آخر الأخبار

لماذا يريد بلير "الأبيض" حكم غزة؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

تحملوا عبء الرجل الأبيض

أرسلوا أفضل سلالاتكم

اذهبوا وألزموا أبناءكم المنفى

لخدمة حاجة أسراكم

اخدموهم والجموهم بشدة

فهم قوم مكسورون ومتوحشون

هم شعوبكم المتجهمة التي تم اصطيادها حديثًا،

شعوب نصف آدمية، نصفهم شيطان ونصفهم طفل.

في عام 1899، صاغ الشاعر البريطاني روديارد كِبلينغ قصيدته الأشهر "عبء الرجل الأبيض"، وذلك في إطار سياسي لحث الولايات المتحدة على احتلال الفلبين أثناء الحرب الإسبانية الأميركية، التي انتهت بفرض سيطرة واشنطن على الفلبين وبورتوريكو وجزيرة غوام .

في القصيدة دعا كِبلينغ الأميركيين لحمل العبء الثقيل للإمبراطورية البريطانية، حمل شعلة التنوير ونشر مبادئ الثقافة الغربية، مُحرِّضا إياهم على التوسُّع الإمبراطوري لتحرير الشعوب التي وصفها بالبربرية والتوحُّش.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 الشاهبندر البرّاك.. المبعوث الذي يتاجر بسوريا لا معها
* list 2 of 2 لماذا يدافع رئيس وزراء إسبانيا عن غزة بتلك القوة؟ end of list

من هذا المنطلق، لم تعكس القصيدة الشعور العنصري بـ "التفوُّق العرقي" للرجل الأبيض فحسب، بل ومجَّدت مظاهر السلطة الاستعمارية، التي منحت الدول الإمبريالية تبريرا مناسبا للتوسُّع الإمبراطوري واستعمار الدول الأفريقية والآسيوية.

ويقول عن ذلك المؤلف الفلسطيني عادل سعيد بشتاوي في كتابه "تاريخ الظلم الأميركي"، إن الشاعر البريطاني لم يكن يدرك أن الولايات المتحدة فور أن تحمل عبء الثقافة الغربية الثقيل، ستزيح الإمبراطورية البريطانية نفسها عن عرشها، وتتربَّع هي قوة عظمى وحيدة على العالم.

في نظر كِبلينغ، ثمَّة شعوب عاجزة عن ممارسة السياسة الرشيدة بما يكفي لإدارة شؤونها، وهو مفهوم شاع في عصر الاستعمار لتبرير الغزو وفرض النفوذ من أجل توسيع الحضارة الغربية وقيمها، ثمَّ سرعان ما تحوَّل إلى غطاء سياسي عبر نظام الانتداب والحماية.

اليوم، تتجسَّد هذه الأيديولوجية في شكل "وصاية دولية" تُمارس على الكثير من مناطق النزاع، فيما يُمكن اعتباره امتدادا للاستعمار بصورة جديدة، تتجاوز فكرة السيادة وحق تقرير المصير وتحرم الشعوب منها.

إعلان

في السياق العربي، نُظر إلى العبء الأبيض على أنه امتداد لهيمنة تمارسها القِوى الغربية على مفاهيم الثقافة والحداثة والديمقراطية في المجتمعات غير الغربية. ليست هذه الهيمنة اقتصادية أو سياسية فحسب، بل تمتد إلى الحقل المعرفي، بحيث تُعرَّف "القِيمة" و"المعيار" غربيًا، وتُصبح المعرفة المحلية متأخرة من حيث السبق، ومتلقية من حيث الإضافة.

على سبيل المثال، في كتاب الاستشراق، يُشير إدوارد سعيد إلى أن النص الاستشراقي "يزدهر بالأشكال التي وصفتها صفحات الكتب والمجلات المنشورة بالعربية بتحليلات من الدرجة الثانية يكتبها عرب عن العقل العربي وعن الإسلام". أي أنه حتى الأصوات العربية قد تشارك، بوعي أو دون وعي، في إنتاج فكر تابع يُعيد إنتاج الصور النمطية التي صنعها المستشرقون.

مرَّ أكثر من مئة عام على قصيدة كِبلينغ، ولم تتخلَّ الولايات المتحدة بَعْد عن أيديولوجيتها "الأبوية" الساعية لما تُسميه واشنطن بـ "تحرير الشعوب" عبر فرض الوصاية والاستعمار، رُغم فشلها المرة تلو المرة، وآخرها في حربي العراق وأفغانستان.

ففي 29 سبتمبر/أيلول، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطته لإنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة. نجم الخطة، للمفارقة، هو ذاته الرجل الذي شارك واشنطن غزوها العراق لنشر الحرية في الشرق الأوسط قبل عقديْن: رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير .

أعلن ترامب عن خطته بوصفها حدثا استثنائيا بإمكانه إحلال السلام الأبدي في الشرق الأوسط، فقد اقترح وضع قطاع غزة تحت "الوصاية الدولية"، على طريقة فرض الحماية والانتداب البريطاني القديم، مُعلِنا عن تأسيس هيئة أطلق عليها اسم "مجلس السلام"، يتولى فيها بلير إدارة القطاع في الفترة الانتقالية، على أن يتقلَّد ترامب نفسه رئاسة المجلس.

يعود ترامب إلى منطق كبلينغ، ويصبح الاستعمار تضحية بطولية تستحق جائزة دولية للسلام، حيث تُجبر الأمم البيضاء على إرسال أبنائها ليعيشوا في المهجر من أجل خدمة الشعوب المستعمَرة، وكأنما تلك الشعوب لا تستحق ولا تستطيع أن تكتفِي بنفسها.

مصدر الصورة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير (يسار) والرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن (الأوروبية)

انتهى زمن المبعوث الدولي للسلام والتفاوض، وبدأ زمن الحاكم السامي على المنطقة، الذي تؤول إليه سلطات الأمر الواقع سياسيًا وأمنيًا وكذلك ثقافيًا. هذا التحول الذي يبدو فيه بلير مجرد بداية، سيجر وراءه خيطًا من المتغيرات تضع المنطقة أمام استحقاق في غاية الخطورة.

وقد عقَّب محرر الشؤون العالمية سام كيلي، في مقال نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية يوم 30 سبتمبر/أيلول الماضي، قائلا إن بنود هذه الخطة الماكرة ستُحوِّل قطاع غزة إلى "مُستعمرة" يحكمها ترامب، ويتولى إدارتها توني بلير بوصفه "حاكما"، أما مجلس ترامب للسلام فليس إلا "خدعة استعمارية" تنتهي بفرض المزيد من الهيمنة الإسرائيلية على حياة الفلسطينيين وإرادتهم.

عبء الرجل الأبيض في غزة

في الأيام القليلة الماضية، أثيرت العديد من الشكوك والتساؤلات حول بنود خطة ترامب المُبهمة، ففي الوقت الذي كانت فيه شروط الالتزامات المفروضة على حركة حماس حازمة وواضحة، مثل تسليم جميع الأسرى أحياء وأمواتا في غضون 72 ساعة، ونزع سلاح حركات المقاومة وتدمير الأنفاق، نجد الخطة على الجانب الآخر تتسم بالغموض وغياب الشفافية فيما يخص التزامات الاحتلال الإسرائيلي .

إعلان

فلم يحدد المقترح إطارا زمنيا لانسحاب قوات جيش الاحتلال من غزة، كما تجاهل التطرُّق إلى مستقبل الدولة الفلسطينية، واكتفى بإشارة عابرة عن تنسيق حوار فلسطيني إسرائيلي حول مستقبل غزة، مما جعل البعض يشكك في أن الوصاية الدولية قد تستمر لأجلٍ غير معلوم.

يقول الدكتور محمد السنوسي، أستاذ الدراسات الاستشرافية والشؤون الدولية بجامعة محمد الخامس بالمغرب، إن التاريخ يكرر نفسه ويعيد تدوير حلقات لا تنتهي من المآسي الفلسطينية، بدأت بوعد بلفور عام 1917، مرورا بقرار التقسيم عام 1947، واتفاقية أوسلو عام 1993، وها نحن على أعتاب حلقة جديدة من الوصاية الدولية يتحوَّل معها "الوضع الانتقالي" بمرور الوقت إلى وضع دائم.

وهو ما يشير إليه تقرير سام كيلي، قائلا إن ترامب ومن قبله نتنياهو صرَّحا بأن قطاع غزة سيبقى تحت الوصاية الدولية "حتى" تتمكَّن السلطة الفلسطينية من إثبات جدارتها وفقا للمعايير الأميركية والإسرائيلية.

يعني ذلك أن الوصاية تبقى سارية حتى يتأكد "الأوصياء" من أن الفلسطينيين جاهزون لتسلّم السلطة، ومن ثمَّ يطرح المقترح هنا سؤالا غاية في الأهمية: من يقرر ما إذا كان الشعب الفلسطيني جاهزا لأن يحكم نفسه ويقرر مصيره؟ لقد تُرِكَت مسألة "تقييم" أداء السلطة الفلسطينية للوصي ذاته، أي الولايات المتحدة، وهي بدورها ليست طرفا محايدا في الصراع، بل هي حليف قديم لإسرائيل، وطرف في حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.

أضف إلى ذلك أن الخطة التي جرى الترويج لها تحت غطاء إنساني على أنها خطوة أولى على طريق السلام، ستعمل على فصل غزة عن الضفة الغربية ، مما يحول دون تأسيس الدولة الفلسطينية، ويُفرِّغ القضية الفلسطينية من مضمونها.

كان اقتراح فرض الوصاية على الشعب الفلسطيني بمثابة عودة بالزمن للوراء، إذ يُعيد إلى الأذهان منطق "عبء الرجل الأبيض"، الذي ساد طوال القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، وسعى لتبرير الاستعمار بعدم تحضُّر الشعوب بما يكفي كي تحكُم نفسها بنفسها، مُعتبِرا الوصاية الدولية فترة مؤقتة، يضطلع أثناءها الرجل الأبيض بتجهيز الأعراق الأخرى على مقاييس "الثقافة الغربية"، حتى تصبح مُهيَّأة وجديرة بمنحها حق تقرير المصير.

ويقول عن ذلك عادل بشتاوي في كتابه "تاريخ الظلم الأميركي" إن كِبلينغ "وضع بقصيدة واحدة عبئا بشريا جديدا على كاهل الإنسانية غير البيضاء، وهو عبء الرجل الأسمر أو الأصفر أو الأسود، وإذا كان الرجل الأبيض قد تحمَّل العبء حقا، فهو عبء نقل ثروات بشر الألوان الأخرى إلى بلاده، تاركا وراءه الجهل والفقر والمرض والجوع".

وفي ضوء نظرية "عبء الرجل الأبيض"، وباستعراض سريع لتصريحات نتنياهو وعدد من مسؤولي حكومته، تظهر بجلاء نزعة تفوُّق عرقي اتجاه الفلسطينيين، فقد عكفوا على تجريدهم من إنسانيتهم، ووصفوهم بالحيوانات البشرية، وربطوا أهل غزة بالعماليق، وهم شعب ورد ذكره في الروايات التوراتية وأُمر اليهود بإبادتهم عن بكرة أبيهم، حسب زعمهم.

تلك العلاقة الوثيقة بين العنصرية والاستعمار، كان قد تناولها عن كثب المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، في المجلد السادس من موسوعته عن اليهود واليهودية والصهيونية، قائلا إن المشروع الصهيوني سَعَى لتبني الأفكار والنظريات الأساسية التي بَنَى عليها الغرب الإمبريالي مشروعه الاستعماري، ولذا لم يكن مُستغربا أن يتبنَّى أبناء المشروع الصهيوني مفهوم "عبء الرجل الأبيض".

فقد اعتبر عالم الاجتماع الصهيوني آرثر روبن لفظ "اليهودي" حكرا على اليهود البيض وحدهم، أي الأشكيناز، دون غيرهم من الأعراق، وذلك حتى يتمكَّنوا وفقا للمسيري من المشاركة في المزايا والحقوق التي احتفظ بها الرجل الأبيض لنفسه، بما في ذلك حمل عبئه الحضاري والاستعماري الثقيل.

إعلان

خطة ترامب ليست الأولى

لم تكن خطة ترامب المحاولة الأولى لإرساء السلام في الشرق الأوسط وتسوية الصراع العربي الإسرائيلي عبر الوصاية الدولية، ففي أبريل/نيسان 2003، وبعدما أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن عن "خريطة الطريق" من أجل حل الدولتين بحلول عام 2005، كتب السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل مارتين إندِك مقالا مُطوَّلا بمجلة فورين أفيرز في مايو/أيار طالب فيه بوضع فلسطين تحت الوصاية الأميركية بتفويض من الأمم المتحدة ، إلى حين التوصُّل إلى حلٍّ نهائي بشأن مسألة حدود الدولة الفلسطينية، زاعما أن الوصاية الأجنبية هي السبيل الوحيد لوضع آليات عملية لتنفيذ خريطة الطريق على أرض الواقع.

تضمَّنت خطة إندِك فترة انتداب أميركي، تعمل أثناءها الولايات المتحدة على بناء مؤسسات سياسية ديمقراطية، وسلطة قضائية مستقلة، وصياغة دستور جديد للبلاد، وفي نهاية المطاف تُشرِف على إجراء انتخابات حرة قبل تسليم السلطة للفلسطينيين.

كما نصَّت الخطة على تشكيل قوة عسكرية دولية قوامها 10 آلاف جندي، تشارك فيها دول من بينها بريطانيا وأستراليا وكندا، مُشيرا إلى أنها ستؤدي دورا أشبه بالذي أدّته الولايات المتحدة في أفغانستان عام 2001. وقد حدَّد إندِك إطارا زمنيا لانتهاء الوصاية قدره ثلاث سنوات قابلة للتمديد وفقا لما تقتضيه الظروف والمعطيات.

لم تختلف رؤية إندِك كثيرا عن خطة ترامب المُعلَن عنها مؤخرا، فكلاهما يقضي بأن تتسلَّم سلطة أجنبية إدارة الأراضي الفلسطينية وتصبح الممثل الرسمي لها قانونيا وسياسيا، ومن ثمَّ تتماهى هذه الرؤى مع كل الأيديولوجيات الاستعمارية القديمة، النابعة من سلطة أبوية تفترض أنه ثمَّة التزام أخلاقي على الدول الغربية، لتنظيم شؤون الدول الأدنى منها مكانة والأقل تحضُّرا.

وهو المعنى الجوهري لمفهوم "عبء الرجل الأبيض"، الذي يتجاهل سيادة الشعوب على أراضيها وحقها في تقرير المصير.

كما يضع كلا المُخطَّطَيْن الشعب الفلسطيني أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الوصاية الدولية أو الاحتلال الإسرائيلي، وبهذه الطريقة لا تبدو تلك الخطط وسيلة لإحلال السلام بقدر ما هي أداة للضغط والابتزاز، تستخدم الاحتلال الإسرائيلي فزاعة لترهيب الفلسطينيين وإخضاعهم. وكل هذا يدفعنا للتساؤل عمَّا إذا كانت خطة ترامب للسلام مجرد لعبة تمنح إسرائيل مزيدا من الوقت لتغيير الوقائع على الأرض.

تجدر الإشارة أيضا إلى أن هناك نُسختيْن من الخطة، حيث أكَّد وزير الخارجية الباكستاني محمد إسحاق دار أن الخطة التي أعلنها ترامب تختلف جملة وتفصيلا عن الوثيقة التي اطَّلعت عليها الدول العربية والإسلامية في اجتماعها معه الأسبوع الماضي. فقد أدخل نتنياهو تعديلاته على النص المعلن، وذلك في اجتماع استمر لسِت ساعات وجمع صهر الرئيس جاريد كوشنر، وستيف ويتكوف المبعوث الأميركي في الشرق الأوسط، بحسب ما كشف عنه موقع أكسيوس الأميركي.

مصدر الصورة المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف (يمين)، وجاريد كوشنر، صهر الرئيس دونالد ترامب ومستشاره، لحضور مؤتمر صحفي مشترك بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض يوم 29 سبتمبر/أيلول 2025 (الفرنسية)

ليس من المستغرب إذا أن يكون نتنياهو أول المؤيدين للخطة الأميركية، إذ إنها تُحقِّق له أهداف الحرب المُعلنة التي عجز عن تحقيقها على مدار عامين من التدخل العسكري، وذلك من دون تكبُّد الأثمان الباهظة للقتال.

في الوقت ذاته تمثل الخطة طوق نجاة لإسرائيل في وقت تعاني فيه من عزلة دولية خانقة نتيجة تصاعُد الغضب العالمي جراء حرب الإبادة الوحشية التي تشنها على قطاع غزة، واستخدامها التجويع سلاحا لكسر مقاومة الشعب الفلسطيني.

خطة توني بلير

يعتقد البعض أن سبب اختيار توني بلير لإدارة قطاع غزة في اليوم التالي من الحرب، يعود إلى علاقاته السياسية والدبلوماسية التي جعلته على دراية كاملة بطبيعة الصراعات المعقدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خاصة أنه أدّى لثماني سنوات دور الوسيط بين الطرفين. وهذا صحيح، إلا أنه مجرد عامل واحد من بين عوامل عديدة ساهمت في اختياره.

بعد تنحي رئيس الوزراء البريطاني عن منصبه عام 2007، جرى تعيينه على الفور مبعوثا للجنة الرباعية في الشرق الأوسط، التي تكونت من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بهدف تسوية "المشاكل السياسية" العالقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، تمهيدا لإقامة الدولة الفلسطينية.

إعلان

وحينها نشر مارتين إندِك تقريرا في مجلة فورين أفيرز، حث فيه توني بلير على تبني خطة فرض الوصاية الدولية على فلسطين بصفته مبعوثا للجنة الرباعية، ناصحا إياه بأن تحقيق أي نجاح في منصبه الجديد يحتاج إلى خطة عمل جاهزة وعدة آلاف من القوات الدولية الداعمة.

ويبدو أن بلير أنصت لهذه النصيحة، ففي الأسابيع الأولى من بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، زار بلير الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر من مرة، وبعد عودته كلَّف مؤسسته الشهيرة بصياغة مقترح لإنشاء هيئة بإمكانها الحصول على تفويض من الأمم المتحدة لتغدو ممثلا شرعيا وسياسيا عن القطاع، وذلك تحت اسم "السلطة الانتقالية الدولية لغزة".

مصدر الصورة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير (وسط) يزور القوات البريطانية في البصرة، جنوب العراق، 17 ديسمبر/كانون الأول 2006 (رويترز)

يعني هذا أنه ما إن بدأت الحرب حتى شرع بلير في صياغة خطته الخاصة لفرض الوصاية على غزة. وبوصولنا إلى اللحظة الراهنة، يتضح جليا كيف التقت خيوط الخطط الثلاث، مشروع ترامب وخطة بلير وتصوُّر مارتين إندِك، لحسم مصير غزة بمعزل عن إرادة أبنائها.

ففي خطاب لإعلان خطته الشاملة للسلام في غزة، وصف ترامب السياسي البريطاني الأسبق بـ"الرجل الطيب بلير"، وهو وصف يتماشى مع الصورة التي يريد بلير أن يرسم بها عودته إلى الساحة الدولية والحياة العامة.

وكان كبير أساقفة جنوب أفريقيا المعروف ديزموند توتو قد وصف بلير بأنه قائلا إنه يجب أن يُحاكَم في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لدوره في مقتل مئات الآلاف من العراقيين أثناء حرب العراق. وتتفق معه الكاتبة والصحفية الأميركية بيلين فرنانديز قائلة إن مجرد ذكر اسم بلير في مجلس سلام ترامب، يضفي "بصمة استعمارية" على المشروع كله، متسائلة كيف يمكن لمجرم حرب في العراق أن يصبح صانع سلام في غزة.

ولكن الإجابة بسيطة، إذ إن ثلثي الجمهور الإسرائيلي يرون في بلير صديقا حقيقيا لإسرائيل، كما أنه لا يخفي دعمه الصريح لهم، ففي حرب تموز على لبنان عام 2006، وقف بلير إلى جانب الولايات المتحدة، رافضا وقف إطلاق النار، وصرَّح بأن إسرائيل بحاجة إلى مزيد من الوقت لتدمير قدرات حزب الله .

وفي فترة عمله مبعوثا للجنة الرباعية، لم يُبدِ بلير حيادا في التعامل مع القضية الفلسطينية والفلسطينيين. الأمر الذي جعل الكثير من النقاد يشيرون إلى أن سياساته حينها لم تختلف كثيرا عن تلك التي اتبعها أثناء توليه رئاسة وزراء بريطانيا، والتي توافقت مع الأجندة الأميركية والإسرائيلية.

كل هذه العوامل المثيرة للشكوك والمخاوف، تستحضر في الذاكرة تاريخ حقبة الانتداب البريطاني على فلسطين (1917-1948)، التي سرد تفاصيلها المؤرخ المقدسي الدكتور أحمد العلمي في كتابه "الاجتياح البريطاني لفلسطين"، مُفسِّرا كيف عملت بريطانيا على تهيئة الظروف المناسبة لبلورة الدولة الصهيونية الدخيلة وزرعها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تحقيقا لوعد وزير الخارجية البريطاني بلفور.

ولا يقتصر تاريخ بلير السياسي على الدور الذي أدّاه في تضليل الشعب البريطاني ليعتقد كذبا وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وهو دور أدّاه بجدارة وفقا لما جاء في نتائج لجنة التحقيق البريطانية في حرب العراق برئاسة السير جون تشيلكوت ، التي خلصت عام 2016 إلى أن قرار الغزو كان خاطئا وجاء وفقا لمعلومات استخبارية كاذبة، وإنما يتخطى ذلك لاتهامات أخرى تتعدى السياسة، وفق ما أشار إليه الصحفي البريطاني جوناثان كوك، في ورقة بحثية نشرت خريف عام 2013 في "مؤسسة الدراسات الفلسطينية".

ووفقا لمنتقديه، لم يكن بلير منصفا في تعامله مع الشرق الأوسط، وعلاوة على ذلك، وقد قدَّرت صحيفة فايننشال تايمز دخله السنوي حينذاك بنحو 20 مليون جنيه إسترليني عام 2012.

حيث أسَّس بلير مؤسسة للاستشارات السياسية مقرها العاصمة البريطانية لندن باسم "معهد توني بلير للتغيير العالمي"، حيث استغل شبكته الواسعة من العلاقات، وبدأ في تقديم استشارات سياسية واقتصادية للعديد من الدول في العالم، كما انضم عام 2008 لبنك الاستثمار الأميركي "جيه بي مورغان" استشاريا رفيع المستوى، براتب ضخم.

لكل هذه الأسباب، يمثل وضع غزة تحت وصاية أميركية مباشرة وتحت إشراف توني بلير، أخطر بنود هذه الخطة، التي قال عنها سام كيلي في تقريره السابق الذكر، إنها تضع الموقف الفلسطيني في مأزق، سواء في حالة القبول أو الرفض. فهي تستخدم السلام قناعا يخفي وراءه لعبة سياسية خادعة ومُحكمة للابتزاز والمساومة على وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية لأبناء القطاع.

وفي هذه اللعبة، نجد إعادة الإعمار مجرد أداة للابتزاز، والانسحاب الإسرائيلي مكافأة مشروطة لا حقا أصيلا للفلسطينيين، وبهذه الطريقة يصبح مشروع ترامب مجرد حقل ألغام، وليس خطة للسلام.

هذا هو الفخ الذي تسعى حركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) لتجاوزه، حيث جاء ردها على خطة الرئيس الأميركي يوم 3 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري في شقين.

الأول يثبت حسن النية، بموافقتها على تسليم كل الأسرى أحياء أو أموات، بما يُحقِّق البند الأول، ويضمن وقف العدوان الإسرائيلي على القطاع. أما الشق الثاني من بيان الحركة فقال إن رسم مستقبل غزة مسألة وطنية لا يمكن أن تبت فيها حماس وحدها. وقد أكدت الحركة موافقتها على المقترح المصري، وجدَّدت رغبتها في تسليم إدارة القطاع لهيئة فلسطينية من المستقلين.

على غير المتوقع، رحَّب ترامب برد حماس، ونشر البيان على صفحاته الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي، وهو أمر أتى مُفاجئا بمستوى ما لنتنياهو، خصوصا أنه اعتبر رد حماس بمثابة رفض للخطة الأميركية، بحسب ما كشف عنه موقع أكسيوس الأميركي.

ورغم ما يظهر من قرب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار ومن ثم وقف الحرب بين جيش الاحتلال وفصائل المقاومة، إلا أن الأيام القادمة ستشهد مفاوضات معقدة حبلى بالكثير من التفاصيل التي يريد كل طرف ضمان تحقيقها، ووسط كل ذلك يترقب توني بلير، ومن يقف وراءه، بانتظار ما ستُفضي إليه المفاوضات القادمة، منتظرين دورا إمبرياليا جديدا يتستر وراء اسم جميل، "مجلس السلام".

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا