه الفنزويلية برفقة آلاف الجنود الأميركيين، وتسعة أسراب جوية، وأكثر من اثنتي عشرة سفينة حربية، لا يعتقد سوى قلة من المراقبين أن الأمر يقتصر على وقف قوارب تهريب المخدرات.

مصدر الصورة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يشير بقبضته لبعض مؤيديه في مسيرة في العاصمة كاراكاس في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 (رويترز)

فبحسب صحيفة واشنطن بوست، تمثل هذه التحركات "حشدًا غير معتاد" من السفن الحربية والطائرات المقاتلة وطائرات المراقبة قبالة سواحل فنزويلا. هذا الحشد ربما يكون غطاءً لتحركٍ عسكري أوسع، يتجاوز المناوشات البحرية الراهنة. وهكذا تنذر المواجهة المتصاعدة بتحويل منطقة البحر الكاريبي إلى بؤرة توتر محتملة، حيث تتقاطع منافسات القوى العظمى، مع السياسة الداخلية، والصراع حول النفط، مع المنافسات الأيديولوجية، طارحة سؤالا ملحا عما إذا كانت إدارة ترامب ستتدخل للإطاحة عسكريا بالحكومة الفنزويلية وعن العواقب المنتظرة لهذا التدخل المحتمل.

إرث من الصراع

لا يُمكن فهم الصراع الحالي بين واشنطن وكراكاس دون التوغّل في ربع قرن من العداء الذي سبقه. دخلت العلاقات الأميركية الفنزويلية في طور التدهور الحاد منذ عام 1999 عندما تولى هوغو شافيز ، الضابط السابق في الجيش، رئاسة فنزويلا بعد انتخابات ديمقراطية مطلقا "ثورته البوليفارية" التي نادت بسياسات مناهضة للإمبريالية مع إعادة توزيع الثروة، الأمر الذي وضعه في خلاف حتمي مع المصالح الأميركية في أميركا اللاتينية.

إعلان

اشتد الصراع بشكل كبير حول ثروة فنزويلا النفطية. منذ عام 2007، شرعت فنزويلا في تأميم الصناعة النفطية، مما اضطر شركات عالمية إلى قبول حصص أقلية تحت سيطرة الدولة أو التخلي عن استثماراتها كليًّا.

وفي وحين وافقت شركات توتال وشيفرون وستات أويل وبي بي على بيع حصص مسيطرة من استثماراتها لشركة بتروليوس دي فنزويلا (PdVSA) المملوكة للدولة والبقاء في فنزويلا كشركاء أقلية، رفضت إكسون وكونوكو فيليبس الأميركيتان الأمر، مما دفع فنزويلا إلى مصادرة ممتلكاتهما. وعندما رفعت الشركتان دعاوى قضائية للمطالبة بتعويضات، هدد شافيز بقطع صادرات النفط عن الولايات المتحدة، التي كانت تتلقى آنذاك ما يقرب من 1.5 مليون برميل يوميًّا من فنزويلا.

في غضون ذلك ساهم دعم الولايات المتحدة الضمني لمحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2002 التي سعت للإطاحة بشافيز من السلطة وتنصيب رجل الأعمال بيدرو كارمونا رئيسا في تفاقم توتر العلاقات. ورغم نفي واشنطن تورطها المباشر، فإن الحادثة رسّخت التصورات الفنزويلية بشأن الطموحات الإمبريالية الأميركية. ردّ شافيز بتوطيد العلاقات مع خصوم الولايات المتحدة عبر شراء أسلحة روسية بمليارات الدولارات، وقبول استثمارات صينية، وضمّ فنزويلا إلى "المحور المناهض للإمبريالية الأميركية".

وعندما خلف نيكولاس مادورو شافيز بعد وفاته عام 2013، ورث الأيديولوجية الثورية مع بدايات التراجع الاقتصادي الذي سرعان ما حوله مادورو إلى كارثة اقتصادية كاملة حدّدت معالم حكمه حتى اليوم. لقد انهار اقتصاد فنزويلا، الذي أضعفه الفساد وسوء الإدارة تحت وطأة انخفاض أسعار النفط بعد عام 2014، وأعقب ذلك دمار اقتصادي واسع نادرًا ما يُرى إلا في أوقات الحرب.

تقلص الناتج المحلي الإجمالي لفنزويلا بنسبة 75% بين عامي 2014 و2021 وتفاقمت معدلات التضخم إلى نسبة 270% في عام 2025، وانخفضت قيمة العملة بنسبة 381% آخر 12 شهرا فقط (بيانات أكتوبر/تشرين الأول 2025). إضافة إلى تفاقم الوضع الإنساني جرّاء انهيار الخدمات العامة مثل الرعاية الصحية والمياه والصرف الصحي والتعليم وحتى الغذاء، حيث يعاني 40% من سكان فنزويلا من "احتياجات غذائية حرجة"، وهي أزمة تؤثر بشكل خاص في الأطفال.

كان رد إدارة ترامب خلال ولايتها الأولى حملة "ضغط قصوى" من خلال فرض عقوبات شاملة استهدفت قطاع النفط الفنزويلي، شريان الحياة لإيرادات الحكومة. ففي يناير/كانون الثاني 2019، فرضت واشنطن عقوبات على شركة النفط الوطنية الفنزويلية (PDVSA) منعتها تلقي مدفوعات صادرات النفط إلى الولايات المتحدة كما منعت جميع الشركات الأميركية من إجراء معاملات مالية مع الشركة الفنزويلية، مما أدى إلى تجميد 7 مليارات دولار من الأصول الفنزويلية وخنق الاقتصاد الذي كان يعاني أصلًا من الركود. ثم خففت إدارة بايدن بعض العقوبات لفترة وجيزة في عام 2023 مقابل وعود بإجراء انتخابات حرة، لكنها أعادت فرضها لاحقا.

مصدر الصورة أصبحت فنزويلا في عهد مادورو بؤرةً للمحور المناهض للإمبريالية بتفاهمات مع الصين وروسيا (رويترز)

دمرت العقوبات إنتاج فنزويلا النفطي، الذي انخفض من 3.5 ملايين برميل يوميًّا في نهاية التسعينيات إلى 400 ألف برميل فقط بحلول منتصف عام 2020، قبل أن يتعافى نسبيا ليصل إلى أكثر من مليون برميل يوميًّا بحلول عام 2025، وهو مستوى لا يزال أقل بكثير من المستويات التاريخية.

إعلان

تسببت هذه الحرب الاقتصادية في كارثة إنسانية دفعت نحو 7 ملايين فنزويلي -أي أكثر من ربع السكان- إلى الفرار من البلاد، مما أدى إلى واحدة من أكبر أزمات النزوح في العالم.

"إرهاب المخدرات".. حقيقة أم ذريعة؟

يمكن تفسير الحشد العسكري الأميركي حول فنزويلا بأنه جزء من التاريخ الممتد للصراع بين البلدين، غير أن أميركا تضع عنوانا مضللا للصراع يخفي الجزء الأكبر من أهدافها الحقيقية. حيث تقول واشنطن إن تحركها العسكري في الكاريبي جزءٌ من حملة موسّعة لمكافحة تهريب المخدرات.

ومنذ عام 2020، صنّفت وزارة العدل الأميركية الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو وعددًا من كبار المسؤولين في حكومته ضمن شبكة تمارس "إرهاب المخدرات"، ووجّهت إليهم اتهاماتٍ رسمية بتهريب الكوكايين واستخدام مرافق الدولة لتغطية أنشطتهم.

يشير مصطلح "إرهاب المخدّرات" إلى استغلال تجارة المخدرات في تمويل العنف السياسي أو الأنشطة الإرهابية، ويُستخدم قانونيًّا وسياسيًّا لوصف المنظمات الإجرامية أو الكيانات الحكومية التي توظّف عائدات المخدرات لدعم جماعاتٍ مسلّحة، أو شراء أسلحة، أو زعزعة استقرار دول أخرى. وتطبّق وزارة العدل الأميركية هذا التصنيف حين يثبت وجود صلة مباشرة بين تجارة المخدرات والسلطة السياسية.

وفي حالة مادورو، يؤكد الادّعاء الأميركي أن الرئيس الفنزويلي وحلفاءه استغلّوا مؤسسات الدولة لتسهيل تهريب الكوكايين وتمويل جماعات مسلحة مثل حركة فارك الكولومبية، مما جعل تجارة المخدرات أداة للإكراه السياسي والعنف برعاية الدولة. روجت الإدارة الأميركية كذلك رواية "مضللة" حول سيطرة الرئيس مادورو على عصابة ترين دي أراغوا الإجرامية، زاعمة أنه يستخدمها لـ"غزو" الولايات المتحدة.

ورغم أن التحقيقات المستقلة الصادرة عن وكالات الاستخبارات الأميركية نفسها دحضت هذه الرواية إلى حد كبير باعتبارها مبالغًا فيها أو لا أساس لها من الصحة، فإن هذه الرواية وفرت لإدارة ترامب -داخل أميركا على الأقل- مبررًا للانتشار العسكري قرب فنزويلا.

الأهم من ذلك أن الخبراء المختصين أشاروا إلى أن معظم الكوكايين المهرَّب إلى الولايات المتحدة يأتي عبر المحيط الهادي وليس عبر الكاريبي. يشير تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة لعام 2023، استنادا إلى بيانات وكالة مكافحة المخدرات الأميركية، إلى أن المسار الأكبر لتهريب الكوكايين إلى الشمال يمر عبر المحيط الهادي بنسبة تقارب 74% وأن المهربين يستخدمون الطائرات لإرسال بعض الشحنات عبر الكاريبي. في السياق ذاته، أشار تقرير لبي بي سي إلى أن فنزويلا لا تُنتج كمياتٍ كبيرة من الكوكايين، إذ تُعدّ كولومبيا وبيرو وبوليفيا المصادر الرئيسية لإنتاجه في المنطقة.

ووفقًا لتقرير إدارة مكافحة المخدرات الأميركية لعام 2025، فإن 84% من الكوكايين المصادَر في الولايات المتحدة يأتي من كولومبيا، مع الإشارة إلى دولٍ أخرى مشاركة في النقل والعبور، من دون أن تُذكر فنزويلا تحديدا ضمن القسم المخصّص للكوكايين في هذا التقرير.

وهذا ما يدفع الخبراء والمحللين إلى اعتقاد أن الحشد العسكري الأميركي حول فنزويلا، المسمّى مؤخرا بـ"عملية الرمح الجنوبي" يرمي إلى ما وراء إنفاذ قوانين مكافحة المخدرات، وأن قضية المخدرات تشكل غطاء قانونيًّا وسياسيًّا لأهدافٍ أكثر طموحًا.

مصدر الصورة يقدر الفنزويليون رئيسهم السابق هوغو تشافيز الذي تصاعد فيه عهده الشقاق مع الولايات المتحدة (الفرنسية)

يقع التنافس المحتدم بين "القوى العظمى" في قلب تلك الأهداف التي تشكل السياسة الأميركية. أصبحت فنزويلا في عهد مادورو بؤرةً للمحور المناهض للإمبريالية (بزعامة الصين وروسيا) في نصف الكرة الغربي. لا تدعم فنزويلا الصين سياسيًّا في قضايا من تايوان إلى بحر جنوب الصين فقط، بل تتبنى أيضًا رؤية بكين للعالم أكثر من معظم دول أميركا اللاتينية.

إعلان

هذا التوافق الأيديولوجي، إن صح الوصف، إلى جانب التعاون العملي، الذي يشمل شراء الصين 95% من صادرات النفط الفنزويلية، ومبيعات أسلحة روسية بمليارات الدولارات إلى كراكاس، يُحوّل فنزويلا إلى تهديد إستراتيجي من وجهة نظر واشنطن.

عبّر المستشار السابق للبيت الأبيض في عهد أوباما ورئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي مايك فرومان عن هذا الرأي صراحةً قائلا: "بالنسبة للرئيس دونالد ترامب، أصبحت فنزويلا نقطة انطلاقٍ لتطبيق مبدأ مونرو في القرن الحادي والعشرين، وهي تجربة في إبراز القوة مدفوعةٌ ظاهريًّا بحربٍ جديدة على المخدرات، ولكنها متجذرة في إيمان الرئيس بأن الهيمنة في نصف الكرة الغربي ضرورةٌ للأمن القومي".

إن الخوف من أن تصبح أميركا اللاتينية "الخاصرة الضعيفة" لأميركا في منافسة القوى العظمى يدفع إلى اتخاذ إجراءاتٍ عدوانيةٍ تهدف إلى إثبات أن النفوذ الصيني والروسي في نصف الكرة الغربي لن يكون مقبولا.

بالإضافة إلى الحتميات الجيوسياسية، هناك حضور شخصي لافت لا يمكن تجاهله يظهر في التزام وزير الخارجية ماركو روبيو الشخصي بتغيير النظام الفنزويلي. كان روبيو "القوة الدافعة وراء الموقف العسكري والخطابي العدواني الأميركي اتجاه نظام مادورو" بعد أن نجح في إعادة صياغة صورة فنزويلا مستغلا هوس ترامب بمكافحة المخدرات، ومقدمًا مادورو على أنه "إرهابي مخدرات" يقود شبكة تهريب عابرة للحدود.

أثبتت هذه الرواية إقناعها عند اقترانها بوعد الوصول إلى ثروة فنزويلا النفطية. لذلك، عندما عرض مادورو على الولايات المتحدة السيطرة على احتياطيات فنزويلا النفطية بإصرار مقابل وقف العمل العسكري، بدا ترامب مقتنعا في البداية، قائلا إن الرئيس الفنزويلي "عرض كل شيء".

لكن روبيو أقنع ترامب بأن تسهيل تغيير النظام وإبرام صفقة مع حكومة جديدة خيار أفضل. وقد كشف ذلك الموقف أن التنازلات التجارية وحدها لن تُلبي أهداف واشنطن التي يبدو أنها ترغب فيما هو أكثر من الوصول إلى مواءمة تجارية مع النظام في فنزويلا.

عملية الرمح الجنوبي

يكشف حجم الحشود العسكرية الأميركية في الكاريبي عن هذه الحقيقة بوضوح. يُمثل الانتشار الأميركي حول فنزويلا اليوم أكبر حشد للقوات الأميركية في أميركا اللاتينية منذ غزو بنما عام 1989، وقد جرى على مراحل مُعدّة بعناية تهدف إلى تعظيم الضغط على النظام الفنزويلي مع الحفاظ على إنكار معقول للأهداف النهائية.

يتمحور العنصر البحري في الحشد العسكري الأميركي حول مجموعة حاملة الطائرات يو إس إس جيرالد فورد ، التي وصلت إلى منطقة عمليات القيادة الجنوبية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 بصحبة مجموعتها الجوية الكاملة التي تشمل عشرات المقاتلات من طراز "إف/إيه-18 هورنت"، ومقاتلات الجيل الخامس الشبحية "إف-35 لايتنينغ 2" وطائرات الإنذار المبكر "إي – 2 هوك آي"، بجانب المروحيات العسكرية، بالإضافة إلى أكثر من أربعة آلاف من جنود البحرية.

ترافق حاملة الطائرات مدمرتا الصواريخ الموجهة "يو إس إس ماهان" و"يو إس إس بينبريدج"، وطراد الدفاع الجوي "يو إس إس وينستون تشرشل". وبالتوازي، تتمركز في المنطقة مجموعة الإنزال البرمائية بقيادة سفينة الهجوم البرمائية "يو إس إس إيو جيما"، التي تزن نحو 40 ألف طن وتعمل قاعدةً جوية عائمة، تقل مئات من قوات المارينز ، والعديد من المروحيات العسكرية والطائرات المقاتلة. وفي المجمل، يضم الوجود البحري أكثر من اثنتي عشرة سفينة حربية تحمل أكثر من 12,000 من جنود مشاة البحرية.

تنفّذ هذه القوات تدريبات على عمليات إنزال واقتحام بشكل مستمر. وكما نقلت واشنطن بوست فإن مروحيات العمليات الخاصة، التابعة للفرقة 160 من طيران الجيش الأميركي، أجرت تدريبات على بعد أقل من تسعين ميلًا من السواحل الفنزويلية، استعدادًا لأي "نزاع موسّع" يشمل مهامَّ داخل الأراضي الفنزويلية.

وإلى جانب حاملات الطائرات ومجموعات الإنزال، تواصل مجموعة من المدمّرات وسفن المرافقة تمشيط مياه الكاريبي بدوريات مكثّفة، وبرز وجودها من خلال سجلات الزيارات وصور الأقمار الاصطناعية. فعلى سبيل المثال، رست المدمّرة "يو إس إس غرايفلي" مؤخرًا في أحد موانئ ترينيداد وتوباغو لإجراء تدريبات مشتركة مع القوات المحلية، وفقًا لما نقلته صحيفة نيوزويك.

مصدر الصورة حاملة الطائرات الأميركية جيرالد فورد تنشط في البحر الكاريبي غير بعيد من فنزويلا بحجة مكافحة تهريب المخدرات (الفرنسية)

وفي الأعماق، دفعت البحرية الأميركية بغواصة هجومية تعمل بالطاقة النووية إلى مياه الكاريبي، لتضيف طبقة جديدة إلى حشدها العسكري. وفي السماء، توسع الحشد الجوي الأميركي في سبتمبر/أيلول الماضي بعشر مقاتلات شبحية من طراز "إف-35" نُقلت إلى قاعدة جوية ببورتو ريكو لـ"تنفيذ العمليات ضد تجار المخدرات"، وفقًا لما أفادته وكالة رويترز. وفي نفس الشهر، رصدت الأقمار الاصطناعية الطائرة الأميركية المسيرة الأشهر "إم كيو-9 ريبر" في مطار رافائيل هيرناندز الدولي في بورتو ريكو.

إعلان

وفي منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي رُصدت ثلاث قاذفات شبحية أميركية من طراز "بي-52" تحلّق في مساراتٍ دائرية في المجال الجوي الدولي قبالة سواحل فنزويلا كما أشار تقرير لموقع "ذا وور زون". كما أظهرت بيانات تتبّع الرحلات الجوية أن قاذفتين أميركيتين ثقيلتين أسرع من الصوت، من طراز "بي-1 بي لانسر"، حلّقتا بالقرب من الأجواء الفنزويلية في نهاية الشهر نفسه. أقلعت القاذفتان من قاعدة غراند فوركس الجوية في ولاية داكوتا الشمالية، وتوجّهتا جنوبًا نحو فلوريدا، قبل أن تعبرا فوق بورتو ريكو وتتابعا الطيران على مقربة من الساحل الشمالي لفنزويلا.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى تأكيد ترامب في 15 أكتوبر/تشرين الأول أنه سمح لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) بإجراء عمليات سرية داخل فنزويلا، وهو اعتراف علني غير مسبوق بأنشطة طالما غلفت بالسرية. وقد أشار هذا الإعلان، مقترنًا بتصريح ترامب بأن "البر سيكون هو الميدان التالي"، إلى استعداد واشنطن لتوسيع نطاق العمليات إلى ما يتجاوز الحظر البحري.

حدود العملية الأميركية.. وطبيعة الرد الفنزويلي

اتسمت وتيرة العمليات الأميركية بسرعة ونشاط ملحوظين. فمنذ الثاني من سبتمبر/أيلول، شنّت القوات الأميركية ما لا يقل عن 20 غارة جوية على سفن يُزعم أنها تحمل مخدرات، أسفرت عن مقتل 80 من "إرهابيي المخدرات" المزعومين. وقد أثارت هذه الهجمات إدانة دولية، وأوقفت المملكة المتحدة وكولومبيا تبادل المعلومات الاستخبارية بشأن تهريب المخدرات، وتساءلتا عما إذا كانت هذه الغارات تنتهك القانون الدولي.

في ضوء ذلك، يعتقد مختصون أن ما يجري يتجاوز الحرب على تهريب المخدرات إلى اختبار سياسي أوسع للنظام الفنزويلي، عبر استعراض أميركي للقوة، إذ يذكر ديفيد سميلدي، الباحث في الشأن الفنزويلي بجامعة تولين في لويزيانا، أن التحركات العسكرية الأميركية تهدف إلى زيادة الضغط على حكومة مادورو، قائلًا: "أعتقد أنهم يحاولون فرض أقصى قدر من الضغط على النظام، لمعرفة ما إذا كان سينهار". ووصف الخطوة بأنها ضمن "دبلوماسية البوارج"، معتبرا أنها تكتيك قديم الطراز للإطاحة بالأنظمة المعادية للإدارة الأميركية، وفقًا لوكالة رويترز.

ولكن رغم الحشد العسكري الأميركي غير المعتاد، من المرجح أن القوات المنتشرة في الكاريبي لا تمتلك قدرات كافية لعملية واسعة النطاق للإطاحة بالنظام الفنزويلي. للمقارنة، حين غزت الولايات المتحدة بنما عام 1989، نشرت نحو 26- 28 ألف جندي في "عملية القضية العادلة" (Operation Just Cause) التي أدت إلى الإطاحة بالجنرال مانويل نورييغا، بعد اتهامه بتهريب المخدرات و"انتهاك حقوق الإنسان".

يحذّر مؤرخون عسكريون من أن أي غزو لفنزويلا سيشكّل اختبارًا قاسيًّا وغير مسبوقٍ للقوة الأميركية، نظرًا لحجم التحديات الميدانية والسياسية التي ينطوي عليها. فبرغم ما قد يبدو من تشابهٍ شكلي مع عملية غزو بنما عام 1989، فإن فنزويلا تختلف جذريًّا: فهي دولة أوسع مساحةً، وأكثر كثافةً سكانية، وأفضل تجهيزًا عسكريًّا، مما يجعلها أعقد هدف محتمل قد تواجهه واشنطن في هذا الجزء من العالم منذ عقود.

الأهم من ذلك أن أي محاولةٍ لخلع الرئيس نيكولاس مادورو بالقوة ستُقابل على الأرجح بمقاومة شرسة من جيشٍ يزيد عدده على مئة ألف مقاتل، تدعمه الميليشيات المحلية المسلحة. إذ أفادت المصادر الرسمية أن "الميليشيا الوطنية" -وهي قوة مدنية تابعة للدولة ومساندة للجيش- تضم أكثر من 4.5 ملايين عضو جرت تعبئتهم عام 2025، وذلك في إطار ما تصفه الحكومة بـ"الاستعداد لمواجهة التهديدات الخارجية المتصاعدة".

مصدر الصورة الجيش الفنزويلي تدعمه مجموعات شعبية مسلحة وميليشيات يقدر تعدادها بأكثر من 4 ملايين مقاتل (الأوروبية)

لقد ردّت فنزويلا بالفعل على الحشد العسكري الأميركي بلهجةٍ حادّة، رافضةً ما اعتبرته تهديدًا مباشرًا بالغزو، حيث أعلن الرئيس نيكولاس مادورو تعبئة عشرات الآلاف من الجنود، وأطلق مناوراتٍ واسعة النطاق تحت اسم "خطة الاستقلال 200" على طول الساحل الكاريبي.

كما أكد وزير الدفاع الفنزويلي فلاديمير بادرينو لوبيز أن ما يحدث هو "حرب غير معلنة" ضد بلاده، وخلال مشاركته في مناورةٍ عسكرية في سبتمبر/أيلول الماضي صرّح قائلا: "يمكنكم أن تروا بأعينكم كيف يُعدم الناس في البحر الكاريبي، سواء كانوا مهرّبي مخدرات أم لا، ويُقتلون من دون حقٍّ في الدفاع عن أنفسهم".

وفي منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، صعّد مندوب فنزويلا في مجلس الأمن صموئيل مونكادا لهجته، متهمًا واشنطن بـ"اصطناع حرب في الكاريبي" تحت غطاء مكافحة المخدرات، موضحا أن "الهدف الحقيقي" هو السيطرة على موارد فنزويلا الطبيعية.

وقد لاقى موقف كاراكاس دعمًا واضحًا من حلفائها في موسكو وبكين وطهران، حيث وصف المندوب الروسي فاسيلي نيبينزيا التحركات الأميركية بأنها انتهاك صارخ للقانون الدولي وحقوق الإنسان، وقال: "نحن نشهد حملةً فاضحة من الضغط السياسي والعسكري والنفسي تمارسها واشنطن على حكومة دولةٍ مستقلة، بهدفٍ واحد هو تغيير نظامٍ لا يروق لها".

وأوضح نيبينزيا أن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة لا يصنّف فنزويلا مركزًا رئيسيًّا لتهريب المخدرات، مشيرًا إلى أن نحو 87% من الكوكايين الذي يدخل الولايات المتحدة يمرّ عبر المحيط الهادي، وهو مسار لا تطلّ عليه فنزويلا، مما يُضعف الذريعة الأميركية وراء هذا الحشد العسكري. وكذلك، حذر المندوب الصيني فو كونغ من أن "الضربات الأحادية تنتهك سيادة فنزويلا وتهدد حرية الملاحة"، وأصدرت بكين بيانًا طالبت فيه باحترام سلامة شعوب أميركا اللاتينية وعدم تعريض السلام الدولي للخطر.

في الوقت نفسه، بدأت فنزويلا تتحرك عمليًّا لتعزيز دفاعاتها، حيث كشفت تقارير استخبارية أن حكومة مادورو طلبت على وجه السرعة رادارات روسية ومقاتلات نفاثة وأنظمة صواريخ صينية وطائرات مسيّرة إيرانية. وكما كشفَت وثائق داخلية للحكومة الأميركية، حصلت عليها صحيفة واشنطن بوست، فإن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو طلب من روسيا إعادة تأهيل أنظمة الرادار الدفاعية، وصيانة الطائرات العسكرية، وتزويد بلاده بالصواريخ. وفي رسالة موجّهة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، طلب مادورو تمويلًا ودعمًا لوجستيًّا مباشرًا.

تُظهر الوثائق أن مسؤولين فنزويليين تواصلوا كذلك مع الصين وإيران بطلباتٍ مماثلة شملت التزويد بالطائرات المسيّرة ومعدات الحرب الإلكترونية، من دون أن يُعرف بعد موقف بكين أو طهران من تلك الطلبات، وفق الصحيفة الأميركية. وهكذا، تحاول الحكومة الفنزويلية تجاوز حدود الردود السياسية لتصل إلى تحالفات عسكرية معلنة مع خصوم واشنطن التقليديين، مما يعيد إلى الواجهة ملامح مشهد جيوسياسي يذكّر بأيام الحرب الباردة ، على ضفاف البحر الكاريبي.

يحذر محللون أن أي حربٍ من هذا النوع قد تتحول سريعًا إلى تمردٍ واسع النطاق، وتغرق الولايات المتحدة في مستنقعٍ مكلف وطويل الأمد. فحكومة مادورو المدعومة من شركاء أقوياء كروسيا والصين وإيران، قد تستدعي دعمًا عسكريًّا مباشرًا، مما يفتح الباب أمام نزاعٍ جيوسياسي موسّع. وحتى دون تدخلٍ خارجي، فإن اتساع رقعة فنزويلا الجغرافية وصعوبة تضاريسها سيشكّلان عبئًا هائلًا على أي عملية غزو، بلا ضمان لنصر سريع أو حاسم. وكما يقول أستاذ التاريخ في جامعة تمبل الأميركية، ألان ماكفرسون، فإن غزو فنزويلا "قد يتحوّل إلى عراقٍ جديد"، في نزاع أطول وأكثر تكلفة مما قد تتخيّله واشنطن.

تأمل واشنطن فيما يبدو أن حشدا عسكريا محدودا مع عمليات متفرقة وضغوط سياسية واقتصادية قد يدفع النظام إلى التداعي دون الحاجة إلى تدخل موسع. يتوافق ذلك مع مشهد الحشد العسكري الذي يتجاوز عملية لمنع تهريب المخدرات لكنه لا يرقى إلى مستوى التدخل الشامل.

المشكلة في هذا السيناريو غير الواضح المعالم أنه يمكن أن يخرج عن السيطرة في أي لحظة، دافعا نحو سيناريو الحرب الشاملة الذي من المؤكد أنه سيدمر فنزويلا لكن واشنطن لن تخرج منه سالمة، أو قريبة من ذلك، بأي حال.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا