شهدت سوريا في الـ5 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري انتخابات مجلس شعب جديد، تتويجا لمرحلة جديدة طوت صفحة الاستبداد السياسي الذي عانت منه البلاد لأكثر من 6 عقود.
وعكست الانتخابات -وفق مراقبين- حرص النظام السياسي الجديد على الانتقال من "شرعية الثورة إلى شرعية الدولة"، وتأسيس مرحلة تتسم بالتوافق، ومشاركة الشعب في صنع القرار، واعتبرت بمثابة رهان على مستقبل يتطلع فيه السوريون إلى مسار ديمقراطي حقيقي.
وجرت الانتخابات في مختلف أنحاء البلاد، عدا مدينة السويداء التي تعرضت لاضطرابات أمنية، ومنطقة شمال شرقي سوريا الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وتنافس فيها 1578 مرشحاً، بينهم 14% نساء، على 140 مقعداً من أصل 210 مقاعد، يعيّن الرئيس الثلث المتبقي.
وكان الإعلان الدستوري الذي صدر في 13 مارس/آذار الماضي، قد حدد دور المجلس بمنظومة مهام على رأسها:
في حين منحت المادة 24 منه رئيس الجمهورية صلاحية تعيين لجنة عليا تشرف على تشكيل هيئات فرعية تنتخب ثلثي أعضاء مجلس الشعب، ويعين الرئيس الثلث المتبقي لضمان التمثيل العادل والكفاءة.
فتح منح الرئيس صلاحية تسمية ثلث الأعضاء، نقاشات واسعة على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، تراوحت بين مؤيد لهذه الصلاحية ومتحفظ عليها ومعارض لها.
ومن منظور حقوقي، يرى الخبير في القانون الجنائي الدولي وقضايا حقوق الإنسان المعتصم الكيلاني أن منح رئيس الدولة هذه الصلاحية، هو خطوة دستورية استثنائية ومؤقتة، تهدف إلى ضمان توازن القوى السياسية، وتحصين العملية الانتقالية من الاضطراب، في ظل ظروف ما بعد النزاع وانهيار البنية المؤسسية السابقة.
علاوة على أنها أداة قانونية، معترف بها خلال المراحل الانتقالية، تهدف إلى تحقيق التوازن بين الحاجة إلى توسيع المشاركة السياسية، وضمان تمثيل مختلف المكونات الاجتماعية والسياسية، وبين الحاجة إلى استقرار مؤسسات الدولة وتجنّب فراغ تشريعي في ظل عدم وجود أحزاب وتنظيمات سياسية، أو ضعف أدائها.
ونفى الكيلاني في حديثه للجزيرة نت أن ينتقص استخدام هذه الصلاحية من حق المشاركة السياسية، ما دامت مقيدة بمدة محددة، ومرتبطة بمرحلة انتقالية واضحة، تنتهي بإجراء انتخابات ديمقراطية حرة ومباشرة.
معتبرا مشاركة الرئيس في اختيار جزء من أعضاء المجلس، إجراء مشروعا وضروريا لتأمين انتقال دستوري سلس، وتحصين مؤسسات الدولة من الانقسام في المرحلة الحرجة.
ويرى مؤيدوا هذه الخطوة أنها تسهم في:
في المقابل، انتقد السياسي السوري وعضو مجلس الشعب المنشق عن النظام السابق عماد غليون الترجمة العملية لبعض مواد الإعلان الدستوري، حيث سجلت الوقائع نقاط ضعف عديدة، كالتباس الصلاحيات الدستورية والقانونية الممنوحة للسلطة المؤقتة، وعدم الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ودمجها في المحصلة تحت سلطة الرئيس.
وتحفظ غليون في حديثه للجزيرة نت على الطريقة التي تم من خلالها تشكيل هيئات ناخبة مصغرة في المناطق، لاختيار أو انتخاب ممثليها، حيث ترك أثرا سلبيا تجلى مع قبول ورفض ترشيح عدد من المرشحين دون أن يخضع القرار لضوابط قانونية واضحة.
ويرى غليون أن ذلك أدى إلى قبول ترشيح شخصيات موالية للنظام البائد، وأبعاد شخصيات ثورية معروفة، الأمر الذي كاد أن يعطل العملية الانتخابية برمتها في بعض المناطق.
وحول الثلث الذي سيعينه رئيس الجمهورية، قال غليون إن بإمكان الرئيس من خلال هذه الصلاحية أن يعيد التوازن لتركيبة المجلس، وتصحيح أي خلل، عبر تعيين شخصيات تسد النقص الحاصل سواء على صعيد الكفاءات أو الخبرات أو التمثيل، وذلك قدر الإمكان.
من جهته، أوضح الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي أن المرحلة التي تمر بها البلاد، تتطلب أن يعبّر مجلس الشعب الجديد عن سلطة الشعب، كركيزة أساسية في النظام السياسي الجديد، وأن يأخذ دوره كأداة مركزية لإعادة بناء الدولة وفق أسس دستورية وقانونية ومؤسساتية حديثة.
وأشار إلى أن عدم فاعلية الكفاءات داخل المجلس، لن يكون مجرد خلل، بقدر ما يشكل تهديدا مباشرا لمسار التحول الديمقراطي.
وبين أن غياب الخبرة التشريعية أو تغليب المصالح الضيقة أو العجز عن صياغة سياسات واقعية، من شأنه أن يؤدي إلى تعطيل الإصلاح المؤسسي، وخلق فراغ قانوني يضعف ثقة المواطنين، ويفتح الباب للفوضى المؤسسية، ويعيق جذب الاستثمار وإعادة الإعمار والاندماج في المجتمع الدولي.
وأوضح الباحث قوشجي في حديثه للجزيرة نت، أنه من المفترض أثناء العمل بآلية الثلث المكمل، ضمان عدم اختلال التوازن أو المسّ بشرعية التمثيل الشعبي، فالتعيين المباشر بصيغته المفتوحة يحمل أخطارا، لكنه قد يقدّم فوائد محددة إذا نُفّذ بضوابط واضحة، مثل:
أما بالنسبة للمخاطر، فلابد -حسب الباحث- من إجراءات للحد منها، تتطلب:
وفي الإطار ذاته، يرى الخبير الكيلاني أنه من المهم النظر إلى هذه الصلاحية، بوصفها مرحلة تأسيسية مؤقتة، لا تتعارض مع مبدأ السيادة الشعبية، بل تمهد له، ونوه بضرورة وجود معايير شفافة للتعيينات تضمن التوازن الجغرافي والاجتماعي، وتمثيل المرأة والأقليات.
وقال إن القانون الدستوري المقارن ينظر إلى هذه الصلاحية، بوصفها آلية مرحلية، لبناء الشرعية التمثيلية، على أن تكون الخطوة التالية -كما ينص الإعلان الدستوري نفسه- إجراء انتخابات حرة ومباشرة، لتشكيل مجلس شعب منتخب بالكامل عبر صناديق الاقتراع.
وخلال فترة حكم عائلة الأسد بين عامي (1970 وحتى 2024) شهدت سوريا 12 دورة انتخابية، كرست حكم حزب البعث، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية المتحالفة معه.
وحسب رأي الخبير المختص بعلم الاجتماع سعيد البني في حديثه للجزيرة نت لم يتمكن أي مرشح مستقل في ظل حكم عائلة الأسد من الفوز بالانتخابات دون موافقة أمنية مسبقة، تؤكد وقوفه إلى جانب السلطة في مواجهة خصومها.
يشبّه الحقوقي السوري المحامي فراس الجمال تعيين الثلث الأخير لمقاعد المجلس، بالثلث المعطل، ويقول إن منح الرئيس سلطة تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب يدفع المؤسسة التشريعية إلى حضن السلطة التنفيذية، وقد يعطل بدوره أي قرار يتخذه المجلس لا ينسجم مع رغباتها.
وعبّر للجزيرة نت عن مخاوفه من أن يضعف التعيين الدور الرقابي للمجلس على أعمال الحكومة ورئيسها، ويحول دون محاسبة السلطة التنفيذية، على أدائها، أو تقصيرها خلال الفترة القادمة، مما يحوله كسابقيه إلى مجلس للتصديق والإقرار.
بدوره، استبعد الفنان التشكيلي أسعد الحداد أن يؤثر الثلث المعين على توازن المجلس، طالما كان الهدف من التعيين معالجة أوجه القصور في التمثيل، أو ترميم النقص في الكفاءات.
وأوضح في حديثه للجزيرة نت أن نتائج الانتخابات عززت أهمية هذه الصلاحية، فعلى سبيل المثال بلغ عدد النساء المنتخبات 6 نساء فقط، وهذا يقلل من فرص مشاركة المرأة في المجلس، في حين تراجع تمثيل بعض الفئات المجتمعية إلى مقعد أو مقعدين، مما يستدعي إعادة تقييم هذه النسب في ضوء الخطوط العريضة التي أقرها النظام لمبدأ التشاركية، ومعالجتها من خلال الصلاحية الممنوحة للرئيس.
من جهته، أكد الناشط المدني حسام الشعار على أهمية المسار الديمقراطي الذي يتبناه النظام الجديد، مشددا على أن نجاح الحياة السياسية في البلاد، وعودة القرار إلى الشعب، يتوقفان على جديته في التعاطي مع مبدأ فصل السلطات.
وأوضح للجزيرة نت، أهمية وجود سياسات هادفة، تضع السلطة التنفيذية تحت أنظار السلطة التشريعية، وليس العكس، لافتا إلى أن تعيين الثلث المتبقي، من شأنه أن يضعف استقلالية المجلس، ويحد من المهام التي تنتظره على أكثر من صعيد.