دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) —ردت دار الإفتاء المصرية، الخميس، على أسئلة وردتها حول حكم الاحتفال بالمولد النبوي، في سلسلة تدوينات على صفحتها بمنصة إكس (تويتر سابقا) نستعرض لكم إياها فيما يلي:
قلنا: لعلك تقصد بهذا السؤال أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف بدعة منكرة لم يفعله الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم !
والجواب: أن البدعة هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه، أو ما يقصد بالطريقة الشرعية؛ ومن المقرر شرعًا أن علماء الشرع الشريف الذين يعتدُّ بقولهم قسموا البدعة إلى حسنة وسيئة؛ بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من سَنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن سَنَّ في الإسلام سنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا» أخرجه مسلم .
وقوله: «من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تَبِعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا»، وقوله: «من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله» أخرجهما مسلم .
ولو أننا سلمنا جدلًا بأنَّ الاحتفال بذكرى المولد بدعة -مع أنه مشروع بالكتاب والسُّنة وعمل الأمة- فهو بدعة حسنة؛ لأنه يشتمل على أنواع مِن العبادات التي لها أصل في الدين، مثل: الصيام وتلاوة القرآن والذِّكر والمدح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر محاسنه وسيرته الشريفة، وبناءً على ذلك فهو ليس بدعة ضَلالة .
ولقد أحدث الخلفاء الراشدون مثل هذا النوع من البدع الحسنة ففعلوا أمورًا لم يفعلها النبي إلا أنها وافقت الشرع الشريف؛ وتناقلتها الأمة دون نكير؛ ومن ذلك جمع سيدنا أبو بكر الصديق للقرآن الكريم، وجمع عمر بن الخطاب للناس في صلاة التراويح على إمام واحد وقال فيها: "نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ"، وكذلك أمر عثمان بن عفان بالأذان الأول لصلاة الجمعة، وَنَقْطُ الإمام علي للمصحف الشريف، ولا شك أن ذلك كله أقوى من إباحة عمل المولد النبوي، فَلَأَنْ يُباح عمل المولد النبوي بذلك الوجه أولى.
قلنا: لقد تحدثت المذاهب الفقهية الأربعة حول مشروعية الفرح والسرور والمعايدة بكل مناسبة دينية يُقصد بها تذكُّر نعمة الله وشكره عليها، ونحن متفقون على أنه ليس هناك أفضل من نعمة ميلاد النبي وبعثته هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وهي نعمة تستوجب الشكر بلا جدال .
وسنذكر لك طرفًا من أقوال الفقهاء في هذا الصدد على النحو الآتي :
- قال ابن عابدين من الحنفية:(سُمِّيَ الْعِيدُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ لِلَّهِ -تَعَالَى- فِيهِ عَوَائِدَ الْإِحْسَانِ أَيْ أَنْوَاعَ الْإِحْسَانِ الْعَائِدَةَ عَلَى عِبَادِهِ فِي كُلِّ عَامٍ: مِنْهَا الْفِطْرُ بَعْدَ الْمَنْعِ عَنْ الطَّعَامِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَإِتْمَامُ الْحَجِّ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَالنَّشَاطُ وَالْحُبُورُ غَالِبًا بِسَبَبِ ذَلِكَ أَوْ تَفَاؤُلًا، وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ يَوْمِ مَسَرَّةٍ وَلِذَا قِيلَ :
عِيدٌ وَعِيدٌ صِرْنَ مُجْتَمِعَهْ … وَجْهُ الْحَبِيبِ وَيَوْمُ الْعِيدِ وَالْجُمُعَهْ) ا.هــ. حاشية ابن عابدين [2/ 165]. ولا شك أن يوم مولده الشريف صلى الله عليه وسلم من أيام الفرح والسعادة والمسرات .
- وقال الشيخ خليل المالكي صاحب المختصر:(قال ابن عباد في رسائله الكبرى ما نصه: وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم، وكل ما يفعل فيه ما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك،... أمر مباح،... والحكم بكون هذه الأشياء بدعة،... أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة، وتدفعه الآراء المستقيمة) مواهب الجليل [2/ 407].
- وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي:(سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر عن عمل المولد فأجاب... قد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرًا لله تعالى» فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة،... وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء،... هذا ما يتعلق بأصل عمله وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى) تحفة المحتاج [7/ 422].
- ولقد ألَّف الإمام برهان الدِّين أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ مُحمَّدٍ النَّاجِي الحنبلي كتابًا في المولد سمَّاه: "كَنْزُ الرَّاغِبينَ العُفاة في الرَّمْزِ إلى المَوْلدِ المُحَمَّدي والوَفَاة") مختصر الإفادات، لمحمد بن بدر الدين بن بلبان، [ص440].
قلنا: اتفق العلماء على أنه وُلد وانتقل صلى الله عليه وآله وسلم يوم الإثنين، ولكنهم اختلفوا في تحديد تاريخ ميلاده، وانتقاله صلى الله عليه وآله وسلم، وما عليه عمل الأمة سلفًا وخلفًا أنه وُلد صلى الله عليه وآله وسلم فجر يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل، والاحتفال بتلك الذكرى مشروع في ذلك التاريخ من كل عام حتى وإن وافق يوم الإثنين أو غيره من الأيام .