آخر الأخبار

الرئيس الذي دعا لتحرير فلسطين عبر جيش دولي

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

برز اسم غوستافو بيترو كأول رئيس يساري في تاريخ كولومبيا بعد فوزه بالمنصب عام 2022 ضمن جيلٍ جديد من القادة اللاتينيين الذين ركزوا على مفردات الكرامة والعدالة ومناهضة الطغيان والإمبريالية الغربية.

ورغم أن العديد من دول أميركا اللاتينية شهدت تحولا "يساريا" في حقبةٍ ما من تاريخها المعاصر، مثل فنزويلا وبيرو وتشيلي وبوليفيا وحتى البرازيل، ظل النظام السياسي في كولومبيا خاضعا لهيمنة النخب اليمينية التقليدية حتى صعود بيترو إلى السلطة التي كان عليه أن يخوض غمارها في أحيان كثيرة دون أغلبية برلمانية داعمة، وفي ظل ممانعة كبيرة من النخب الإعلامية والقضائية.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 فرانسوا بورغا.. يحترم حماس ويرى الإسلاميين طليعة مجابهة الاستعمار
* list 2 of 2 لماذا يدافع رئيس وزراء إسبانيا عن غزة بتلك القوة؟ end of list

في شبابه، انخرط بيترو في صفوف حركة "19 أبريل" (M-19)، وهي جماعة مسلّحة رفعت شعار "الكرامة أولًا"، وتلقّى بعض مقاتليها تدريبات إلى جانب "العرب الذين يقاتلون من أجل وطنهم"، وفق ما قاله الرئيس الكولومبي في أحد خطاباته خلال حديثه عن قصة رفيقٍ له يدعى إينان لورا ميندوزا، تلقّى تدريبًا مع منظمة التحرير الفلسطينية في ليبيا، موضحا في ثنايا حديثه أن كفاح حركته والنضال الفلسطيني يتقاطعان في الجذور والمصدر، وملخصًا رؤيته السياسية التي تربط التحرر من التبعية في بلاده بصراعات الجنوب العالمي ضد الهيمنة والاستعمار.

هذا التصريح مثال على خطاب بيترو الذي يُعد أقرب إلى صوت زعيمٍ ثوري منه إلى حديث رئيس دولة كلاسيكي، إذ يطلق تصريحاته بجرأة غير مألوفة في عالم السياسة.

فبعد أن قرّر قطع العلاقات مع إسرائيل العام الماضي، دعا إلى تشكيل جيشٍ دولي لتحرير فلسطين، أثناء مشاركته في مظاهرة بميدان "تايمز سكوير" في نيويورك على هامش مشاركته في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2025، كما دعا الجنود وعناصرَ الأمن الأميركيين إلى تجاهل تعليمات ترامب. ولم تتأخر واشنطن في الرد، فألغت تأشيرة دخول الرئيس الكولومبي إلى أراضيها بذريعة أفعاله المتهورة.

إعلان

جاء هذا التباعد بين بوغوتا وواشنطن ضمن سياقٍ أوسع تَغيرت خلاله نظرة الولايات المتحدة إلى القارة اللاتينية. فقد صوّر خطاب الرئيس ترامب خلال ولايته الثانية أميركا اللاتينية على أنها مصدر للهجرة غير النظامية والجريمة والمخدرات، ومجالٌ لتوسّع الصين ونفوذها الاقتصادي، وعندما سُئل عن طبيعة علاقات بلاده معها، أجاب بلهجةٍ متعالية "هم بحاجة إلينا أكثر مما نحتاج إليهم، ولسنا بحاجة إليهم أصلًا".

وفي مثل هذا المناخ المتأزم، ترسم أفعال وخطابات بيترو حدودا جديدة لعلاقة تعبّر عن رغبةٍ في علاقة متكافئة وندية، لا في علاقة تبعية، حتى وإن جاءت في وقت متأخر قبيل الانتخابات الرئاسية الكولومبية المنتظرة في عام 2026، والتي لن يترشح فيها بيترو بموجب الدستور الكولومبي الذي يحظر على أي شخص تولي مقعد الرئيس لفترتين متتاليتين.

سيرة ذاتية غير تقليدية

تبدو مسيرة غوستافو بيترو منذ بدايتها، كأنها كُتبت خارج القوالب التقليدية للسياسة الكولومبية. فقد وُلدعام 1960 في بلدة سييناغا دي أورو، وهي منطقة صغيرة في ولاية قرطبة شمال غربي البلاد، تُعرف بتربية الماشية وزراعة القطن.

في تلك البيئة الريفية الفقيرة تشكّلت ملامح وعيه الأول، متأثرًا بنمط التعليم الكاثوليكي في مدرسة "لاسال" الوطنية في زيباكويرا، وهي نفس المدرسة التي التحق بها سابقا الروائي الحائز على جائزة نوبل: غابرييل غارسيا ماركيز ، ما جعل أدبه يمثل إلهاما لبيترو.

عند بلوغه سن 17 من عمره، انفتح وعيه السياسي على مشهد بلدٍ يئنّ تحت ثقل الطبقية والعنف السياسي، فانضمّ إلى حركة "19 أبريل"، وهي حركة ماركسية وُلدت من رحم التشكيك في نزاهة الانتخابات الرئاسية المنعقدة يوم 19 أبريل/نيسان 1970، معتبرة أن نتائجها سُرقت من مرشح المعارضة.

انخرطت الحركة في صدام مباشر مع الدولة، وشنت هجمات مدوية مثل احتجازعشرات "الرهائن" في حفل بسفارة الدومينيكان لمدة 61 يوما في عام 1980، كان من بينهم السفير الأميركي في كولومبيا آنذاك، دييغو أسينسيو، ثم اقتحام قصر العدل (مقر السلطة القضائية) في عام 1985، والذي انتهى بمجزرة خلال محاولة القوات الحكومية تحرير الرهائن، إذ قُتل نحو 100 شخص، بينهم 11 من قضاة المحكمة العليا.

ورغم ارتباط بيترو بالحركة، فإنه لم يكن من مخططي أو منفذي تلك الهجمات، إذ انخرط ضمن مسار العمل المدني المعني بتعبئة الأحياء الفقيرة، وكتابة البيانات، وترويج خطاب العدالة الاجتماعية. وقد حمل اسمًا حركيًا هو "أوريليانو" مستوحى من شخصية في رواية ماركيز الأكثر شهرة "100 عام من العزلة". وقد توج عمله المدني في عام 1981، بانتخابه أمينًا للمظالم في بلدة زيباكويرا، ثم عضوا لمجلس المدينة عام 1984.

لكن تقاطعاته مع رفاقه المسلحين، أودت به إلى السجن في أكتوبر/تشرين الأول 1985 (قبل ثلاثة أسابيع على حادثة قصر العدل)، إثر العثور عليه وهو ينقل أسلحة ومتفجرات ومنشورات دعاية متخفيًا بملابس امرأة. وخرج بيترو من سجنه بعد عامين من الاعتقال "أكثر نضجًا"، ليلتحق بمحادثات السلام التي قادت في نهاية المطاف إلى تفكيك حركة "19 أبريل" في عام 1990، لتتحول إلى حزب سياسي شرعي.

إعلان

انتُخب بيترو في العام التالي نائبًا في مجلس النواب الكولومبي، قبل أن يُعيَّن لاحقًا ملحقًا دبلوماسيًا في بروكسل حيث تابع دراساته في البيئة والسكان بالجامعة الكاثوليكية في لوفين ببلجيكا (وهي أقدم جامعة كاثوليكية في العالم)، وذلك بعدما حصل سابقا في كولومبيا على شهادتي البكالوريوس والماجستير في الاقتصاد من جامعة إكسترنادو وجامعة خافيريانا على التوالي.

مصدر الصورة الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية الكولومبية التي أُجريت في بوغوتا، كولومبيا، في 19 يونيو/حزيران 2022 (الأناضول)

عاد بيترو إلى بلاده عام 1996 محمّلًا بخبرة أكاديمية وسياسية جديدة، وانتُخب مجددًا في مجلس النواب عام 1998، وخلال تلك الفترة بدأ يُعرَف كصوتٍ معارضٍ شرسٍ للفساد والحرب الأهلية، مستخدمًا المنابر التشريعية لفضح ارتباط السياسيين الكولومبيين مع الجماعات شبه العسكرية اليمينية وتجار المخدرات.

وفي عام 2006، صعد بيترو إلى مجلس الشيوخ، واكتسب شعبية واسعة بسبب مواجهاته العلنية مع الرئيس آنذاك ألفارو أوريبي، ودعوته إلى إصلاحات دستورية تقلّص نفوذ النخبة العسكرية والاقتصادية بمن فيه شقيق الرئيس الذي حامت حوله بعض الشبهات. وقد جعلت تلك المواجهات منه رمزًا للمعارضة، ومهّدت لترشحه للرئاسة عام 2010، لكنه حلّ في المركز الرابع.

ورغم الإخفاق في السباق الرئاسي، لم تتوقف مسيرة بيترو، بل كانت تجربته التالية أكثر فائدة، حيث أصبح رئيسا لبلدية العاصمة بوغوتا لمدة 4 سنوات من عام 2012 إلى 2015، وهي الفترة التي مثّلت مختبره الأول لتطبيق أجندته السياسية والخدمية. فقد نفّذ برامج اجتماعية لدعم الفقراء، وبنى مدارس وكليات في الأحياء الفقيرة، ووفّر مياهًا مدعومة ومواصلات بأسعار مخفّضة للفقراء، وخفّض معدلات الجريمة والفقر، لكن إخفاقه في تنظيم ملف النفايات أطلق ضده عاصفة سياسية أدت إلى عزله مؤقتًا بقرارٍ من النائب العام.

وعندما أنصفته "لجنة الدول الأميركية لحقوق الإنسان" وأعادته إلى منصبه عام 2014 وألغت الحظر المفروض على توليه المناصب العامة، خرج من التجربة أكثر صلابة وشهرة.

خاض بيترو انتخابات 2018 الرئاسية مجددا، وخسر أمام إيفان دوكي ماركيز، لكن حصوله على 42% من الأصوات منحه موقع المعارض الأبرز في كولومبيا، ومقعدًا في مجلس الشيوخ وفقًا لقانون الانتخابات الكولومبي. خلال هذه الفترة بلور رؤيته التي سماها "سياسة الحياة" وتعتمد على الطاقة البديلة في مواجهة ما اعتبرها "سياسة الموت" التي تعتمد على اقتصاد الوقود الأحفوري.

ودعا إلى بناء اقتصاد أخضر يستبدل النفط والفحم لصالح السياحة والصناعات المعرفية، وأطلق خطابًا يمزج بين العدالة البيئية والعدالة الاجتماعية، ما أكسبه الدعم من المنظمات البيئية والشباب اليساري في أنحاء البلاد، بينما اكتسب خصومة أصحاب المصالح التجارية الأجنبية.

في أغسطس/آب 2022، وصل أخيرًا بيترو إلى القصر الرئاسي، بعد أكثر من 40 عاما على دخوله العمل السياسي، كأول رئيس يساري في تاريخ كولومبيا، على رأس ائتلاف عُرف باسم "الميثاق التاريخي" تَشكل من 15 حزبًا، وشاركته في الحملة الانتخابية الناشطة النسوية والبيئية القادمة من أحياء الفقر والتهميش، فرانسيا ماركيز، التي أصبحت أول امرأة من أصول أفريقية تتولى منصب نائب الرئيس في البلاد.

طرح بيترو وماركيز معا أجندة طموحة: ضمان دخلٍ أساسي، ودعم المنتجات الغذائية الأساسية مثل الأرز واللحوم والبيض، وزيادة الضرائب على الأثرياء والشركات الكبرى، وإصلاح نظامي التقاعد والرعاية الصحية، وتعزيز القوانين البيئية والعمل النقابي. غير أن أكثر قضاياهم إثارة للجدل هي الوعد بإعادة توزيع الأراضي، في بلدٍ يملك فيه 1% فقط من أكبر مزارعيه نحو 81% من الأراضي الزراعية.

إعلان

رأى كثيرون في انتخاب بيترو وماركيز نقطة انعطاف تاريخية في بلدٍ قامت سلطته لعقود على تحالف النخبة الاقتصادية والجماعات اليمينية شبه العسكرية والدعم الأميركي. ومنذ توليه الحكم، سعى بيترو لتكريس ما يسميه "السلام الشامل" عبر المفاوضات مع الجماعات المسلحة، وإعادة صياغة سياسات مكافحة المخدرات على أساس التنمية الريفية، بدلا من المقاربة الأمنية.

ورغم الانقسامات التي عصفت بحكومته عام 2025 واستقالة عدد من وزرائه، بقي بيترو بالنسبة لقطاعٍ من الكولومبيين رمزًا لانتقال الصوت المعارض من الشارع إلى الحكم، في حين ارتبطت شعبيته بسياسته التي وافقت الخطابات التي نادى بها طوال حياته، والتي تمحورت حول إنهاء الفساد، وتحسين الوضع الاقتصادي في البلاد، والحد من عدم المساواة بين المواطنين.

واقع كولومبيا وأزماته

لكن رئاسة بيترو لم تكن مفروشة بالورود، فقد اصطدمت بواقع كولومبيا المعقد وأزماتها المتجذرة. فرغم استقرارها المؤسسي النسبي ومكانتها كرابع أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، تجسد كولومبيا تناقضات القارة الجنوبية، إذ يعيش على أرضها نحو 53 مليون نسمة موزعين على تضاريس شديدة التنوع تمتد من جبال الأنديز غربا إلى السهول المدارية شرقا، ومن صحاري أغواخيرا الشمالية إلى غابات الأمازون في الجنوب والجنوب الشرقي.

هذه الجغرافيا الواسعة مثّلت عبئًا سياسيًا، إذ لم تستطع الدولة أن تفرض حضورها الفعلي على الأطراف النائية التي ظلت لعقودٍ تحت سلطة جماعات مسلحة، وتدار وفق اقتصاد غير رسمي.

مصدر الصورة خريطة دولة كولومبيا (الجزيرة)

لقد بدأت جذور العنف في كولومبيا مبكرًا، مع إرث طويل من الصراعات الطبقية والمناطقية التي تعود إلى القرن 19. ومع ستينيات القرن 20، انفتحت البلاد على طور جديد من النزاع حين ظهرت جماعات يسارية متأثرة بالثورة الكوبية، اتهمت الحكومة بإهمال الريف وتركيز الثروة في أيدي القلة.

من رحم تلك المظالم وُلدت تنظيمات مثل القوات المسلحة الثورية الكولومبية "فارك" (FARC) وجيش التحرير الوطني (ELN)، لتخوض مع الدولة أطول حرب داخلية في نصف الكرة الغربي. وردّت السلطة بتشكيل مليشياتٍ شبه عسكرية تحت ذريعة حماية المزارعين وملاك الأراضي في المناطق الخالية من الأمن الحكومي، لكنها سرعان ما تحولت إلى جيوشٍ موازية، تخدم تحالفاتٍ من النخبة الاقتصادية وتجار المخدرات.

خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن 20، تداخلت الحرب الأيديولوجية مع اقتصاد الكوكايين، فتربّح كل طرف من تجارة المخدرات، وأصبح العنف صناعة قائمة بذاتها. الجماعات اليسارية واليمينية، والجيش النظامي نفسه، دخلوا في شبكة معقدة من التحالفات وتورطوا في المجازر المتبادلة.

وصنّفت الولايات المتحدة قوات "فارك" وجيش التحرير الوطني كمنظمات إرهابية عام 1997، ثم أدرجت "قوات الدفاع الذاتي الكولومبية" (AUC) اليمينية في القائمة نفسها عام 2001، في سياق حقبة ما بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على الولايات المتحدة، والتي غيّرت أولويات الدعم الأميركي من مكافحة المخدرات إلى مكافحة الإرهاب. وشكّل هذا التصنيف غطاءً لبرنامج دعمٍ عسكري أميركي واسع تحت اسم "خطة كولومبيا"، تجاوزت ميزانيته 12 مليار دولار خلال عقدين.

ورغم هذا الدعم، ظلّ الصراع دون حسم، حيث سيطرت القوات المسلحة الثورية الكولومبية "فارك" على أكثر من ثلث أراضي كولومبيا في ذروة قوتها عام 2002. ومع وصول الرئيس خوان مانويل سانتوس إلى الحكم (2010-2018)، بدأت مفاوضات سلام سرّية مع "فارك" انتهت بتوقيع اتفاق سلام تاريخي عام 2016.

ومثّل الاتفاق بداية نهاية أطول حرب أهلية في القارة، لكنه لم يُنهِ منظومة العنف تمامًا؛ إذ استمرت جماعاتٌ منشقة في القتال، وظهرت تحالفات جديدة بين بقايا "فارك" و"جيش التحرير الوطني" وشبكات المخدرات، خصوصًا على الحدود الكولومبية مع فنزويلا للسيطرة على الأراضي المستخدمة في تجارة المخدرات، وأعمال التهريب.

بحلول عام 2022، نشرت لجنة الحقيقة الوطنية تقريرًا يستند إلى شهادات 24 ألف ضحية، قدّر عدد القتلى في النزاع بنحو 450 ألفا بين عامي 1985 و2018، 80% منهم مدنيون، كما أحصى أكثر من 110 آلاف حالة اختفاء قسري، معظمها حدثت على يد المليشيات اليمينية، بينما سجّل 9.5 ملايين شخص أنفسهم كضحايا للنزاع المسلح، 90% منهم نازحون، في شهادة على فشل الدولة في بسط سلطتها على هوامشها الاجتماعية وأطرافها الجغرافية.

إعلان

اليوم، ورغم مرور عقدٍ على توقيع اتفاق السلام، لا تزال مناطق واسعة من الريف خارج السيطرة الفعلية للحكومة. في الشمال الشرقي مثلًا، أدت المعارك منذ مطلع العام الحالي وحتى مايو/أيار بين فصائل منشقة عن "فارك" و"جيش التحرير الوطني"؛ إلى مقتل 117 شخصًا وتشريد 65 ألفًا، وهو ما دفع الرئيس غوستافو بيترو إلى إعلان حالة الطوارئ هناك.

اقتصاديًا، تعاني كولومبيا من فجوات حادة في توزيع الثروة، وبلغ معدل الفقر 32.7% من السكان عام 2023. وتضاف إلى تلك الأزمات؛ الهجرة الفنزويلية الضخمة، إذ تستقبل كولومبيا أكثر من 2.8 مليون لاجئ ومهاجر فنزويلي، مما زاد الضغط على سوق العمل والخدمات العامة، في حين يفتقر صغار الفلاحين الكولومبيين إلى صكوك ملكية لأراضيهم، ولا تزال الملكية مُركزة بين كبار مُلاك الأراضي. هذه التركيبة جعلت من ملف إصلاح الأراضي قلب البرنامج الاجتماعي لحكومة بيترو، ومحور الصراع بين الدولة والنخبة الاقتصادية.

العلاقات مع الولايات المتحدة

تاريخيًا، شكّلت الولايات المتحدة الركيزة الأساسية في شبكة علاقات كولومبيا الخارجية، إذ كانت الشريك التجاري والأمني الأول لعقود طويلة، وكانت كولومبيا الدولة الوحيدة في أميركا الجنوبية التي دعمت الغزو الأميركي للعراق.

وتمتد العلاقات الوطيدة إلى الاقتصاد، فقد بلغ إجمالي التجارة بين البلدين في عام 2024 نحو 54.8 مليار دولار، بينها صادرات كولومبية بقيمة 25.7 مليارا، يتصدرها النفط الخام والذهب والقهوة، وواردات من واشنطن بقيمة 29.1 مليارا تشمل النفط المكرر والذرة والبلاستيك. وتشكل الولايات المتحدة الشريك التجاري الرئيسي لكولومبيا، إذ تستحوذ على 27% من تجارتها، تليها الصين بنسبة 15.6%.

مصدر الصورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب (يمين) والرئيس الكولومبي غوستافو بيترو (الفرنسية)

أبعد من ذلك، كانت بوغوتا الحليف الأمني الأوثق لواشنطن في أميركا اللاتينية، إذ تلقت مساعدات عسكرية وإنمائية ناهزت 12 مليار دولار في إطار "خطة كولومبيا" المشار إليها سابقا، وهي برنامج لمكافحة المخدرات والمساعدة الأمنية بدأ عام 2000. ومن خلال خطة العمل الأميركية الكولومبية بشأن التعاون الأمني الإقليمي، درّب ضباط الشرطة والجيش الكولومبيون أكثر من 50 ألف شرطي من مختلف أنحاء المنطقة بتمويل أميركي خلال الفترة الممتدة من عام 2013 حتى 2024.

ومع تصنيف إدارة بايدن لكولومبيا في عام 2022 حليفًا رئيسيًا من خارج الناتو، توسعت مجالات التعاون العسكري والتقني. إلا أن بيترو، الذي يرى أن سياسات مكافحة المخدرات الأميركية أخفقت في معالجة جذور المشكلة، تبنى سياسة "تنمية الريف" في المناطق المُنتجة للمخدرات، بدلا من التركيز على "إبادة المخدرات"، وهو ما اعتبرته واشنطن انحرافًا عن الخط المتفق عليه منذ عقدين. وبالأخص في ظل وفاة قرابة 22 ألف أميركي بسبب جرعات زائدة من الكوكايين عام 2024، حيث تقدروزارة الخارجية الأميركية أن 97% من الكوكايين في الولايات المتحدة يأتي من كولومبيا، وبالتالي قرر الكونغرس تخفيض حجم الأموال المقدمة إلى بوغوتا.

وفي أعقاب عودة ترامب إلى البيت الأبيض مطلع عام 2025، انتقلت العلاقات خلال أشهر قليلة، من البرود إلى التهديدات العلنية، عقب رفض الرئيس بيترو السماح لطائرات عسكرية أميركية تنقل مهاجرين كولومبيين مرحّلين بشكل مهين؛ بالهبوط، وانتهت الأزمة بتراجع بيترو تحت تهديد ترامب برفع الرسوم على الواردات من كولومبيا إلى 50% وتعليق تأشيرات المسؤولين الكولومبيين، وعرض بيترو إرسال طائرة رئاسية كولومبية لنقل المرحّلين.

ورغم ذلك، أعلنت إدارة ترامب في سبتمبر/أيلول 2025 رسميًا أن كولومبيا "فشلت في الوفاء بالتزاماتها الدولية لمكافحة المخدرات"، مهددةً بحجب المساعدات ووقف مبيعات السلاح، ومنددة بما أسمتها "محاولات الرئيس بيترو الفاشلة للتوصل إلى تسويات مع جماعات الإرهاب المرتبطة بالمخدرات".

وفي المقابل، سعت بوغوتا إلى تنويع علاقاتها وتبني سياسة خارجية أقل انسجامًا مع سياسات واشنطن، فأعاد الرئيس بيترو علاقات بلاده الدبلوماسية والتجارية مع الجارة فنزويلا، والتي قُطعت عام 2019 إثر انضمام كولومبيا إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية في رفض نتائج الانتخابات الرئاسية والاعتراف بزعيم المعارضة خوان غوايدو رئيسا شرعيا لفنزويلا.

كما انضمت بوغوتا في مايو/أيار 2025 إلى مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، وشرعت في تعميق تقاربها مع البرازيل والمكسيك ودول الكاريبي ضمن إطار "مجموعة سيلاك". ورغم ذلك، تبقى كولومبيا مرتبطة بنيويًا بالاقتصاد الأميركي بشكل يجعل الفكاك من هذا الارتباط بعيد المنال، على الأقل في المدى القريب.

الموقف تجاه إسرائيل

وعلى خلاف موقفه من الولايات المتحدة الذي حاول التماهي فيه مع سياسات الحكومات السابقة مع البحث عن استقلالية نسبية، مثّل موقف بيترو من دولة الاحتلال الإسرائيلي قطيعة مع إرث الحكومات الكولومبية السابقة التي رأت في تل أبيب حليفًا في مجالات الأمن والدفاع، وصولا إلى توقيعهما اتفاقية للتجارة الحرة عام 2020.

عبّر بيترو عن هذا التحوّل بوضوح في جملة أصبحت شعارً لنهجه الخارجي: "إسرائيل لا تمثل اليهودية مثلما لا تمثل كولومبيا المسيحية"، فالمسألة بالنسبة له تمثل رؤية أخلاقية وسياسية تعتبر أن دعم الفلسطينيين امتدادٌ طبيعي لتجربته الخاصة في مقاومة القمع.

بدأ الصدام المباشر حين شبّه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت مقاتلي حماس بالحيوانات، وتوعّد بحرمان غزة من الماء والغذاء والوقود. ردّ بيترو حينها بتشبيه تصريحات غالانت بخطاب ألمانيا النازية تجاه اليهود، وهو ما أثار غضب تل أبيب وواشنطن معًا. فاتهمته إسرائيل بمعاداة السامية على لسان وزير خارجيتها، وأعلنت وقف صادراتها الأمنية إلى كولومبيا، بينما اكتفى البيت الأبيض بإدانة تصريحات الرئيس الكولومبي.

كان ذلك التلاسن بداية قطيعة تدريجية قادت في فبراير/شباط 2024، إلى إصدار الرئيس بيترو قرارا بتعليق شراء الأسلحة الإسرائيلية عقب مجزرة قُتل فيها أكثر من 100 فلسطيني أثناء انتظارهم للمساعدات. لاحقا في أبريل/نيسان من العام نفسه، انضمت كولومبيا إلى دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، لتصبح أول دولة أميركية لاتينية تتخذ خطوة قانونية من هذا النوع.

وبحلول مايو/أيار 2024، أعلنت كولومبيا قطعا كاملا للعلاقات الدبلوماسية، لتصبح ثالث دولة في أميركا اللاتينية تتخذ هذه الخطوة بعد بوليفيا وبليز (وهي دولة صغيرة في أميركا الوسطى). وقتها، أطلق بيترو في خطابه بمناسبة عيد العمال عبارته الشهيرة: "إذا ماتت فلسطين، ماتت الإنسانية".

وفي أغسطس/آب 2024، وقّع بيترو مرسوما يقضي بحظر تصدير الفحم الكولومبي إلى إسرائيل، مبررًا ذلك بتغريدة قال فيها إن "الفحم الكولومبي يُستخدم في صناعة القنابل التي تقتل الأطفال الفلسطينيين"، علما بأن هذه الخطوة مؤثرة اقتصاديًا، إذ تغطي صادرات الفحم من كولومبيا أكثر من نصف احتياجات إسرائيل من الفحم المستخدم في توليد الكهرباء، وبلغت قيمتها 450 مليون دولار في عام 2023.

وبعد مرور عام على قطع العلاقات مع إسرائيل، توجت بوغوتا دبلوماسيتها المناصرة للفلسطينيين بافتتاح سفارة في رام الله، وعيّنت أول سفير لها في فلسطين في مايو/أيار 2015. وفي إطار سياسته المناهضة لإسرائيل، لم يتردد بيترو في إدانة الحكومة السابقة لبلاده، كاشفا عن شرائها برنامج التجسس الإسرائيلي "بيغاسوس" للتجسس بشكل غير قانوني على النشطاء خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد عام 2021.

يتسق موقف بيترو مع موقف أغلب اليساريين في كولومبيا، الذين يجدون في فلسطين مرآةً لتاريخ بلادهم، وهو ما عبّر عنه وزير التعليم الكولومبي دانييل ميديلين قائلا "إن أولئك الذين أدانوا مجازر الجماعات شبه العسكرية أو دافعوا عن حياة الفلاحين اتُهموا بأنهم أصدقاء للقوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) وعدم التنديد بالإرهاب"، وهو ما يتكرر اليوم مع حركة حماس، حيث عقب قائلا: "استبدلوا بكلمة فارك؛ حماس، وبكلمة فلاحين؛ فلسطينيين".

لكن التعاطف بين يساريي كولومبيا وفلسطين لا يعزى فقط إلى تشابه "التاريخ النضالي"، حيث يُعتقد أن إسرائيل كانت في الثمانينيات والتسعينيات أحد المورّدين الرئيسيين للسلاح والتدريب العسكري للحكومة الكولومبية والجماعات شبه العسكرية اليمينية.

وغالبا ما يشار بالبنان إلى الضابط الإسرائيلي السابق يائير كلاين الذي درّب "قوات الدفاع الذاتي المتحدة الكولومبية" المتهمة بارتكاب مجازر ضد المدنيين، وحُكم عليه غيابيًا بالسجن 10 سنوات في كولومبيا، ما يجعل تأييد القضية الفلسطينية يتجاوز كونه مسألة تضامن، ليمثل تصحيحا أخلاقيا لتاريخٍ محلي من القمع.

يرى أنصار بيترو أن مواقفه تتسق مع تاريخ طويل من التلاقي بين الحركات التحررية اللاتينية والمنظمات الفلسطينية خلال الحرب الباردة. حينها تَدرب مقاتلو الجبهة الساندينية للتحرير الوطني في نيكاراغوا (الحركة الاشتراكية الثورية التي أطاحت بالحكومة الدكتاتورية أواخر السبعينيات) على يد منظمة التحرير الفلسطينية، وتعاون الثوار اليساريون في معسكرات كوبا وألمانيا الشرقية مع جماعات المقاومة الفلسطينية في مواجهة النموذج الأمني الإسرائيلي الذي ألهم الأنظمة اللاتينية خلال قمع شعوبها.

غير أن مواقف بيترو المناصرة لفلسطين لم تخلُ من أثمان سياسية، فبينما رحبت الحكومة الكولومبية بعشرات الأطفال الجرحى من غزة للعلاج في مستشفياتها العسكرية، تعرض بيترو في الداخل لهجوم عنيف من خصومه الذين اتهموه بتعريض البلاد للعزلة الدبلوماسية وتقويض الأمن القومي بقطع التعاون العسكري مع إسرائيل، وصولا إلى تنظيم مظاهرات أمام المشفى العسكري رفضا لاستقدام جرحى فلسطينيين، وفق ما أورده باحث الدكتوراه بجامعة نيويورك غابرييل دريزين في دراسة نشرها حول دوافع دعم الرئيس بيترو للقضية الفلسطينية.

تحديات داخلية

بشكل عام، واجه بيترو منذ انتخابه عام 2022 واقعًا داخليًا أكثر تعقيدًا مما وعد به خطابه الثوري. فقد جاءت أصوات الناخبين التي حملته إلى السلطة تعبيرًا عن رغبة عميقة في التغيير بعد سنوات من الركود الاقتصادي، والبطالة المرتفعة، والتضخم المتسارع، والقمع الأمني للاحتجاجات.

وقد حاول بيترو أن يترجم هذه التطلّعات إلى برنامج شامل يربط بين السلام الاجتماعي والعدالة الاقتصادية، فأطلق مشروع "السلام الشامل" للتفاوض مع المتمردين، ورفع الضرائب على الأثرياء وشركات التعدين والنفط لتمويل خطط التنمية الريفية.

غير أن ضعف الإدارة العامة وتعقيد البيروقراطية الكولومبية عطّلا تنفيذ كثيرٍ من هذه البرامج، في حين واجهت استراتيجيته البديلة لمكافحة المخدرات تحدياتٍ مالية وتنظيمية كبيرة، حيث قُدرت تكلفتها بنحو 21 مليار دولار على مدار العقد المقبل.

وعلى الصعيد السياسي، تآكل الائتلاف البرلماني الذي أوصله إلى الحكم بوتيرةٍ متسارعة، حيث بدأت الأحزاب المتحالفة معه بالانسحاب تدريجيا احتجاجًا على سياساته "التصادمية"، ليجد نفسه بداية من عام 2024 بدون أغلبية قادرة على تمرير إصلاحاته الكبرى. ولم ينجح من مشروعاته الكبرى سوى الإصلاح الضريبي، في حين تعثرت إصلاحات الصحة والعمل والمعاشات.

وفي ظل هذه الانسدادات، لجأ الرئيس بيترو إلى الشارع، داعيًا أنصاره إلى التظاهر للضغط على المؤسسات، ومهددًا بأنّ تقييد الإصلاحات قد يؤدي إلى ثورة، في مؤشر على تحوله من منطق الحكم التوافقي إلى منطق التعبئة الشعبية.

أما العلاقة مع المؤسسة العسكرية، فظلّت أحدَ أكثر الملفات حساسية، فالرئيس بيترو -القادم من تجربة يسارية مسلحة- لا يزال ينظر بعين الريبة إلى الجيش الذي طالما اتهمه بالتواطؤ مع المليشيات وتهريب المخدرات. في المقابل، يُبدي الضباط تحفظًا على إصلاحاته الأمنية، ويخشون محاولتَه تقليصَ نفوذ المؤسسة العسكرية في رسم السياسات الداخلية.

وتفاقمت التحديات أكثر مع سلسلة الفضائح والتحقيقات القضائية التي طالت محيطه السياسي وعائلته، فقد وُجهت اتهامات قضائية لابنه نيكولاس بتلقي أموال من تجار مخدرات، بينما خضع شقيقه لتحقيقات مشابهة. ومع كل موجة اتهامات، يتحدث بيترو عن "حرب قضائية" تستهدف اليسار في أميركا اللاتينية لإضعاف التجارب التقدمية عبر أدوات القضاء بدلا من صناديق الاقتراع. ورغم عدم ثبوت أي تورط مباشر له في تلك الوقائع، فإنها أضعفت مصداقيته أمام الرأي العام وأعطت خصومه مادة دائمة للهجوم.

ومع تراجع شعبيته إلى مستويات قياسية، وانقسام الشارع المحلي بين من يراه فرصة لتصحيح مسار البلاد ومن يعتبره خطرًا على استقرارها. في غضون ذلك، يبدو الرئيس غوستافو بيترو في شهوره الأخيرة كمن يحاول أن يجعل من كولومبيا منصةً لصوت الجنوب العالمي، وكأنه يرى في مواجهته الداخلية ومناصرته لفلسطين وجهيْن لمعركة أوسع نطاقا ضد الإمبريالية الغربية.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا