في 8 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1963 اندلعت رسمياً حرب الرمال بين المغرب والجزائر لتكون واحدة من أقصر الحروب العربية وأكثرها حساسية، إذ لم تستمر إلا بضعة أسابيع لكنها تركت أثراً بالغاً على العلاقات الثنائية بين البلدين لعقود لاحقة.
وجاءت هذه الحرب في سياق سياسي معقد شهدته منطقة شمال أفريقيا بعد استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، حيث لم تُحسم بشكل واضح مسألة الحدود الموروثة عن الاستعمار، مما فتح الباب أمام صدام مسلح بين دولتين جارتين كان يفترض أن يجمعهما التاريخ المشترك في مقاومة الاستعمار الفرنسي.
وقد ظلت العلاقات متوترة بين الجانبين منذ ذلك الوقت، حتى وصل الأمر إلى قيام الجزائر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في أغسطس/آب عام 2021، نتيجة تراكم الخلافات السياسية والأمنية والتاريخية، وأبرزها الخلاف حول الصحراء الغربية، حيث تدعم الجزائر جبهة البوليساريو، بينما يعتبر المغرب الصحراء جزءًا من أراضيه. كما تشمل الخلافات اتهامات الجزائر للمغرب بالتجسس والتدخل في شؤونها الداخلية.
لكن ما هو سبب النزاع الذي أسفر عن حرب الرمال في عام 1963؟
يرجع أصل الخلاف إلى الحقبة الاستعمارية، حيث قامت فرنسا بترسيم الحدود الغربية للجزائر، التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي، بشكل عارضته المملكة المغربية، التي طالبت الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال ببحث مسألة إعادة النظر في هذه الحدود، معتبرة أن منطقتي تندوف وبشار اقتطعتهما فرنسا من التراب المغربي وضمتهما إلى الجزائر. وقد تصاعد هذا الخلاف ووصل إلى الحرب المعروفة باسم حرب الرمال عام 1963.
وقد أشار أحمد طالب الإبراهيمي في الجزء الثاني من كتابه "مذكرات جزائري" إلى أن الحكومة المغربية هي من تسبب في مشكلة الحدود، و"فرضت حرباً" على الجزائر سنة 1963، وحاولت استغلال الظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد، وذلك بهدف السيطرة على بشار وتندوف، بدعوى أن الموقعين كانا في وقت من الأوقات تحت السيادة المغربية، متهمًا المغرب بمحاولة تحقيق "أطماع توسعية"، ومذكّراً بأن هذه الحرب اندلعت مباشرة بعد عودة الملك الحسن الثاني من زيارة رسمية للجزائر.
فيما أشار الدبلوماسي المغربي عبد الهادي بوطالب في كتابه "نصف قرن في السياسة" إلى أن فرنسا قامت أثناء استعمارها للجزائر بترسيم حدود جديدة في الجنوب الغربي، أدت إلى ضم مناطق شاسعة من الصحراء الكبرى، مثل تندوف وبشار إلى الجزائر، رغم أن المغرب كان يعتبرها امتدادًا طبيعيًا لأراضيه التاريخية.
وبعد استقلال المغرب عام 1956، بدأ المغرب يطالب باسترجاع هذه المناطق، لكن "الأولوية آنذاك كانت دعم الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي"، وهو ما جعل العاهل المغربي الملك محمد الخامس يؤجل المطالب الحدودية انتظارًا لحصول الجزائر على استقلالها.
ولكن وقبل استقلال الجزائر، وتحديدًا في 6 يوليو/تموز 1961، وقعت الرباط اتفاقاً مع فرحات عباس، رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، يعترف بوجود مشكلة حدودية بين البلدين، وينص على ضرورة بدء المفاوضات لحلها مباشرة لدى استقلال الجزائر.
وبعد انتصار الثورة الجزائرية عام 1962 وتولي أحمد بن بلة رئاسة الحكومة (قبل انتخابه رئيسًا في سبتمبر/أيلول 1963)، قام الملك الحسن الثاني، الذي تولى الحكم بعد وفاة والده محمد الخامس في عام 1961، بزيارة الجزائر في 13 مارس/آذار من عام 1963، حيث أثار في اجتماعه مع بن بلة الاتفاق الموقع مع الحكومة الجزائرية المؤقتة بشأن وضع الحدود بين البلدين، لكن بن بلة طلب من ملك المغرب تأجيل مناقشة الأمر إلى حين استكمال بناء مؤسسات الدولة الحديثة.
وقد رفض بن بلة لاحقًا أي نقاش حول الحدود، مؤكدًا أن التراب الجزائري كل لا يتجزأ، ومتمسكًا بمبدأ "احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار" الذي تبنته منظمة الوحدة الأفريقية لاحقًا.
وبعد هذه الزيارة، اندلعت حرب إعلامية بين المغرب والجزائر، التي قالت إن الرباط لديها نيات توسعية، فيما رأى المغرب في الاتهامات الجزائرية، المدعومة إعلامياً من مصر بزعامة عبد الناصر، تهديدًا لوحدة البلاد.
وبدأ التوتر يتصاعد، وتبادل الطرفان الاتهامات بالتحرشات العسكرية والاعتداءات على القرى الحدودية.
وفي 8 أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام اندلعت المواجهات المسلحة المباشرة الأمر حيث دارت المعارك في مناطق صحراوية قاحلة يصعب القتال فيها.
وكانت موازين القوى العسكرية تميل نسبياً إلى المغرب، إذ كان جيشه أكثر تنظيماً وتسليحاً مقارنة بالجيش الجزائري الذي كان في طور إعادة البناء بعد حرب التحرير الطويلة ضد فرنسا. ومع ذلك، استطاعت الجزائر الاعتماد على ما اكتسبه مقاتلو جيش التحرير من خبرة ميدانية، إضافة إلى الدعم الخارجي الذي تلقته من مصر بقيادة جمال عبد الناصر، ومن كوبا بقيادة فيدل كاسترو، حيث أُرسلت مساعدات عسكرية وخبراء ميدانيون ساعدوا الجزائر في هذه الحرب.
ولم تكن المعارك على الأرض سهلة على أي من الطرفين، فميدان المعركة كان صحراوياً قاسياً، مما جعل الإمدادات اللوجستية صعبة. وقد حقق المغرب تقدّماً سريعاً في بداية الحرب، إذ سيطر على مواقع استراتيجية في حاسي البيضاء وتنجوب، فيما سيطرت القوات الجزائرية لاحقًا على إيش، وهو موقع مغربي في الصحراء، ووصلت إلى حدود مدينة فكيك المغربية.
ولم يكن الموقف العربي موحدًا إزاء الحرب، ففي حين ساندت مصر الجزائر لأسباب سياسية وأيديولوجية، حاولت تونس وليبيا القيام بدور الوساطة لتجنب تفاقم النزاع، كما تدخلت منظمة الوحدة الإفريقية، حيث سارعت إلى الدعوة لوقف إطلاق النار باعتبار أن استمرار الحرب يهدد السلم الإقليمي الهش في القارة.
وبعد أسابيع من القتال العنيف، قبل الطرفان وقفًا مؤقتًا لإطلاق النار في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1963، تم تأكيده باتفاق وقف دائم لإطلاق النار تم توقيعه في باماكو عاصمة مالي في 20 فبراير/شباط 1964، برعاية الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية.
وقد نص الاتفاق على وقف العمليات العسكرية وإعادة القوات إلى مواقعها السابقة، مع إحالة قضية الحدود إلى لجان تفاوضية مشتركة، غير أن هذا الحل كان مؤقتاً، إذ لم يتم التوصل إلى تسوية نهائية لمسألة الحدود سوى في عام 1972، حين وقع العاهل المغربي الحسن الثاني والرئيس الجزائري آنذاك هواري بومدين اتفاق إفرام لترسيم الحدود بين المغرب والجزائر، لكن لم يُصادق عليه البرلمان المغربي إلا بعد عقود طويلة، وتحديدًا في 15 يونيو/حزيران 1992.
لقد كانت حرب الرمال محطة مأساوية في تاريخ المنطقة، فهي نزاع قصير في مدته لكنه طويل في نتائجه وتداعياته حيث رسخت عقلية الشك والعداء بين بلدين جارين تجمعهما روابط التاريخ والدين واللغة، وبعد أكثر من نصف قرن ما زال صدى تلك الحرب يتردد في الخطاب السياسي، ويُستحضر كلما تأزمت العلاقات بين الرباط والجزائر.
فقد أظهرت هذه الحرب أن الحدود التي رسمها الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا لم تكن مجرد خطوط على الورق، بل كانت ألغاماً سياسية قابلة للانفجار بمجرد استقلال الدول.
كما أن هذه الحرب أضعفت مبكراً حلم بناء اتحاد مغاربي قوي، فبدلاً من أن يشكل استقلال دول المنطقة مناسبة للتكامل والتعاون، تحولت الحدود إلى مصدر للنزاع والقطيعة، وعندما أُعلن عن مشروع اتحاد المغرب العربي في مراكش عام 1989، كان الإرث السلبي لحرب الرمال حاضراً بقوة، إذ ظل انعدام الثقة بين المغرب والجزائر أكبر عائق أمام أي تقدم في مسار الاتحاد.
بل إن تداعيات الحرب مهّدت لاحقًا لانقسام أعمق مع اندلاع نزاع الصحراء الغربية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حيث دعمت الجزائر جبهة البوليساريو في مواجهة المغرب.
وبمرور السنوات، ظلت حرب الرمال حاضرة كمرجع سلبي في العلاقات المغربية الجزائرية، فقد غذّت خطاباً سياسياً يقوم على انعدام الثقة والتوجس، ورسخت في الذهن الجمعي أن الحدود بين البلدين ليست مجرد خطوط جغرافية، بل مصدر نزاع دائم.
ورغم أن البلدين أكدا مراراً التزامهما بمبدأ حسن الجوار، إلا أن آثار تلك الحرب لم تُمحَ بالكامل، وهو ما يظهر جليًا في استمرار إغلاق الحدود البرية منذ تسعينيات القرن الماضي.
وعلى المستوى الدولي، كان للنزاع أصداء واسعة، فالقوى الغربية مثل فرنسا والولايات المتحدة كانت تدعم المغرب، أما الاتحاد السوفيتي فقد حاول الاستفادة من الموقف بدعم الجزائر ضمن إطار الحرب الباردة وسعيه لكسب موطئ قدم في شمال أفريقيا، وقد أضفت هذه التدخلات غير المباشرة على الحرب طابعاً دولياً، رغم أنها بقيت في جوهرها نزاعاً حدودياً إقليمياً.
ومن النتائج المباشرة للحرب أنها عمّقت الشرخ بين المشروعين السياسيين في المغرب والجزائر، فالمغرب الملكي تبنى خطاباً محافظاً أقرب إلى الغرب، بينما تبنت الجزائر بقيادة بن بلة توجهاً اشتراكياً ثورياً أقرب إلى مصر الناصرية والاتحاد السوفيتي، ومن ثم لم يكن النزاع مجرد خلاف حدودي، بل كان أيضاً انعكاساً لاختلافات أيديولوجية عميقة بين نظامين متجاورين.
وهكذا، يكشف تقييم حرب الرمال بعد مرور عقود أنها لم تكن مجرد نزاع حدودي قصير الأمد، بل كانت لحظة تأسيسية في رسم طبيعة العلاقات المغربية الجزائرية، فقد ظل البلدان يعيشان منذ ذلك التاريخ في دائرة مغلقة من التوترات، حيث يتكرر استدعاء الماضي في كل أزمة جديدة.